الأدب الفرنسي من القرن السابع عشر

عودة للموسوعة

الأدب الفرنسي من القرن السابع عشر

لويس الرابع عشر، ملك فرنسا ونافار بريشة هياسنت ريگو(1701)
الأدب الفرنسي
بالتصنيف
تاريخ الأدب الفرنسي

العصور الوسطى
القرن السادس عشر - القرن السابع عشر
القرن الثامن عشر -القرن التاسع عشر
القرن العشرون - المعاصر

كتـّاب الفرنسية

قائمة زمنية
كتـّاب حسب تصنيفهم
روائيون - كتاب مسرحيات
شعراء - كتاب منطقات
كتاب السيرة القصيرة

بوابة فرنسا
بوابة الأدب
     

الأدب الفرنسي من القرن السابع عشر كـُتِب طوال Grand Siècle في فرنسا، الذي ضم عهود هنري الرابع من فرنسا، ووصاية ماري دى مديتشي، لويس الثالث عشر من فرنسا، ووصاية آن من النمسا (والحرب الأهلية المسماة فروند) وعهد لويس الرابع عشر من فرنسا. أدب تلك الفترة كثيراً ما يـُساوى بكلاسيكية العهد الطويل للويس الرابع عشر، والذي خلاله قادت فرنسا أوروبا في التطور السياسي والثقافي؛ واستطرد كتـّابه في المُثـُل الكلاسيكية للنظام والوضوح والتناسب والذوق السليم. في الواقع، ضم الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر أكثر كثيراً من مجرد الأعمال الكلاسيكية الكبيرة لكل من جان راسين ومدام دى لا فايت.


عصر ريشيليو

بعد حتى جمع ريشليوالشعراء والأدباء في الأكاديمية الفرنسية وسيج من حولهم، نظر بعينه اليقظة إلى الصحفيين. ففي مايو1631 بدأ تيوفراست رينودو، بمعونة من الكردينال، نشر أول صحيفة فرنسية سميت فيما بعد »گازيت دوفرانس«. وكانت تظهر أسبوعياً في هيئة فرخ يطوي ثماني صفحات، وتنشر من الأنباء الرسمية ما يسمح به ريشليوأويمدها به، وأضافت بعض صفحات من »الأخبار العادية«. وكان لويس الثالث عشر من كتابها المألوفين. ورد فيها على ناقدي الحكومة ودافع عن نفيه أمه، وكان أحياناً يأخذ الفقرات التي يخطها بشخصه ليشرف على صف حروفها، ولا عجب فالمرء -حتى إذا كان ملكاً-يستهويه حتى يجد كلامه مطبوعاً. وكانت الصحافة الفرنسية منذ بدايتها أداة نادىية- وفي هذه الحالة وسيلة لشرح سياسات الدولة للقلة القارئة. وسرعان ما فقد الناس ثقتهم في الغازيتة وفضلوا حتى يشتروا الورقات البذيئة التي يبيعها في الطرق أجراء أعداء الكردينال. أما أروج نتاج العصر الأدبي فسيرة رومانسية. كانت روايات الفروسية آخذة في الزوال، لا لمجرد تهكم سرفانتس وغيره من الكتاب عليها، بل لأن الاقطاع الذي خضع الآن للملكية، كان يفقد المزيد من امتيازاته ومكانته. وحل محل قصص الفروسية أيام ازدهارها روايات رومانسية أليمة عن الرغبة المعوقة. إلى غير ذلك قرأ جميع من ألم بالقراءة وملك الفراغ في عهد لويس الثالث عشر رواية »آستريه« (1610-19) التي ألفها أونوريه دورفيه. أما عبقرية المؤلف فانبعثت من جرح أصاب حبه. ذلك ان زوجته، التي سميت ديانا بحق، آثرت عشرة الصيد على عشرة الزواج، فكانت تؤكل كلابها على مائدتها وتشاركها فراشها. وكانت تجهض جميع سنة(124). وأعتكف أونوريه في ضيعته وأخفى سيرته الحزينة وراء رواية رومانسية رعوية. وقد عثر دواء الكلام هذا ناجعاً، فزاد روايته إلى 5.500 صفحة في خمسة مجلدات صدرت على فترات من 1610 إلى 1627. وفي سيرة غرام الراعي كيلادون بالراعية آستريه نسمع صدى لا نهاية له لسيرة مونتماريو»ديانا العاشقة« وقصتي سانازارووسدني »أركاديا«، ولكن الصدى كان هنا شجياً، وكان للرعاة والراعيات جميع جمال البلاط الفرنسي وزينته، وحققت اللغة جميع مطالب ندوة الأوتيل درامبوبيه، ونافست تجارب العشق المتنوعة تجارب هنري الرابع، وأبهجت عبادة المرأة ربات الصالون اللائي جعلن الكتاب دستور سلوك الحب الأفلاطوني. هنا ذلك الينبوع الفوار الذي جرت منه الرومانسيات العاطفية التي خطتها الآنسة سكودري، والأبيه بريفوست (انطوان بريفوست دجسيل)، وصموئيل رتشاردسون، وجان جاك روسو-الذي صرح بأنه كان يقرأ الكتاب مرة جميع عام طوال أكثر حياته. وظل سادة القصور الفرنسية والألمانية والبولندية وسيداتها، قرابة قرن من الزمان، يتخذون أسماء »لاستريه« ويلعبون أدوارها، وكرس نصف النثر المكتوب في فرنسا نفسه للرومانس.

أما النصف الآخر فاشتمل على بعض النثر الجدير بالذكر. فكانت »رسائل« جان لوي جي دبالزاك (1614 وما بعدها) في حقيقتها منطقات، قصد بها حتى تعجب »المتحذلقات«، وشاركت فوجيلا وماليرب في تنقية اللغة، وساعدت على إعطاء النثر الفرنسي شكل العصر الكلاسيكي ومنطقه... أما بيير دبوردبي دبرانتوم، الذي عاش حياة مرحة في الجيش والبلاط، فقد هجر عند موته (1614) حزمة من المذكرات تفصل في ذوق غراميات النساء الفرنسيات، وفضائل كاترين مديتشي، وجمال ماري ستيورات، وظرف مارجريت فالوا، ومن المؤسف حتى أروع قصصه لا يمكن التحقق من صحة نسبتها إليه. وكان يرى »أنه لا يحسن بالمرء حتى يشيخ وهوفي ذات الجحر، وما من إنسان شجاع عمل هذا قط، وعلى المرء حتى يغامر بجرأة في جميع النواحي، في الحب كما في الحرب«. وفي لحظة أكثر حكمة اعترف بأن »أعظم ما ينعم الله به علينا في زواجنا هوالذرية الصالحة لا التسري«... وأما جاك أوجست دتو، القاضي ومستشار الدولة أيام صديقه هنري الرابع فقد ساعد في صياغة مرسوم نانت والمفاوضة على إصداره، وكرس نصف حياته لكتابة »تاريخ عصره« (1604-8)، وهوكتاب يتميز بعمق الدرس، وبالحياد والشجاعة في دمغ مذبحة القديس برتلميولأنها »تفجر للجنون لا نظير له في تاريخ أي أمة«... وألف الدوق صلى، في شيخوخته وبمساعدة سكرتيره، كتابه المشهور »مذكرات عن الاقتصاديات الداخلية والسياسية والحربية، الحكيمة، الملكية، لهنري الأكبر، الذي أهداه »إلى فرنسا«، وإلى جميع الجنود الطيبين، وإلى جميع الشعب الفرنسي«. وفي آخر سني لويس الثالث عشر بدأت جماعة من اليسوعيين الفلمنكيين يتزعمهم جان دبولان نشر كتاب »اكتا سانكتورم« (أعمال القديسين) الذي أورد في نقد حذر سير القديسين حسب الترتيب الذي تخلهم به الكنيسة الكاثوليكية. وتابعت الجماعة هذا الجهد في حماسة على الرغم مما اعترى جمعية اليسوعيين من غير، حتى بلغت مجلدات الكتاب خمسة وستين عام 1910. وأحتج عليه بعض مروجي الأساطير، ولكن الكتاب مفخرة لفهم أعظم الطوائف الدينية تفقها. وأخيراً يجب حتى ندرج في هذه القائمة للمرة الثانية ذلك الرجل المدهش كلي الوجود، ريشيلو، الذي غمس قلمه في جميع ينبوع أدبي وهجر لنا »مذكراته« - وفيها شيء من التحيز للكردينال، ولكن مكانها رفيع في ذلك الرتل الرائع من المذكرات الفرنسية التي لا ضريب لها في أي لغة اخرى. ولم يكثر صغار الشعراء مثل هذه الكثرة من قبل. فما زال الفرنسيون الأوفياء يقرءون، ولوفي المدارس، تيوفيل دفيو، وفنسان فواتور، وأونورا دبويل، مركيز راكان. وقد جعلت غراميات تيوفيل الإباحية وشكوكه الفاضحة منه »فيون« عصره، وقد حكم عليه بالحرق ثم خفف الحكم إلى النفي. أما ذكاء فواتور المرح فقد جعله أكبر ظرفاء الأوتيل درامبوييه (وقد أوشكنا حتى نقول أكبر ساخريه). وحين وعظ بوسويه وهوبعد في الثانية عشرة من عمره ذلك الصالون في منتصف الليل، نطق فواتور أنه لم يسمع في حياته عظة تلقى مبكرة متأخرة كهذه.

