سيدي كامل
هوتام بن محمد المهدي المغربي , وقيل محمد الكامل , صوفي مدني شهير , احد صلحاء المدينة في القرن الرابع عشر , لم يعهده الناس الا بسيدي تام وهي شهرته .
حديث عن المدينة والتصوف فيها
لم انسى منذ طفولتي حديث الذكريات عن المدينة القديمة داخل السور وخارجها واهلها حديثاً حفظته في ذاكرتي الى اليوم كالضباب من معمرين قد ادركتهم وقد رحلوا عنا اليوم وهم بأذن الله في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر , واكثر ما اتذكره حديث جدتي لإمي الجدة ملكه بنت حمزه متروك بنت المدينة السيدة الكبارة بمحرمتها ومدورتها وزيها المدني المتكامل والذي اراه أمامي راي العين , وقد اشتقت له مع دخول الامركه الغربية حتى على ملابسنا , فضلا عن ضياع طباعنا ولغتنا ومصطلاحاتنا , فسبحان الله اين صرنا وكيف كنا , ففي حديث الجدة تتعهد على المدينة المنورة واهلها واحواشها وازقتها ومنه تعهد البيت المدني , ففي الحديث العامي والذي يروى عن طريق القصه وليس ضمن منهج دراسي معقد ,تجد فيه المنفعة والبساطه , حديث خلا من التكلف في العبارات والاصطلاحات المعقدة , ولكنه كان مليئا بالخلق والحكمة والموعظة الحسنة . احاديث وذكريات ملتقطه من افواه بركتنا الذين رحلوا عنا حديث اراه في ساعة الضحى من جميع يوم في مجلس رجال المدينة واسواقها , والحديث نفسه تجده في بيوتات المدينة بين نساءها يجمعهم الافطار والشاهي المديني بنكهاته المتعددة , تجمعهم قلوب خلت من الضغينة حديثاً دافعه معنوي خلا منه الدافع المادي , حديث خلا من الفراغ واكتمل بالادب والحكمة والحنكة , وجلهم قد رحل وحمدت الله على لقياهم , فابنائنا اليوم لم يحظوا بذلك .
أقول : عهدت في حديثهم الحجاز وتاريخه وقدسيته , فالحرمين الشريفين دار الهجرة للكثير من المسلمين والذين وصلوا الى مكة المكرمة والمدينة المنورة يفهمون ويتفهمون, وصلوا فهماء ومهاجرين وطلاب فهم وأخذاوينهلوا من فهماء الحرمين الشريفين الذين توارثوا الفهم كابراٍ عن كابر , فكانت بيوتهم تزج بالقرآن والذكر , فهماء وخطباء ومؤذنين وأولياء وصلحاء وحرفين وعامة الناس , اناساً لم يعهدوا الا حب المدينة ولم يشتغلوا الا بالعبادة وطلب قوت اليوم . ماضي من الذكريات اصبح في صفحات مطوية رحل برحيل اهله وهذه دالت الايام وما زال التاريخ سجلاً على قرطاس اوالذاكرة يروي الذكريات , فمروراً بالدروس النبوية وحلقاتها, والمدارس المدنية وجلواتها, والزوايا الصوفية وخلواتها نقف عند تلك الزوايا الصوفية والحجاز بيت قديما للتصوف لاسيما المدينة فقد ارتبط التصوف بأهل الصفة في المسجد النبوي الشريف , ومن الزوايا التي كانت بالمدينة زاوية ابن علوان , وكانت في حارة ذروان , زاوية الدسوقي , كانت في زقاق الطيار , زاوية الرفاعي كانت في زقاق البدور , زاوية السنوسي كانت في العنبرية بالمناخة , ومقرها مسجد المحررية الذي ازيل في عام 1432هـ , زاوية السعدية ,كانت بالساحة , زاوية السمان , وهي بالدار اللقاءة باب النساء ، زاوية سيدي أحمد البدوي وكانت تجاه باب الرحمة , زاوية سيدي عبدالقادرالجيلاني وكانت في سقيفة الأمير , زاوية شيخ المولوية كانت بالساحة , زاوية الشيخ الصاوي وكانت في حارة الأغوات في زقاق المواليد زاوية القشاشي ,كانت في زقاق القشاشي بمحلة الطيار,زاوية الشيخ الجنيد في حارة ديار العشرة بالقرب من دار سيدنا أبي ايوب الانصاري , وهناك المعروف مبرك ناقة النبي عليه الصلاة والسلام ,وكانت هناك زوايا صغيرة متفرقة حول المسجد النبوي الشريف , وقد ازيلت وهدمت جميع هذه الزوايا فلم يبقى سوى ذكراها فالله المستعان .