وشرف هذه العهود الملكية شاعران كبيران. أما فرانسوا ماليرب فقد شرح المبدأ القائل بأن واجب جميع عصر حتى يرفض الماضي ويعكسه لكي يستمتع بنفسه. وكان رونزار العظيم لا يزال يغني في شباب ماليرب، وكان هووجماعة البليارد قد هذبوا الشعر الفرنسي بتوجيهه صوب المثل والموضوعات الكلاسيكية، ولكن خلفاءهما كانوا الآن يهدهدون فرنسا وخليلاتهم بسونيتات حافلة بالألفاظ الأثرية، والعبارات الخيالية، والشحطات الإيطالية، والتقديمات والتأخيرات السقيمة، والتلميحات الغامضة، والأساطير العويصة. واستقر رأي ماليرب على حتى الشعر الفرنسي قد أتخم بهذا كله.

وقد تفهم هذا الشاعر، الذي ولد في كان (1555)، في بازل وهايدلبرج، وأنفق سنوات في الأسفار، وكان قد بلغ الخمسين حين وصل إلى البلاط الفرنسي. وقد شق طريقه اليه برغم وقاحاته وكفرياته، وأصبح الشاعر الأثير لدى هنري الاكبر، ولكن هذا على أي حال اعطاه »من التحيات أكثر مما أعطاه من المال(125)«. وعاش يبيع شعره لمن يدفع أغلى الاثمان، وروج لبضاعته بالإطاحة بمن سبقوه. فقد أعرب الحرب - كما أعربتها متحذلقات صالون رامبوييه - على الألفاظ التي تشتم منها الحلافة الريفية أوعمليات البدن الأقل شاعرية، فحرم التقديمات والتأخيرات، والألفاظ الغامضة، والتعبيرات العامية، والحدثات الريفية والغسقونية (شق على هذا الملك) والحشو، وتنافر النغمات، واللحن، والدخيل واللاتيني والفني من الالفاظ، والجواز الشعري، والقوافي الناسيرة. ونطق إنه يجب حتىقد يكون منذ الآن جلال في الافكار، وبساطة ووضوح في التعبير، وتوافق في الايقاع، واتساق في الاستعارات، وترتيب في العرض، ومنطق في العبارة، والكتابة الجيدة يجب تنشر عبيرها وأن ترتاح لها الأذن، والتقاء الحرفين الصوتيين جريمة سمعية، وسقم تنفسي. وكان ماليرب يجرب أشعاره على آذان خادمه(126). فلنستنشق عبير إحدى قصائده - وهي »تعزية«، وجهها لصديق فجع بموت ابنته: »ولكنها كانت ربيبة هذه الدنيا، حيث تنتهي أجمل الاشياء أتعس نهاية. وردة عاشت كما تعيش الورود، إشراقة صبح ... إذا للموت أحكاماً لا شبيه لها، وعبثاً نتوسل إليه، فهذا القاسي يصم أذنيه ويهجرنا نصرخ. يخضع لناموسنا الفقير في كوخه الحقير، ولا يقف الحارس الساهر على أبواب اللوفر سداً بينه وبين ملوكنا(127)«.

على حتى تطبيق ماليرب كان أقل فاعلية من مبادئه؛ وعانت أشعاره برودة الصقيع من قواعده ولم يرجى دبالزاك في شعر ماليرب إلا نثرا جيداً، وكان يحاول في ذلك الوقت إصلاح النثر. ولكن الأوتيل دارمبوييه احتضنه، واعتنقت الأكاديمية مبادئه. وورثها بوالوأساساً للأسلوب الكلاسيكي، وقد أصبحت مدى قرنين قميصاً مقدساً صارماً من شعر وزرد يلبسه شعراء فرنسا الغنائيون. وانتفخ ماليرب في شيخوخته حتى أصبح إماماً حقيقياً للشعر، وحجة يستفتى في مسائل اللغة والاسلوب؛ وحياه بعض المعجبين بوصفه »أبلغ إنسان في جميع العصور«. وقد وافق على حتى »ما يخطه ماليرب سيخلد إلى الابد(128)«. وحين كان على فراش الموت (1628) أيقظ نفسه من غيبوبته الاخيرة ليوبخ مسقمته على استعمالها فرنسية غير سليمة(129). أما ماتوران رينييه فقد رأى فيه شاعراً مملاً، وتجاهل قواعده، وأطلق الشعر كما أطلقه فيون بخارا مندفعاً من حر المواخير. هذا الرجل الذي نذر للقسوسية ضيع نفسه في فينوسبرج حتى شاخ، وشاب قرناه وهوبعد في شرخ شبابه. ففي الحادية والثلاثين عجزه النقرس والزهري. وكان لا يزال يجد »كل امرأة تروقني«، ولكنهن كن أكثر منه تأنقاً في الاختيار. وقد خط بعضاً من أقوى الشعر في اللغة، فيه حديث مستهتر عن الجنس، وهجووحشي، ومباراة مع هوراس في الشكل ومع دوفينال في المرارة، وحركة تزخر بالأشخاص أوالأماكن بما يحس أويرى. وقد هزأ بصفائية »المتحذلقات« اللغوية وصرامة ماليرب الكلاسيكية، وبدا له حتى الحرارة المشبوبة من شعلة باطنة أبرز للشعر من التمسك بأصول النحووالبلاغة والعروض. هنا في فجر العصر الكلاسيكي نشطت الرومانسية. حتى الفهم والفلسفة نالا منه ما يستحقان من قصاص وتوبيخ على تبجحاتهما:

»أيها الفلاسفة الحالمون، تحدثوا في استعلاء، وحلقوا في النجوم وأنتم لا تتحركون من الارض، واجعلوا السماوات كلها ترقص على لحنكم، وزنوا أحاديثكم في ميزانها ... واحملوا مصباحاً في زوايا الطبيعة ...واعهدوا من يعطي الزهور هذا اللون البديع ... وحلوا ألغاز الأرض والسماء، إذا عقلكم يخدعكم كما تخدعكم عيونكم(130)«. وفي عام 1609 أصبح شاعر البلاط لهنري الرابع. وبعد أربع سنوات توفي وقد أضناه فسقه المشجي، بعد حتى خط قبريته. »لقد عشت دون ما تفكير، تاركاً نفسي أسير في رفق ووفق قانون الطبيعة الطيب، ولا أدري لم يفكر الموت فيّ، وأنا الذي لم أتنازل إلى التفكير فيه(131)«.


أوج الكلاسيكية في الأدب الفرنسي 1643 - 1715

لم يكن أوج الأدب الكلاسيكي الفرنسي مواكباً تماماً لعصر لويس الرابع عشر، بل اتى إبان وزارة مازاران وفي الربيع المشرق لهذا العصر (1661-67)، قبل حتى ينحي مارس (إله الحرب) ربات الفنون إلى المؤخرة. أما أول حافز للتفجر الأدبي فقد انبعث من تشجيع ريشليوللدراما والشعر، واتى الثاني من الفوزات الحربية التي حققها الفرنسيون في روكروا (1643) ولنز (1648)، وأنساب الثالث من فوزات فرنسا الدبلوماسية في معاهدتي وستفاليا (1648) والبرانس (1659)، وأتى الرابع من اختلاط الأدباء بالنبلاء والمثقفات من النساء في الصالونات، والحافز الأخير فقط هوالرعاية التي حظي بها الأدب من الملك والحاشية. وكثير من روائع العهد-كرسائل بسكال (1656) وخواطره، وطرطوف موليير (1664) ومسرحية وليمة التمثال الحجري (1665) ومبغض الشر (1666)، وأمثال لاروشفوكو(1665) وهجائيات بوالو(1667) وأندروماك راسين (1667)-هذه كلها خطت قبل 1667 بأقلام رجال نموا وترعرعوا أيام ريشليوومازاران.

ومع ذلك كان لويس أسخى راعٍ للأدب عهده التاريخ كله. فما مضت سنتان على تسلمه منطقيد الحكم (1662-63)-أي قبل هذه الآثار الأدبية كلها باستثناء اثنين منها-حتى طلب إلى كولبير وغيره حتى يكلفوا أشخاصاً أكفاء بوضع قائمة بأسماء المؤلفين والأدباء والفهماء من أي بلد ممن يستحقون حتى تقدم إليهم يد المعونة. ومن هذه القوائم تلقى خمسة وأربعون فرنسياً وخمسة عشر أجنبياً معاشات ملكية(1). وأدهش الأديبين الهولنديين هاينسيوس وفوسيوس، والفيزيائي الهولندي كرستيان هويگنز، والرياضي الفلورنسي ڤيڤياني، كثيراً غيرهم من الأجانب، حتى يتلقوا رسائل من كولبير تنبئهم بقرار الملك الفرنسي حتى يمنحهم معاشات إذا وافقت حكوماتهم. وبلغ بعض هذه المعاشات ثلاثة آلاف من الجنيهات في العام. فعاش بوالوعميد الشعر الرسمي، على معاشاته كأنه إقطاعي كبير، وهجر لورثته 286.000 فرنك نقداً، وتلقى راسين 145.000 فرنك طوال عشر سنين بوصفه المؤرخ الملكي(2). ولعل المعاشات الدولية كان بعض الدافع إليها الرغبة في كسب أرباب الأقلام خارج فرنسا، أما الهبات في الداخل فهدفها إخضاع الفكر، كما أخضعت الصناعة والفن للتنسيق والإشراف الحكوميين. وتحقق هذا الهدف، فأخضع النشر كله لرقابة الدولة، وأذعن الذهن الفرنسي للإشراف الملكي على تعبيره المطبوع، باستثناء مقاومة متفرقة ضئيلة. يضاف إلى هذا حتى الملك اقتنع بأن هذه الأقلام المأجورة ستتغنى بمديحه نثراً وشعراً وتخلف للتاريخ صورة مشرقة له. وقد بذلوا في هذا قصاراهم.