هذه دهلزة تاريخية استعين بها لأخط عن رجلاً من رجالات المدينة ومتصوفيها الذي لمع اسمه في القرن الرابع عشر الهجري عهده الرجال والنساء والصبيان , هذا النوع من الرجال النادرين اليوم , واصبحوا في حديث الذكريات , وقد لا يتقبلهم البعض بعد العولمه, رغم فهمي ويقيني بعدم انقطاعهم على مر الازمان الدراويش على قول العامة والمجاذيب عند اهل التصوف .
نطق تعالى : (( إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )) .
نطق النبي صلى الله عليه وسلم :( رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ ) .
نطق البغوي في شرح السنة : نطق معاذ بن جبل : لا يبلغ عبد ذرى الإيمان حتى تكون الضعة أحب إليه من الشرف ، وما قل من الدنيا أحب إليه مما كثر ، ويكون من أحب ومن أبغض عنده في الحق سواء .
ونطق النووي في المنهاج : الْأَشْعَث : الْمُلَبَّد الشَّعْر الْمُغَبَّر غَيْر مَدْهُون وَلَا مُرَجَّل. ونطق أيضاً : مَدْفُوع بِالْأَبْوَابِ : أَيْ لَا قَدْر لَهُ عِنْد النَّاس فَهُمْ يَدْفَعُونَهُ عَنْ أَبْوَابهمْ، وَيَطْرُدُونَهُ عَنْهُمْ اِحْتِقَارًا لَهُ .
نطق القاضي عياض : لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لَأَبَرَّهُ : أى لفضله ، ومنزلته عند الله أنه يجيب رغبته ونادىءه ، ولا يخيب أمله وبره لرجائه وعزيمته في رغبته لربه .
مولده ونسبه
ولد بالمدينة المنورة سنة1303هـ بعدما هاجر والده من الجزائر إليها , وأبلغني الثقات أنه شريفُ حسني من ولد الحسن المثنى بن الحسن بن علي عليهما السلام , هاجر اجداده الى بلاد المغرب, ثم عاد والده الى الحجاز مجاورا وكان من اهل الادب وله مع اهل المدينة مساجلات وجلسات ادبيه.
حليته
كان طويل القامة , نحيف الجسم , قمحي اللون اطلق لحيته وشاربه على غير تهذيب , لا يلبس على راسه عمامه يغطي رأسه بالطاقية , لا يعهده الناس الا بثيابه الرثة وطول شعره وطول اظافره , وذلك الكوت الذي لطالما لبسه في الصيف والشتاء , وعهد بسرعة خطواته على غير انتظام فلا يمشي مستقيماً انما يمشي تارت الى اليمين وتارة الى الشمال , كان صوته جهورياً , سريع الكلام لاتفهم منه الا ما اراد ان يفهمك هو, لسانه لايفتر عن قراءة القران وترديد الاوراد.