ولم يكتف لويس بصرف المعاشات للأدباء، بل إنه حماهم واحترمهم، وحمل مقامهم الاجتماعي، ورحب بهم في القصور. ونطق مرة لبوالو"تذكر أنني سأفرد لك دائماً نصف ساعة من وقتي(3)". وربما كان ذوقه الأدبي مسرف الانحياز إلى الخصائص الكلاسيكية، خصائص النظام، والوقار، وجمال الشكل؛ ولكن هذه الفضائل لم تكن في رأيه معينة على توطيد الحكم فحسب بل على إضفاء النبل على فرنسا. وكان من بعض الوجوه متقدماً على شعبه وبلاطه في أحكامه الأدبية. وقد رأيناه يحمي موليير من غدر النبلاء ورجال الدين، وسنراه يشجع أشد شطحات راسين.

وعملاً باقتراح آخر من كولبير، وترسماً لخطى ريشليومرة أخرى، أعرب لويس أنه الراعي الشخصي للأكاديمية الفرنسية؛ وحملها إلى مرتبة المؤسسات الحكومية الكبرى، ووفر لها الأموال الكافية، وهيأ لها مكاناً في اللوفر. وأصبح كولبير نفسه عضواً فيها. ولما أمر عضو، كان إقطاعياً كبيراً في الوقت ذاته، بأن يوضع له مقعد وثير في الأكاديمية، أوفد كوليير في طلب تسعة وثلاثين مقعداً على شاكلته حفاظاً على المساواة في الكرامة قبل الفوارق الطبقية، إلى غير ذلك أصبحت "المقاعد الأربعون" مرادفاً للأكاديمية الفرنسية، وفي 1663 نظمت أكاديمية فرعية للنقوش والرسائل لتسجيل أحداث العهد.

واستوثق كوليير من حتى "الخالدين الأربعين" يكسبون رواتبهم بالانتظام في الحضور وبالجهد في تصنيف القاموس. وكان مشروع هذا القاموس الذي بدأ في 1638 يتقدم في بطء شديد، حتى استطاع بواروبير حتى يعبر أبجدياً عن أمنيته في طول العمر، "لقد أنفقوا ستة شهور وهم مشغولون بحرف F، فليت قدري يمهلني حتى حرف G(4)".

كانت خطة القاموس معقدة شديدة التفصيل، فقد رأت تتبع جميع حدثة مسموح بها طوال التاريخ استعمالاتها وهاتىاتها، ويشفع هذا بالكثير من الشواهد التوضيحية، إلى غير ذلك انقضت ست وخمسون سنة بين بدء مشروع، ونشر القاموس لأول مرة (1694). ولقد أسرف في فحص لغة الشعب، والمهن، والفنون، وشذب رابليه، وآميو، ومونتن، ورفض مئات التعبيرات التي تعين على الحديث الحي. فذات المنطق، والدقة والوضوح الذي جعل من الهندسة المثل الأعلى لفهم القرن السابع عشر وفلسفته، وذات السلطان والانضباط اللذان هيمن بهما كولبير على الاقتصاد ولبرون على الفنون، وذات الوقار والتأنق اللذان سيطرا على بلاط الملك، وذات التشبث الكلاسيكي بالقواعد الذي شكل أسلوب بوسويه، وفينيلون، ولاروشفوكو، وراسين، وبوالو- جميع أولئك أملى قاموس الأكاديمية.

ولقد نقح وأعيد نشره دورياً، وكافح للاحتفاظ بالنظام في جسم نام حي، وهاجمت قلعته الكلاسيكية المرة بع المرة، وكثيراً ما اقتحمتها، أخطاء الشعب، ومصطلحات العلوم، ورطانة الحرفيين، وعامية الشوارع؛ والقاموس، شأنه شأن التاريخ والحكومة، مزاج من القوى بين ثقل الكثرة وقوة القلة. وقد خسرت اللغة شيئاً من حيث الحيوية، وكسبت الكثير من حيث النقاء، والدقة، والأناقة، والمكانة. أنها لم تنجب شكسبيراً هائجاً مائجاً، ولكنها أصبحت أعظم لغات أوربا احتراماً، وغدت أداة الدبلوماسية، ولسان الأرستقراطيات. وظلت أوربا قرناً وأكثر تهفوإلى حتى تكون فرنسية.

تذييل لكورني 1643 - 1684

بلغت اللغة أوجها في السهولة المرنة التي أتسم بها محادثة موليير، وفي بلاغة كورنيي الطنانة، وفي تأنق راسين الشجي.

أما كورنيي فكان يظهر في ربيع أدبه-وهوفي السابعة والثلاثين-حين اعتلى لويس العرس. وقد بدأ العهد بملهاة "الكذاب" التي حملت نبرة الملهاة الفرنسية كما حملت "السيد" نبرة المأساة. ثم راح يدفع إلى المسرح بالمآسي جميع عام تقريباً بعد ذلك، رودوجون (1644)، وتيودور (1645)، وهيراقليوس (1646) ودن سانشوالأراجوني (1649) وأندروميد (1650) ونيكوميد (1651) وبرتاريت (1652). ولقي بعض هذه التمثيليات استقبالاً حسناً، ولكن حين تعاقبت جميع منها سريعاً خلف سابقتها، وضح حتى كورنيي يتعجل الإنتاج، وأن عصارة عبقريته آخذة في النضوب. وضاع ولعه بتصوير النبالة وسط بحر من الجدل، وهزمت بلاغته ذاتها باستمرارها دون توقف. نطق موليير "إن لصديقي كورني رفيقاً يلهمه أروع شعر في الدنيا. ولكن يحدث حتى يهجره رفيقه ليرعى شؤونه، وعندها يتعثر شر تعثر(5)." وقد لقيت "بارتاريت" من سوء الاستقبال ما حمل كورنيي على حتى يعتزل المسرح ست سنوات (1653-59)، وتناول نقاده في سلسلة من "الفحوص"، وفي ثلاث أحاديث عن الشعر المسرحي. وقد دلت هذه الأحاديث على صعود موهبته النقدية بهبوط ملكته الشعرية، وأصبحت ينبوعاً للنقد الأدبي الحديث، واتخذها درايدن نماذج حين دافع عن شعره المتوسط الجودة في نثر رائع.

وفي 1659 ردت كورنيي إلى خشبة المسرح لفتة تلقاها من فوكيه. وظفرت مسرحيته "أوديب" ببعض الاستحسان عقب ثناء الملك الشاب عليها، ولكن المسرحيات التي تلتها-سرتوريوس (1662)، وسوفونيسب (1663)، وأوتون (1664)، وآجيسيلاس (1666) وأتيلا (1667)-هذه كلها كانت قاصرة قصوراً لم يستطع فونتنبيل إزاءه حتى يصدق حتى محررها هوكونيي؛ ونطق بوالوفي بيت ساخر: "بعد أجيسيلاس، وا أسفاه! ولكن بعد أتيلا، قف!" وزادت مدام هنرييتا الطين بلة، مع أنها كانت عادة آية العطف والرقة، حين دعت كلاً من كونيي وراسين، بفهم من كل، إلى حتى يخط تمثيلية في ذات الموضوع-وهوبيرنيس، الأميرة اليهودية التي سقط في حبها تيطس الإمبراطور القادم. ومثلت بيرنيس التي ألفها راسين فيالأوتيل دبورجون في 21 نوفمبر 1670 بعد خمسة أشهر تقريباً من موت هنرييتا، ولقيت نجاحاً كاملاً. أما مسرحية كونيي "تيطس وبرينيس" فقد مثلتها فرقة موليير بعد ذلك بأسبوع، ولم تلق غير استقبال فاتر: وحطم فشلها روح كونيي. وجرب حظه ثانية بمسرحيتي "بولشيري" (1672) وسورينا (1674)، ولكن الفشل كان نصيبهما أيضاً. وأنفق كورنيي بعد ذلك السنين العشر التي بقيت له من أجله في تقوى هادئة مكتئبة.

وكان متلافاً، توفي فقيراً برغم ما أجرى عليه لويس الرابع عشر من معاش وما نفحه به من هبات، وقد بتر معاشه دون قصد أربع سنوات، فلجأ كونيي إلى كولبير، فأمر برده إليه، ولكنه انبتر ثانية بعد موت كولبير. فلما نمى الأمر إلى بوالوأفهم به لويس الرابع عشر، وعرض حتى ينزل عن معاشه لكورنيي. ولكن الملك بادر بإرسال مائتي جنيه للشاعر العجوز، الذي توفي بعدها بقليل (1684) بالغاً الثامنة والسبعين وأبنه في الأكاديمية الفرنسية مزاحمه الذي كان قد خلفه، وحمل المسرحية والشعر الفرنسيين إلى ذروة تاريخهما، والتأبين ما زال مذكوراً لما حوى من سماحة وبلاغة.


راسين 1639 - 1699

ولد مثل موليير في أسرة متوسطة. وكان أبوه مراقباً لاحتكار الدولة للملح في لافيرتي-ميلون، على نحوخمسين ميلاً شمال شرقي باريس، وكانت أمه ابنة محام في فيلييه-كوتريه. وقد ماتت عام 1641 وجان لم يبلغ الثانية بعد؛ وبعد سنة توفي أبوه، فكفل الصبي جده لأبيه. وكان في الأسرة نزوع قوي إلى الجانسنية، فقد التحقت جدة وعمة لراسين بأخوات البو-رويال، وأوفد جان نفسه حين ناهز السادسة عشرة إلى "المدرسة الصغيرة" التي يديرها "المتوحدون" وقد تلقى عنهم تعليماً مركزاً في الدين واليونانية-وهما مؤثران قدر لهما حتى يسيطرا الواحد بعد الآخر على حياته. واستهوته تمثيليات سوفوكليس ويوريبيديس فترجم بعضها بنفسه. ثم تفهم شيئاً من الفلسفة ومزيداً من الثقافة الكلاسيكية في كلية آركور بباريس، وأكتشف المفاتن الخفية للأنوثة الشابة، الجديد منها والمستعمل. وعاش عامين على شاطئ الجزانز أوجستان مع ابن عمه نيكولا فيتار، الذي كان يتردد بين البور-رويال والمسرح. واستمع راسين إلى عدة تمثيليات، وخط تمثيلية، وعرضها على موليير. ولم تكن من الجودة بحيث تستحق الإخراج، ولكن موليير نفحه بمائة جنيه مضىي، وشجعه على حتى يعيد الكرة. واستقر رأي راسين على اتخاذ الأدب حرفة له.