دراسته
حفظ سيدي تام القران الكريم , ودرس الفهم على مشايخ ذلك العصر بالمسجد النبوي الشريف فالتحق بحلقة القطب الصوفي الشهير الشيخ احمد الشمس الشنقيطي ودرس عليه تفسير الجلالين , وكان في بداية أمره يفهم الصبيان القران الكريم , ثم تفهم علوم التصوف في زاوية الدسوقي بزقاق الطيار , فواظب على القصد في حضور الخلوات واشتد زهده في طلب الفهم , ودخل في اطوار التصوف, مالكي الممضى , شاذلي الطريقة , فانبتر للعبادة حتى انجذب , والجذب عند اهل التصوف ان هناك اناس مستورون الحال مجهولون الحقيقه لهم سمتهم الخاص وسلوكهم المعروف وهم المشهورون باسم المجاذيب اوالدراويش والناس يختلفون في امرهم بين مصدق لهم وراض عنهم ومنكر لشأنهم ساخط عليهم , وهؤلاء المجاذيب مقسمون على احوال ليس امرهم واحد , لهم أطوار منهم من له حالات دائمه كسيدي تام , ومنهم من حاله متغير له اوقات مختلفه كالمواسم , ومنهم من حاله محدود .
اقول (الشريف أنس ) : والأصلح حتى ندعهم وشأنهم وان لا نعترض طريقهم اونعاديهم فهم لا يقترفون اثما ولا ياتون منكرا ولنهجر امرهم لله وحده فهوالعليم بالظواهر والبواطن
نطق الإمام محمد الباقر عليه السلام : الله خبأ ثلاثه في ثلاثه : رضاه في طاعته وسخطه في معصيته وخبا اولياءه في خلقه .
أقول : فان لله في خلقه شئون فأرض الله لا تخلومن عباده الصالحين في جميع زمان والواجب على جميع مسلم حتى يحسن الظن بأخيه المسلم فأن سوء الظن بالناس مما يوجب سوء الخاتمه والعياذ بالله, لقد اصبح الناس يحتقرون وينبذون امثال هؤلاء الرجال , فتواروا عن مجتمعنا وانبتروا على انفسهم .
تنبيه
اقول (الشريف أنس ) : ولعل حلقة كبيرة جداً مفقودة من حياة سيدي تام لا يفهمها أحد فالرجل قد أنجذب , ولم يكن سيدي تام حالة نادرة بالمدينة اوالعالم بل ان الصالحين والدراويش كانوا موجودين في المدينة المنورة , وهم الى يومنا هذا في كثير من انحاء العالم الا ما خلا من المحتالين الذين التصقوا بهم وشوهوا حقيقة أمرهم .
مشاهير صلحاء المدينة في القرن الرابع عشر
المدينة المنورة كانت ولا تخلوممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فهذا سيدي عاكف بباب المجيدي ومواقفه الشهيرة بالمدينة مع اهلها , وهذا السيد حامد بافقيه وكراماته مع اهل المدينة بالساحة والتي يرويها معاصريه , وهذا السيد حامد محرر وقصصه بحوش الجمال وبباب السلام والمجيدي شهيره , والذي اوقف العقرب بحدثة تمره فقتلها وعهد بالسيد تمره , وسيدي الرشيدي إلى عهداً قريب ليس ببعيد , وغيرهم ممن كشفت لهم الحجب إلا ان الحظوة والشهرة عند أهل المستوى كانت لسيدي تام والذي كان اشهرهم في مواقفه .
حياته وزهده
لقد كان سيدي تام يسكن في بداية امره في زقاق الطيار ثم انتقل بعد ذلك الى حوش التاجوري , ويصف معاصروه , ان بيته كان خلف مسجد سيدنا عثمان المقام اليوم , فلا تراه الا بالنهار سواحٍ يجول المدينة بين حاراتها واسواقها وازقتها , لا تراه الا في الاماكن الا اكتظ بها الناس يترقب ويتحسس , وكانه اتى متيقننن لحدوث امر , عهد عنه جلوسه على سور البقيع وسؤال المارت بجادة الطريق فيجيب بجوابهم إلى من في البقيع ملتفتاً إلى القبور, لقد عهد سيدي تام بزهده وكراماته , فلم يعهد عن هذا الرجل الا الصدق والأمانة ولم يجمع المال يوماً قط فلا يقبل الصدقة ولا الزكاة , ولم يكن موظفاً ولا يُعهد مصدر رزقه والمال الذي في جعبته ليس له فلا تجد مالاً إلا وزعه على المحتاجين والمساكين ولا يبيت هذا الرجل وفي بيته شي من المال أوالطعام , وقد عهد حبه لكسرات الخبز فكان اذا اكل جزءاً من الخبز اعطى الجزء الاخر لاحد الرجال أوالاطفال ونطق له جميع بالبركة , ولا يأخذ المال من أي إنسان إنما يأخذه من أشخاص دون أشخاص ولا يعطي الخبز لاي إنسان كذلك .