وهال هذا الجنون أقرباءه، وراعهم ما نمى إليهم من أنباء غرامياته، فأوفدوه إلى أوزيس بجنوبي فرنسا (1659) مساعداً لعم له كان كاهنا لكتدارئية، فوعده بوظيفة كنسية ذات وقف إذا هوتفهم اللاهوت ورسم قساً. أما الشاعر الشاب، الذي ما زال باطنه يضطرم بنار باريس، فقد طل عاماً يسدل على هذه النار عباءة سوداء، وقرأ القديس توما الأكويني-وقليلاً من أريوستوويوريبيديس بجانبه. وخط الآن إلى لفونتين يقول:

"كل النساء رائعات...لحم غض طري، ولكن بما حتى أول شيء قيل لي هوحتى آخذ حذري، فلست أريد حتى أقول المزيد عنهن. أضف إلى ذلك أنه سيكون امتهاناً لبيت كاهن ذي وقف أعيش فيه حتى أخوض في حديث طويل عن هذا الموضوع، "بيتي بيت الصلاة يدعى"...لقد قيل لي "كن أعمى" فإذا لم أستطع حتى أكون ذلك كلية، فإني أستطيع على الأقل حتى أكون أبكم...لأن على المرء حتىقد يكون راهباً مع الرهبان، كما كنت ذئباً معك من ذئاب قطيعك(6)".

ولقي الكاهن شدائد وأصبحت الوظيفة الكهنوتية الموعودة أملاً بعيداً وتبين راسين أنه لا يملك موهبة القسوسة. فبدل ثوبه، وطوى كتاب "خلاصة اللاهوت" وعاد إلى باريس (1663).

فلما أبلغها نشر نشيداً أتاه بمائة جنيه من جيب الملك. واقترح عليه موليير موضوعاً حوله راسين إلى تمثيليته الثانية "طيبة" (التيباييد). وأخرجها موليير في 20 يونيو1664، ولكنه اضطر لسحبها بعد أربعة عروض. على أنها أحدثت من الضجة ما يكفي لسماعها في البور-رويال-دوشان. وأوفدت إليه عمته من هناك رسالة تستحق حتى نوردها باعتبارها جزءاً من دراما تعدل في بلاغتها وتأثيرها في النفس أي شيء خطه راسين:

"حين نمى إلى أنك تنوي الحضور إلينا طلبت إلى أمنا الإذن لي برؤيتك...ولكنني سمعت مؤخراً خبراً أثار فيّ أشجاناً عميقة. وإني أخط إليك في مرارة قلبي، وأذرف الدمع الذي أرجوحتى أكسبه غزيراً أمام الله لأنال منه خلاصه الذي أتوق إليه أشد مما أتوق لأي شيء آخر في العالم. فقد فهمت بالأسف أنك تخالط أكثر من أي وقت مضى معشراً اسمهم بحق رجس عن جميع من له أي نصيب من تقوى، لأنهم محرومون من دخول الكنيسة، أوتناول الأسرار المقدسة...فانظر الآن يا ابن أخي إلى أي حال صرت، لأنك لابد عليم بما أشعر به نحوك من حنان، وبأنه لم يكن لي من سؤال إلا حتى تتبع الله في وظيفة شريفة. لذلك أتوسل إليك يا ابن أخي العزيز حتى ترحم نفسك، وتفحص قلبك، وتتأمل بجد أي هوة ترديت فيها. أنني لأرجوألاقد يكون سليماً ما أنبئت به، ولكن إذا كان سوء طالعك قد بلغ مبلغاً يحملك على مواصلة تجارة تشينك أما الله والناس، عمليك ألا تفكر في المجيء لرؤيتنا، لأنك تفهم جيداً أنني لن أستطيع في هذه الحالة حتى أحدثك لفهمي بأنك في حالة مؤسفة جداً، مناقضة جميع المناقضة للمسيحية. ولن أكف في الوقت نفسه عن التضرع لله ليرحمك، فيرحمني إياك، لأن خلاصك عزيز جداً(7)".

فهاهنا عالم شديد الاختلاف عن ذلك الذي تسجله صفحاتنا عادة-عالم من الإيمان العميق بالعقيدة المسيحية، والولاء المحب لدستورها الأخلاقي. ونحن لا نملك غير التعاطف مع امرأة استطاعت حتى تخط بمثل هذا الإخلاص في العاطفة، ولم تخل من العذر لرأيها في المسيحية الفرنسية كما كانت في شبابها. ولم تبلغ تعبير نيكول العلنية التالية هذا المبلغ من الرقة والحنو، وكان قد فهم راسين في البور-رويال:

"كل الناس يعهدون حتى هذا السيد قد خط..تمثيليات للمسرح...وهذه المهنة في نظر ذوي العقول الراجحة ليست في ذاتها مهنة شريفة جداً، ولكن إذا نظرنا إليها في ضوء الدين المسيحي وتعليم المسيح كانت في الحق مهنة رهيبة. فالروائيون تجار سموم يقتلون نفوس الناس لا أجسادهم(8)".

وأجاب جميع من كورنيي وموليير وراسين على هذا الاتهام على حده، وكان في جواب راسين من العنف الغضب مل جعله يندم عليه أشد الندم في سنوات لاحقة.

وتلا خصامه مع البور-رويال خصام مع موليير بعد قليل. ففي ديسمبر 1665 قدمت فرقة موليير تمثيلية راسين الثالثة "الإسكندر"، وكان موليير كريماً كعادته، فهوعليم بأن راسين لم يعجب به ممثلاً تراجيدياً، وأن المؤلف الشاب يهيم بأجمل ممثلاته وإن لم تكن أكفأهن، لذلك أخرج نفسه والمرأتين بيجار من شخصيات المسرحية، ومنح الدور النسائي الأول لتريز دبارك، ولم يظن بمال على الإخراج. وقد لقيت استقبالاً حسناً، ولكن راسين لم يرض عن التمثيل. فرتب حفلة خاصة مثلت الفرقة الملكية فيها المسرحية، وحمله سروره بهذا التمثيل على سحبها من موليير وإعطائها لهذه الفرقة المنافسة. وأقنع الآنسة دبارك التي أصبحت عشيقته بأن تهجر فرقة موليير وتنضم إلى الفرقة الأقدم، وعرضت المسرحية في مكانها الجديد بالأوتيل دبورجون ثلاثين مرة في أكثر قليلاً من شهرين. ولم تكن من روائع راسين، ولكنها وطدت مكانته خلفاً لكورنيي، وأكسبته صداقة الناقد بوالوالمرشدة. فحين نطق له راسين مفاخراً "إنني أنظم شعري في يسر مدهش "أجابه بوالو" أريد حتى أفهمك كيف من الممكن أن تنظمه في عسر(9)". ومنذ ذلك الحين فهم الناقد العظيم الشاعر قواعد الفن الكلاسيكي.

ولا فهم لنا بمدى العصر الذي نظم به راسين "أندروماك"؛ على أية حال بلغ فيها أوج قوته المسرحية وأسلوبه الشعري. وهويذكر في إهدائه المسرحية إلى مدام هنرييتا أنه قرأها عليها، وأنها بكت. ومع ذلك فهي مسرحية رعب لا مسرحية عاطفة، وفيها جميع الكارثة المحتومة التي نتسقطها في إسخيلوس أوسوفوكليس. والحبكة شبكة معقدة من العلاقات الغرامية. فأوريست يحب هرميون، التي تحب بيروس، الذي يحب أندروماك، التي تحب هكتور، الذي مات. وقد منح بيروس بن أخيل ثلاث جوائز لما أبلى في فوز اليونان على طروادة: منح أبيروس مملكة له، وأندروماك (أرملة هكتور) أسيرة له، وهرميون (ابنة منيلاوس وهيلانه) زوجة له. أما أندروماك فلا تزال شابة وجميلة، وإن لم تكف عن البكاء، وهي لا تحيا إلا لتذكر زوجها النبيل، وتخاف على طفلهما أستياناكس، الذي ينقذه راسين-بانحراف مسرحي عن القاعدة-م الموت الذي كان نصيبه في يوريبيديس ليستعمله هنا أداة في يد القدر. ويفد أوريست- بن كلينمنسترا وقاتلها- على إبيروس مبعوثاً من اليونان ليطلب إلى بيروس تسليم استياناكس وموته باعتباره المنتقم المحتمل لطروادة في المستقبل. ويرفض بيروس الاقتراح في فقرة تمتنع موسيقاها على الترجمة. يقول ما معناه:

"إنهم يخشون حتى تولد طروادة بهكتور من جديد، وأن ابنه قد ينتزع مني الحياة التي حفظتها عليه. سيدي، إذا الإفراط في التدبر يجر إفراطاً في الحذر. إنني لا أستطيع حتى أبصر المكاره من هذا البعد الكبير. وأنا أفكر فيما كانت عليه هذه المدينة (طروادة) فيما مضى، جبارة في حضوتها، شديدة الخصوبة في أبطالها، سيدة على آسيا. ثم أتأمل في النهاية ما صارت إليه وما انتهى إليه حظها-فلا أرى غير أبراج غطاها الرماد، ونهر صبغت مياهه الدماء. وحقول هجرت، وطفل مقيد بالأغلال، ولست أظن حتى طروادة تقوى على الثأر وهي على هذه الحال. آه، لوكان ابن هكتور قد قدر عليه الموت، فلم أبقينا عليه عاماً كاملاً،يا ترى؟ ألم نكن قادرين على تقديمه قرباناً على صدر يريام،يا ترى؟ كان يجب حتى يسحق تحت مئات القتلى في طروادة؛ يومها كان جميع شيء مباحاً، وعبثاً كانت تحتج الشيخوخة والطفولة بضعفهما في الدفاع عن نفسيهما، فالنصر والقدرة، وهما أشد منا قسوة، حرضانا على القتل وأفقدانا التمييز في ضرباتنا. إذا غضبي على المغلوبين جاوز حد الصرامة، ولكن أيجب حتى تظل قسوتي بعد غضبي،يا ترى؟ أينبغي حتى أغتسل متلبثاً في دم طفل برغم ما يتملكني من شفقة عليه،يا ترى؟ لا يا سيدي، فليبحث اليونان عن فريسة أخرى، وليلاحقوا ما بقي من طروادة في غير هذا المكان. لقد بلغت نهاية الشوط في عدائي. إذا أبيروس ستنقذ ما أبقت عليه طروادة"(10).