شيء من عجائبه
يروي معاصروه من أهل المدينة من رجال ونساء عن أحواله من الغرائب والعجائب, منها : أنه كان يدخل بعض البيوت بدون استئذان أحياناً في عفوية ظاهرة ويقتل عقرب أويطرد داب . ومنها أنه ذات مرة طرق أحد الابواب وبإلحاح شديد عندها فتحت سيدة البيت (الشراعة) وهويقول : أعطني قدر الملوخية , مضىت السيدة الى زوجها وهي ترتجف قائلة له هذا سيدي تام يطلب قدر الملوخية , وهوكيف من الممكن أن عهد أني قد طبخت ملوخيه، قام الرجل بكل قناعة حاملاً قدر الملوخية وقدمه له: فما كان منه إلا ان سكب القدر بجانب الباب ليفاجأ الرجل بتلك العقرب داخل القدر.
ومن قصصه حتى لقيه رجل في أحد الأزقة ، نطق له : ابرم البرمه , دار الرجل حول نفسه نطق له خلاص اتى امضى ولا يهمك ، فوصل الرجل الى بيته فوجد ان زوجته قد وضعت حملها وأنجبت مولوداً .
قصص وقصص وأحداث عن هذا الرجل مما يظن البعض أنها من المبالغة والتكرار والخيال , إلا حتى الشواهد الواقعية التي شاهدها ويشهد بها معاصريه هي التي ايقن منها الناس انه من أهل الله وأحبابه , وانه ولي من الأولياء مكشوف عنه الحجاب وأنه رجل حظى بالبركة .
اقول (الشريف أنس ): لم يختلف أهل المدينة آنذاك على ولايته وبركته , فلم يزل سيدي تام لغز لبعض من عاصره , أومن سمع عنه , ومن أشهر أقوال سيدي كامل : ( اذا التصق سور الحرم بالبقيع فانتظروا الساعة ) .
وفاته
ولم يزل هذا حاله حتى اتى امر الله ليستجيب له فغاب سيدي تام عن إحياء المدينة وشوارعها وحاراتها وازقتها لم يغيبه السقم ولا السفر بل غيبه الموت , وبموته فقدت المدينة أحد اخر اولياءها الصالحين الظاهرين, فكانت وفاته في 10/15/ 1384هـ عن عمر يناهز الواحد والثمانين , عن غير عقب فلم يخلف ذريه ولا مال بل خلف سيرة عطره.
المصادر
- ترجمة مخطوطة زودني بها نسابة المدينة الشريف انس الخطي
ومصادرها :
- القرآن الكريم : الآنفال : الآية 34.
- مسلم النيسابوري : السليم ,4/404,حديث2622 .
- البغوي : شرح السنة , 7/ 307, حديث3964.
- القاضي عياض : اكمال المفهم,8 /103.
- النووي المنهاج شرح سليم مسلم 18/ حديث 7119 .
- ابوحيان التوحيدي ,البصائروالذخائر, 4/ 133.
- علي بن موسى : رسائل في تاريخ المدينة ص53
- علي محمد الحسون: منطق بجريدة البلاد بتاريخ الأحد 7/8/2011م .
- رواية المؤرخ المعمر عبدالله فرج الزامل
- رواية الشريف حسين بن عبدالإله
- راوية المؤرخ أحمد مرشد
- رواية الباحث سعيد طولة راوياً عن الشاعر المدني المعمر حسن صيرفي رحمه الله وغيره .