هنا مأخذ واحد، ذلك حتى بيروس، وربما راسين، لا يدركان مبلغ ما تدين به شفقة الفاتح لغرامه بأم الطفل-إلى حد عرضه الزواج منها (مع أنه كان يستطيع حتى يتخذها جارية له)، واتخاذه أستياناكس ولداً ووريثاً له. ولكنها ترفضه، فهي لا تستطيع حتى تنسى هكتور، الذي قتله أبوبيروس. وهويهدد بأن يسلم الطفل لليونان، فيروعها تهديده، وترضى بالزواج منه، ولكن هرميون-وهي في تصور راسين لها تضارع الليدي مكبث قوة-، تشتعل غضباً لأنها نبذت، فيه تعتزم اغتال بيروس رغم أنها لا تزال تحبه، وتقبل ما يعرضه أوريست من حب وولاء، شريطة حتى يقتل بيروس. فيوافق كارهاً. وفي جميع خطوة وكل إنسان من شخوص هذه المسرحية صراع في الدوافع يرقى إلى أدق العقد النفسية المعروفة في الأدب. ويقتحم الجند اليونان الهيكل ويقتلون بيروس عند المذبح الذي يتبادل فيه عهود الزواج مع أندروماك. وتحتقر هرمون أوريست، وتجري إلى المذبح، وتغمد مدية في جسد بيروس الميت، ثم تطعن نفسها وتموت. هذه أعظم مسرحيات راسين، وهي خليقة بأن تثبت للمقارنة مع شكسبير أويوريبيديس: حبكة متينة البناء، وشخوص كشف عنها في عمق، ومشاعر مدروسة في جميع تعقيدها وحدتها ، وشعر فيه من الروعة والتناغم ما لم تسمعه فرنسا منذ رونسار.

واعترف الناس بأندروماك للتورائعة من روائع الأدب، فوطدت مقام راسين خليفة لكورنيي وربما متفوقاً عليه. ودخل الآن أسعد عقد في عمره، متنقلاً من نصر إلى نصر، بل متحدياً موليير بملهاة من قلمه. والملهاة، واسمها "المتخاصمون"، وهي تقليد ساخر (برلسك) للمحامين الجشعين، وشهود الزور، والقضاة الفاسدين-هذه الملهاة كانت صدى لتجربة راسين مع القانون. ذلك أنه التمس رهنا على ولج دير وحصل عليه؛ ولكن راهباً نازعه دعواه، وتلا ذلك دعوى قضائية امتد بها الأجل حتى ضاق بها راسين ذرعاً فتخلى عنها وثأر لنفسه بكتابة المسرحية. ولم تسر النظارة في أول عرض لها، ولكن حين مثلت في البلاط ضحك لويس الرابع عشر من قلبه على نكتها ضحكاً جعل الجمهور يغر رأيه، وأدت هذه الملهاة المتوسطة الجودة في ملء جيب راسين.

على حتى نغمة صغيرة بترت هناءه. ذلك حتى خليلته دبارك ماتت في ظروف غامضة-سنفصلها في موضع لاحق-في 11 ديسمبر سنة 1668. وبعد حتى توقف فترة مناسبة اتخذ ممثلة أخرى تدعى ماري شانمسليه. وكان لها زوج يقظ وصوت ساحر، وتحاشى راسين الأول واستسلم للآخر. واتصل هذا الغرام من برينيس حتى فيدر، وبعد ذلك انتزعها الكونت دكليرمون-تونر من جذورها (D(racin(e أي من راسين) كما نطق أحد الظرفاء. ومسرحية راسين "بريتانيكوس" (1669) في رأيه أكثر أعماله اتقاناً، وكثيراً ما تفضل على اندروماك، شأنها شأن "فيدر" و"اتالي".

على حتى القارئ العصري لن يلتذها في أغلب الظن مهما كان غارقاً في تاكيتوس ففيها أجربين السليطة، وبريتانيكوس الشكاء وبوروس المتخبط، ونارسيس القذر، ونيرون الممتلئ شراً-فما من إنسان هنا يظهر لنا تعقيداً أوتطوراً، أويبدي لنا أثراً من نبل خليق بأن يخفف في موضع ما من أي مأساة جديرة بقلم شاعر.

وكما حتى بريتانيكوس فتشت عن قصتها في "قاعة الفظائع" التي ذكرها تاسيتوس، فكذلك أخذت برينيس (1670) سيرة غرام إمبراطور عن سطر موجز لسويتون يقول فيه "فأوفد لتوه كارهاً برينيس الكارهة من المدينة(12)" وتفصيل المسرحية حتى تيطس الذي كان يحاصر أورشليم (70م) كان قد أغرم بالأميرة اليهودية. ومع أنها تزوجت من قبل ثلاث مرات، إلا أنها تتبعه إلى روما خليلة له، ولكنه حين يرث العرش يدرك حتى الإمبراطورية لن تسمح بملكة أجنبية، فيصرفها بعبارات ملكية متدفقة تتميز بالإدراك السليم. وقد حفلت المسرحية بالعاطفة الحارة وحظيت برضاء الجمهور والملك، الذي لابد قد استشف بسرور بلاطه وفوزاته في وصف برينيس لعظمة الإمبراطور الشاب:

"أرأيت بهاء هذه الليلة،يا ترى؟ ألا تمتلئ عيناك بعظمتها وأبهتها،يا ترى؟ هذه المشاعل، وهذا الحطب، وهذا الليل ذواللهب المقدس، وهاتيك النسور، وتلك الشعارات، وهذا الجمع من الناس، وهذا الجيش، وذلك الحشد من الملوك، هؤلاء القناصل، وهذا السناتور-أولئك الذين قبسوا نورهم الساطع من حبيبي، وهذا الأرجوان والمضى الذي يزداد تألقاً بمجده، وهذا الغار الذي مازال شاهداً على فوزه، وهذه العيون التي نراها قادمة من جميع فج لتلتقي فيه وحدة نظراتها الملهوفة؛ هذه الطلعة الجليلة، وهذه الحضرة الحلوة. وحق السماء! بأي إجلال وبأي رضى تؤكد له جميع القلوب سراً ثقتها به! تحدث: أيستطيع إنسان حتى يراه دون حتى يخطر له كما يخطر لي، أنه لوكان القدر قضى بأن يولد مغموراً لتبين فيه العالم سيده بمجرد النظر إليه".

أمن العجب إذن حتى نرى رأسين، وهوعلى هذا الحذق في الزلفى، ينال الحظوة السريعة عند الملك،يا ترى؟ ونمر في احترام ببعض مسرحياته الأقل شأناً، وكلها ما يزال يحتل خشبة المسرح الفرنسي: بايريد (1672)، وتردات (1673) التي فضلها لويس على جميع مسرحياته، وإفجيني (1674)، التي وضعها فولتير في صف واحد مع أتالي باعتبارها من أروع ما خط من الشعر(14). وقد عرضت أجيني أول مرة في حدائق فرساي على ضوء الشمعدانات البلورية المعلقة في أشجار البرتنطق والرمان، وعزف العازفون على الكمان وانعطفت قلوب نصف النخبة المتفرجة، وتقدم راسين ليشكر النظارة على أغلى تصفيق لقيه في حياته. وحين أخرجت في باريس امتد عرضها أربعين مرة في شهور ثلاثة. وكان قد انتخب أثناء ذلك عضواً في الأكاديمية الفرنسية (1673). وبدا حتى سعادته قد اكتملت.

على حتى السعادة لم تخط إلى الآن للشعراء، إلا حتىقد يكون الجمال فرحة لا تنتهي، والثناء لا يبتره صوت ناشز. نطق راسين لابنه "لقد طالما أبهجني جداً ذلك الاستحسان الذي قوبلت به، ولكن أقل لوم ناقد...كان يسبب لي دائماً من الضيق قدراً أكبر من جميع السرور الذي يدخله على المديح(15)". فهولم يكن شديد الحساسية فحسب، كما لم يكن بد من حتىقد يكون، بل ضيق الخلق، يرد على جميع حدثة نابية. وفي ذروة نجاحه عثر نصف باريس تنتقده، لا بل تعمل على إسقاطه. كان كورنبي قد عمر فوق ما ينبغي، ولكن مريديه تذكروا ما اتسمت به مآسيه الأولى من نبرة بطولية وموضوعات ملحمية، وما شاع في بلاغته من نبل، وذلك المستوى السامي الذي حمل إليه دواعي الشرف والدولة، فوق أهواء القلب. واتهموا راسين بتلويث المأساة بعواطف نصف مجنونة تنعمل بها مخلوقات خسيسة، وبإدخال مغازلات حب القصور إلى المسرح، وإغراقه بدموع بطلاته، فصمموا على إسقاطه.

فلما عهد أنه يخط "فيدر" أقنع فريقاً من خصومه نيكولا برادون بأن يخط مسرحية منافسة في الموضوع نفسه. وكان للمسرحيتين نفس العنوان في الأصل-فيدر وهيبوليت-وانبثقتا من أسطورة رواها يوربيديس من قبل بما عهد فيه من قصد كلاسيكي في العاطفة. ففيدر، زوجة تسيوس، وتولع ولعاً شديداً بهيبوليت بن ثيسيوس من زوجة سابقة، ولكنها تجده بارد العاطفة نحوالنساء فتشنق نفسها بعد حتى تهجر خطاباً اتهمته فيه بمحاولة الاعتداء على عفافها انتقاماً منه، ونفى ثيسيوس ابنه البريء، الذي لم يلبث حتى اغتال وهويسوق الخيل على شواطئ تروزين. ولكن راسين غير ترتيب الأحداث، فجعل فيدر تتجرع السم بعد سماعها بموت هبوليت. ومثلت مسرحية راسين في الأوتيل دبورجون في أول يناير سنة 1677، ومثلت مسرحية برادون بعد يومين على مسرح جينيجو. ولقيت التمثيليتان نجاحاً متكافئاً إلى حين، ولكن تمثيلية برادون طواها النسيان، في حين تمثيلية راسن عادة رائعته الكبرى؛ ودور فيدر تصبوا إلى تمثيله جميع الممثلات الفرنسيات، كما يستهوي دور هاملت المثلين التراجيديين في المسرح الإنجليزي) . ولقد بارى راسين الرومانسيين مع أنه المثل المحتذى في الأسلوب الكلاسيكي، في عاطفية غرام فيدر، وجعل هبوليت يتحرق شوقاً للأميرة أريسيا (وهذا مناقض الأسطورة). وتفهم فيدر بنبأ هذا الغرام، ويعطينا راسين في تفصيل منعمل دراسة للمرأة إذا ازدريت. وهويخفف من هذه التحليقات الرومانسية بوصف قوي لخيل هيوليت المذعورة وهي تجره حتى يلقى حتفه.

وفي المقدمة التي يصدر بها راسين تمثيليته فيدر (إذ بدأ يشتد فيه الحافز الديني حدثا ضعف الحافز الجنسي) يلوح بغصن الزيتون للبور-رويال فيقول:

"لست أجرؤ على حتى أؤكد لنفسي حتى هذه...خير مآسي...ولكني وأثق أنني لم أخط مأساة عرضت فيها الفضيلة في ضوء أفضل. فأتفه الذنوب تعاقب هنا عقاباً صارماً، ومجرد التفكير في الجريمة ينظر إليه هنا نظرة الاستهجان التي ينظر بها إلى الجريمة ذاتها، وعثرات الحب ينظر إليها هنا كأنها عثرات حقيقية، والعواطف المشبوبة لا تعرض على الأنظار إلا لترى الخلل التي هي السبب فيه، والرذيلة مصورة في المسرحية كلها بألوان تتيح لنا حتى نراها ونكره شكلها الشائه. وتلك هي الغاية السليمة التي ينبغي حتى يستهدفها جميع من يعمل لجمهور الشعب. ولعل هذه حتى تكون وسيلة المصلحة بين الدراما المأساوية، وكثيرين من الأشخاص المعروفين بتقواهم وتعاليمهم، والذين أدانوها مؤخراً، ولكنهم سيحكمون عليها حكماً أكثر عطفاً لوعني المؤلفون بتعليم جمهوره النظارة عنايتهم بالترفيه عنهم، ولوترسموا في هذا التعليم القصد السليم من المأساة(17)". ورحب آرنو، المعروف بتقواه وتعاليمه، بهذه النغمة الجديدة، وأعرب رضاءه عن فيدر. ولعل راسين وهويخط المقدمة، وقد بلغ الثامنة والثلاثين، كان يتطلع إلى حياة من الاستقرار يسكن فيها إلى امرأة واحدة بدل النساء الكثيرات. ففي أول يونيوسنة 1677 تزوج زوجة أقنه بمهر كبير. وقد أكتشف ما في الحياة العائلية من مسببات الراحة، ووجد من البهجة في ابنه البكر أكثر مما عثر في أكثر مسرحياته توفيقاً. وكانت غيرة مزاحميه ودسائسهم قد نفرته من المسرح، فألقى جانباً الخطط والمذكرات التي كان قد أعدها لأربع مسرحيات، واقتصر طوال اثني عشر عاماً على كتابة الشعر والنثر بين الحين والحين؛ لا سيما تأليف تاريخ للبور-رويال طابعه التبجيل والولاء البنوي.

ونغص عليه هذا الهدوء المثالي حادث مؤسف أليم. ذلك حتى المحكمة الخاصة التي كانت تحقيق عام 1679 في تهم التسميم الموجهة ضد كاتيرين مونفوازان استلمت منها اتهاماً لراسين بأنه سمم خليلته تريز دبارك. وأدلت "لفوازان" بتفاصيل الاتهام ولكن لم يكن هناك ما يعززه. وإذ كانت واثقة من أنه سيحكم عليها بالإعدام، فأنها لن تكن تخسر شيئاً باتهام غيرها زوراً، وقد لوحظ حتى إحدى زبائنها وصديقاتها هي الكونتيسة سواسون، وكانت عضواً في العصبة التي قاومت راسين في "غرام فيدر(18)". ومع ذلك خط لوفوا في أول يناير سنة 1680 إلى المفوض بازان دبيزون يقول "إن الأمر الملكي بالقبض على السيد راسين سيرسل إليك حالما تطلبه" ولكن حين تقدم التحقيق وبدا أنه سيورط مدام دمونتسبان، أمر الملك بحضر نشر سجل المحاكمة، ولم يتخذ أي إجراء ضد راسين(19). وأظهر لويس ثقته المستمرة في المحرر المسرحي. ففي سنة 1664 رتب له معاشاً؛ وفي سنة 1674 خلع عليه وظيفة شرفية تغل له 2.400 جنيه في العام في إدارة المالية؛ وفي سنة 1670 عين راسين وبوالومؤرخين رسميين للبلاط؛ وفي سنة 1690 أصبح الشاعر موظفاً دائماً في معية الملك، فأتته الوظيفة بمود إضافي قدره ألفان من الجنيهات. وفي سنة 1696 بلغ من الثراء مبلغاً أعطى له شراء وظيفة سكرتير الملك.

وقد أعان أداؤه النشيط لواجباته مؤرخاً ملكياً على سحبه من المسرح. وكان يرافق الملك في حملاته ليسجل الأحداث تسجيلاً أدق. وفيما عدا ذلك كان يلزم داره شاغلاً نفسه بتربية ولديه وبناته الخمس، وكان يود أحياناً، وسط صخبهم وضجيجهم، لوأنه كان راهباً. وما كان ليخط أي مسرحية أخرى لولا حتى مدام دمانتون لجأت إليه في حتى يخط مسرحية دينية بريئة من جميع ما يتصل بالغرام، تمثلها الفتيات اللائى جمعتهن في أكاديمية سان-سير. وكانت أندروماك قد مثلت هناك من قبل، ولكن دمانتون الفاضلة لاحظت حتى الفتيات استمتعن بالفقرات الغرامية الحارة. ورغبة في ردهن إلى التقوى خط راسين مسرحيته "إستير".

ولم يكن قد اقتبس موضوعاً من الكتاب المقدس من قبل، ولكنه تفهم الكتاب أربعين سنة، وأحاط بكل التاريخ المعقد المدون في العهد القديم. وقام هونفسه بتدريب الفتيات على أدوارهن، وتبرع الملك بمائة ألف فرنك لتوفير الملابس الفارسية المطلوبة. فلما أخرجت (25 يناير سنة 1689) كان لويس أحد الرجال القليلين الذين شهدوها بين النظارة. وأشتد الطلب على مشاهدتها، من الكهنة أولاً، ثم من الحاشية، وعرضتها أكاديمية سان-سير اثنتي عشرة مرة أخرى. ولم تصل إستير إلى جماهير المتفرجين إلا سنة 1721 بعد موت الملك بست سنين؛ وعندها (بعد حتى فقد الدين الرعاية الملكية) لم تلقَ إلا نجاحاً متوسطاً.

وفيخمسة يناير 1691 أخرجت سان-سير أحدث مسرحيات راسين وهي "أتالي". وأتاليا هي الملكة الشريرة التي ظلت سنوات تقود يهوداً كثيرين إلى عبادة البعل الوثنية، حتى عزلتها ثورة قام بها الكهان(20) وجعل راسين من السيرة مسرحية لا يشعر بقوتها غير أولئك الذين يشهدونها وهم على فهم بسيرة الكتاب المقدس، يدفئ صدورهم الإيمان اليهودي أوالمسيحي الأصيل، أما غيرهم فسيجدون أحاديثها الطويلة وروحها القاتمة مثبطة لهم. وقد بدا حتى التمثيلية صفقت لطرد الهيجوتوت وفوز الكهنوت الكاثوليكي، ولكنها من جهة أخرى حوت-في إنذار رئيس الكهنة للملك الشاب جود-تنديداً قوياً بالحكم المطلق:

"وقد نشئت بعيداً عن العرش لم تشعر بفتنته السامة، إنك لا تعهد الانتشاء بالسلطان المطلق، وسحر المتملقين الجبناء. عما قليل سيقولون لك إذا أقدس القوانين...ينبغي حتى تطيع الملك، وأنه لا ضابط للملك غير مشيئته، وأنه يجب حتى يضحي بكل شيء في سبيل مجده الأعلى...وا أسفاه! لقد ظللوا أحكم الملوك(21)".

وقد ظفرت هذه الأبيات بالاستحسان الكثير إبان القرن الثامن عشر، ولعلها حدت بفولتير وغيره(23) إلى اعتبار أتالي أعظم الدرامات الفرنسية. على حتى الأبيات التالية لهذه توحي بأن رئيس الكهنة إنما كان يحاج دفاعاً عن خضوع الملوك للكهنة. أما لويس، الذي بز الآن راسين في تقواه وورعه، فلم يرَ بالتمثيلية بأساً. وواصل استقبال راسين في القصر رغم ما عهد عن الشاعر من تعاطف مع البور-رويال. ولكن في سنة 1698 حجب الملك رضاءه. ذلك حتى راسين، بناء على طلب مدام دمانتون، وضع بياناً بألوان العذاب الذي ابتلى بها الشعب الفرنسي في أواخر الحكم. وفاجئها الملك وهي تقرأ الوثيقة، وأخذها منها، وانتزع منها اسم محررها، وأخذته سورة الغضب ونطق "ألكونه شاعراً فحلاً يحسب أنه يعهد جميع شيء! ألا أنه شاعر كبير يريد حتىقد يكون وزيراً لأيضاً!" أما مانتنون فقد أكدت لراسين وهي تفيض في الاعتذار له حتى الزوبعة ستمر سريعاً. ولقد مرت؛ وما لبث راسين حتى عاد إلى البلاط واستقبل استقبالاً كريماً، وإن بدا له أقل حرارة من ذي قبل.

أما الذي اغتال الشاعر فلم يكن نظرة فاترة من الملك بل خراجاً من الكبد. وقد أجريت له جراحة، وخف ألمه فترة، ولكنه لم يكن واهماً حين نطق: لقد أوفد الموت إلى كشف حسابه(26) واتى بوالو، وهويشكوالسقم، ليلازم صديقه العليل. ونطق راسين "إني مغتبط لأنه جاز لي حتى أموت قبلك(27)" وخط وصية بسيطة كان أبرز فقرة فيها هذا الراتى إلى البور-رويال: "أود حتى تحمل جثتي إلى البور-رويال-دي-شان، وأن تدفن في مقبرته..إنني بكل تواضع ألتمس من الأم الرئيسة والراهبات حتى يمنحنني هذا الشرف، وإن كنت عليماً بأنني لا أستحقه، سواء لما شاب حياتي الماضية من مخازٍ، أولتقصيري في الإفادة من ذلك التعليم من ذلك التعليم الممتاز الذي تلقيته من قبل في ذلك الدير، وما رأيت فيه من مثل رائعة في التقوى والتوبة ...ولكن حدثا ازدادت حاجتي لصلوات هذه الجماعة العظيمة الورع(28)".

ومات في 21 إبريل سنة 1699 وقد بلغ التاسعة والخمسين. وأجرى الملك معاشاً على أرملته وأبناءه حتى توفي أخرهم. وتضع فرنسا راسين في صف أعظم شعرائها، لأنه هووكورنيي يمثلان أرقى ما وصلت إليه الدراما الكلاسيكية الحديثة من تطور. ولقد تقبل-بناء على حض والو-تفسيراً دقيقاً للوحدات الثلاث: فبلغ بذلك هجريزاً لا يبارى للوجدان والقوة من خلال عمل واحد يقع في مكان واحد ويكمل في يوم واحد. وقد تجنب تطفل الحبكات الثانوية-وكل مزج بين المأساة والملهاة، وأخرج العامة من مآسيه، ولم يتناول عادة غير الأمراء والأميرات والملوك والملكات. وقد نقى لغته من جميع الألفاظ التي قد تعد نابية في الصالونات أوالبلاط، أوتكون محل استنكار في الأكاديمية الفرنسية. وشكا من أنه لا يجرؤ على حتى يورد في تمثيلياته عملية مبتذلة كعملية تناول الطعام، وإن حفل بها شعر "هوميروس" وكان الهدف هوبلوغ أسلوب يعكس في الأدب حديث الأرستقراطية الفرنسية وعاداتها. وقد حدت هذه القيود من مجال راسين. وكانت جميع درامة من دراناته قبل إستير، على شاكلة سابقاتها-وفي جميع منها كانت العواطف واحدة.

على حتى راسن شارف الرومانسية في طابع للشاعر التي عبر عنها وفي حدتها، وذلك رغم الفكرة الكلاسيكية، فكرة العقل يطغى على الحياة ويضبط العاطفة والحديث. وبينما نجد العاطفة في كورنبي تؤكد على الشرف، والوطنية، والنبالة، نجدها في راسين تهجرز إلى حد كبير حول الحب أوالعاطفة المشبوبة؛ ونح نحس فيه تأثير رومانسيات دورفيه، ومدام دسكوديري، ومدام دلافاييت. وكان سوفوكليس أكثر من يعجب بهم من المسرحيين قاطبة، ولكنه يذكرنا أكثر بيوربيديس، الذي تحول فيه قصد سوفوكليس وجلال عبارته بين الحين والحين إلى إفراط في الحماسة والوجدان. وفي هاملت أومكبث إلى القصد في الحديث أكثر مما في أندروماك أوفيدر. وقد أعرب راسين صراحة عن رأيه في حتى "أول قاعدة" للدراما "هي حتى تسر وأن تمس القلب(30)" وقد عمل هذا بتعامله مع القلب، وباختياره شخوصه الرئيسيين من بين أفراد-كانوا عادة من النساء-مرهفي العاطفة، وتحويله تمثيلياته إلى سيكلوجية العاطفة. وقد وافق على الحظر الكلاسيكسي للحركة العنيفة على المسرح، ومن ثم أخذ نفسه بالتعبير عن العاطفة بالكلام فقط. وألقى هذا عبئاً ثقيلاً على أسلوبه، فأصبحت المسرحية سلسلة من الخطب، وكان استرساله في الأبيات الإسكندرية المتتابعة-وهي ذات المقاطع الاثني عشر والقوافي المزدوجة-هذا الاسترسال أشرف بشعره على الرتابة المملة؛ فنحن نفتقد في راسين وكورنبي ما يطالعنا في الشعر الإليزابيثي المرسل من مرونة، وطبيعية، وتنوع لا آخر له. وياله من جهد عبقري ذلك الذي اقتضاه حمل هذا الشكل الضيق من تماثله الممل، بقوة الأسلوب وجماله! حتى راسين وكورنبي ينبغ ألا يقرأ، بل يجب حتى يسمعا، وحبذا حتىقد يكون ذلك ليلاً في فناء الأنفاليد أواللوفر. والمفاضلة بين راسين وكورنبي هواية قديمة لدى الفرنسيين. أما مدام دسفينييه، فأنها بعد حتى شهدت "بايزيد" وقبل حتى تمثل-إفجيني أوفيدر-انحازت إلى كورنبي بحماستها المألوفة. وقد تنبأت في تهور، ولكن من الممكن بحق، بأن: "راسين لن يستطيع أبداً حتى يتجاوز..أندروماك...فتمثيلياته مكتوبة للآنسة شانمسلييه..وسوف يتضح حين يكبر، ويكف عن الحب، هل أخطأت الحكم أم أصبت. إذن فليعش صديقنا كورنبي طويلاً، ولنغتفر له الأبيات الرديئة التي نصادفها في شعره من أجل تلك الفقرات الإلهية التي كثيراً ما ننتشي بها"...

وهذا على العموم رأي جميع ذي ذوق سليم(31). ولكن فولتير الذي اضطلع بنشر أعمال كورنبي والتعليق عليها، صدم الأكاديمية الفرنسية بنقده لأخطاء المسرحي الكبير وفجاجاته ولغته الطنانة. خط يقول "أعترف أنني بنشر كورنبي أصبحت من عباد راسين(32)" وقد أقر الزمن بهذه الأخطاء، وأغتفرها لرجل لم يحظ بما حظى به راسين من ميزة المجيء بعد كورنبي. فالارتفاع بالدراما الفرنسية من مستةاها السابق إلى مكانة "السيد" "وبوليوكت" كان إنجازاً شق من بلوغ النشوات المشبوبة والجمال المنغوم الذي نجده في "أندروماك" "وفيدر". إذا كورنبي وراسين هما الموضوعان الذكر والأنثى في شعر القرن العظيم-التعبير القوي عن الشرف والحب..وعلينا حتى نأخذهما معاً إذا أردنا حتى نحس باتساع الدراما الكلاسيكية الفرنسية وقوتها، تماماً كما يجب حتى نأخذ ميكلانجلوورفائيل معاُ إذا أردنا حتى نحكم على النهضة الإيطالية؛ أوبتهوفن وموتسارت إذا أردنا حتى نفهم الموسيقى الألمانية في ختام القرن الثامن عشر. نطق ديفد هيوم، وكان اسكتلندياً حكيماً، ضليعاً في لغة الفرنسيين وآدابهم، "في المسرح تفوق الفرنسيون حتى على اليونان، الذين تفوقوا كثيراً على الإنجليز(32)" وذلك حكم كان خليقاً بأن يدهش راسين ذاته، الذي عبد سوفوكليس باعتباره الكمال مجسماً، وإن جرؤ على منافسة يوربديس. وفي هذا نجح، وهوما يستحق عليه الثناء حقاً. فلقد احتفظ بالدراما الحديثة على مستوى لم يبلغه سوى شكسبير وكورنبي، ولا يدنومنه إنسان بعد ذلك سوى جوته.


لافونتين 1621 - 1695

في ذلك العصر، عصر الخصومات الأدبية الصارخة، يطيب للمرء حتى يسمع بتلك الصداقة المشهورة، نصف الأسطورية، بين بوالو، وموليير، وراسين، ولافونتين-"شلة" الأصدقاء الأربعة. أما جان دلافونتين فكان العضوالمغمور بين الجماعة. ولد كأضحابه لأسرة متوسطة؛ ولا غرور فالأرستقراطية في شغل بفن الحياة عن الفن. وكان مسقط رأسه شاتو-تييري في شمبانيا، وابوه المدير المحلي للمياه والغابات، لذلك شب جزءاً حساساً من الطبيعة المحيطة به، وعشق الحقول، والغابات، والأشجار، والأنهار، وكل ساكنيها، وتفهم عادات العشرات من أنواع الحيوان، وتكهن في تعاطف بغاياتها، وهمومها، وأفكارها، فكان جميع ما عليه حتى يعمله وهويخط حتى يجري الكلام على ألسنه هؤلاء الفلاسفة متعددي الأرجل، وأصبح "إيزوبا" آخر مذاباً بقصصه الخرافية في ذاكرة الملايين.

وكانت نية أبويه حتى يعداه للكهانة، ولكن لم يكن به ميل للخوارق. وحاول حتى يمارس القانون، ولكنه عثر الشعر أيسر فهماً. وتزوج فتاة غنية (1647) وأنجب منها ولداً. ثم اتفق مع زوجته على الانفصال (1658) ومضى إلى باريس، وأبهج فوكيه، وتلقى من ذلك المختلس اللطيف معاشاً قدره ألف جنيه، شريطة حتى يتحفه بأشعاره أربع دفعات في السنة. فلما سقط فوكيه وجه لافونتين إلى الملك التماساً شجاعاً يرجوه فيه الصفح عن رجل المال. وكانت النتيجة أنه لم يصطل قط بعدها في شمس الملك. فلما جرد من معاشه ولم يكن لديه أي فكرة عن كسب قوته، آوته وأطعمته الدوقة دبوين التي التقينا بها من قبل في صفوف الفرونديات. وأصدر وهومستظل بجناحها (1664) أول كتاب في "حكاياته" وهومجموعة من الأقاصيص الشعرية، مكشوفة على الطريقة البوكاشية، ولكنها مروية في بساطة ساحرة ما لبثت حتى جعلت نصف فرنسا، حتى العذارى الخجولات، يقرأنها .

وبعد قليل أسكنته مارجريت اللورينية، دوقة أورليان الأرملة؛ قصر اللكسمبورج بوصفه وصيفاً لها. وهناك خط مزيداً من حكاياته، ومن هناك دفع إلى المطبعة بالخط الستة الأولى من قصصه الخرافية (1668). وقد زعم أنها صياغة جديدة لخرافات إيزورب أوفيدروس، وكذلك كان بعضها، وبعضها أخذ عن قصص الهند الأسطورية Bidpoi وبعضها من خرافات فرنسا، ولكن أكثرها خلق من حديث في ذلك الغدير الذي يتدفق في ذهن لافونتين وشعره. وكانت أول سيرة خرافية تلخيصاً غير مقصود لحياته الخالية الطروب:

"بعد حتى أنفقت الجرادة الصيف كله غناء، ألفت نفسها حين أقبل الشتاء مملقة لا تملك ذبابة ضئيلة ولا دودة حقيرة، فمضت تشكوجوعها لجارتها النملة وتسألها إذا أقرضتها شيئاً من الحب تقتات به حتى يقبل الموسم الجديد. ونطقت "سأرد لك ديني قبل الحصاد، وأقسم على ذلك بدين الحيوان ومصلحته ومبدئه". أما النملة فلم تكن ممن يقرضون، وهذا أقل عيوبها. لذلك نطقت للسائلة "وماذا كنت تعملين في الصيف؟"

"كنت أغني ليل نهار لكل وافد، فلا يسؤك هذا". "كنت تغنين: يسعدني حتى أسمع هذا. عليك إذن حتى ترقصي الآن". كان لافونتين أحكم من ديكارت، الذي افترض حتى جميع الحيوانات كائنات آلية لا تفكر، فقد أحبها الشاعر، وأحس بتفكيرها، ووجد فيها كلها دروس الفلسفة الفهمية. وافتتنت فرنسا بتلقي الحكمة في جرعات سهلة الهضم كهذه. وأصبح محرر هذه الخرافات أكثر المؤلفين قراء في بلاده. واتفق النقاد مرة في حياتهم مع الشعب، وأثنوا عليه فيمن أثنوا، ذلك أنه برغم بساطته الخالصة كان عليماً بالفرنسية في لونها الريفي ورائحتها الترابية، وقد خلع على شعره من الرشاقة الطيعة، وطرق التعبير الحلوة، والصورة الحية المحكمة، ما جعل جميع البروجوازيين مدعى النبل في فرنسا يغتبطون لأن حيواناتهم، بل حشراتهم، تنطق بالشعر طوال الوقت. نطق فونتين "إني استخدم الحيوانات لتعليم الناس".

وفي 1673 ماتت مرجريت اللورينية وألفى الشاعر نفسه غارقاً في الديون، وهوالذي كان يغني في غير تدبر للمستقبل، ولم يحسن التصرف في الأجور المتواضعة التي أتت بها خطه. على أنه كان أكثر حظاً من جرادته، لأن مدام دلاسابليير، المرأة المثقفة العطوف، آوته وأطعمته ورعته بحدب الأم الرءوم في بيتها بشارع سانت-أوثورية، وهناك عاش قناعة هادئة إلى حتى ماتت في 1693. يقول إذا وقته كان قسمة بين شطرين: أولهما ينام فيه، والآخر لا يعمل فيه شيئاً. ووصفه لابرويبر بأنه رجل يستطيع حتى ينطق الحيوان والشجر بكلام رشيق أنيق، ولكنه هونفسه كان "متبلداً، ثقيلاً"، غبياً في الحديث. على حتى هناك روايات مناقضة زعمت حتى في وسعه حتىقد يكون محدثاً مرحاً إذا عثر آذاناً تلائم مزاجه(38). وقد أذاعت شرود ذهنه عشرات النوادر، الأسطورية إلى حد كبير. من ذلك أنه نطق مرة معتذراً عن وصوله إلى العشاء متأخراً "عدت لتوي من جنازة نملة، وقد سرت وراء الموكب حتى المقبرة، ثم رافقت الأسرة في رجوعها للبيت".

وقد قاوم لويس الرابع عشر انتخابه عضواً في الأكاديمية بحجة حتى حياة الشاعر وحكاياته لم تكن بالمثل الذي يحتذى، ثم لانت قناته في النهاية (1684)، ونطق حتى لافونتين وعد بأن يصلح من سلوكه. ولكن الشاعر الهرم لم يعهد فرقاً بين الفضيلة والخطيئة، إنما عهد الفرق بين الطبيعي وغير الطبيعي، فقد تفهم أخلاقياته في الغابات. وكان كموليير لا يشعر بأي انجذاب للبور-رويال، هؤلاء "المجادلون البارعون" كما وصفهم، الذين "تبدولي دروسهم باعثة على الغم بعض الشيء" وانضم حيناً إلى "شلة" أحرار الفكر في "التامبل"، ولكن حين أصيب بنقطة كادت تسقطه على الطريق، لاح له حتى قد آن الأوان ليصلح ما بينه وبين الكنيسة، ومع ذلك فقد تساءل "أكان القديس أوغسطين حكيماً حكمة رابليه؟" ومات في 1695 وقد بلغ الرابعة والسبعين. وكانت مسقمته على ثقة من خلاصه الأبدي، لأنه على حد قولها "كان فيه من البساطة ما يجعل الله يتردد في الحكم عليه بالهلاك".


بوالو1636 - 1711

في اللقاءات التي جمعت الأصدقاء الأربعة في شارع فيوكولومبييه كان نيقولا بوالوالمسيطر عادة على الحديث، وهوالذي وضع قواعد الأدب والأخلاق بكل سلطان الدكتور حونسون وثقته في حانة "رأس الهجري" بحي سوهو. وكان كجونسون محدثاً أبرز منه مؤلفاً؛ وخير أعماله شعر وسط، ولكن أحكامه كان لها في ميدان الأدب أثر أبقى مما كان لأحكام لويس الرابع عشر في السياسة. وقد أعانت صداقته وتقريظه الناقد لموليير وراسين على التغلب على مكائد الجماعات المعادية لهما.

كان الطفل الرابع عشر لمحرر برلمان باريس. وإذ كان منذور للكهانة فقد تفهم اللاهوت في السوربون. ولكنه تمرد، ودرس القانون وكان على وشك الاشتغال بالمحاماة حين توفي أبوه (1657)، مخلفاً له ميراثاً يكفيه وهويقرض الشعر. وأنفق عشر سنين يشحذ قلمه، ثم راح يصدر أحكامه على زملائه في اثنتي عشرة أهجية (1666 وما بعدها). ذلك حتى هذا الحشد الرهيب من النظامين الجياع روعه، فهاجمه كأنه جيش من الجراد، وسمى بعضهم بأسمائهم، فخلق له أعداء بقوافيه. وجر على رأسه أيضاً سخط النساء بسخريته من القصص الرومانسية التي كانت السيدتان سكوديري ولافاييت تضيعان بهما ورق فرنسا ووقتها. وقد امتدح القدامى، وامتدح منبين المحدثين ماليرب وراكان، وموليير وراسين. نطق "أحسبه من حقنا حتى نسمي الشعر الرديء رديئاً دون حتى نؤذي الضمير أوالدولة، وأنقد يكون لنا مطلق الحق حتى نستشعر الضجر من قراءة كتاب غبي". على حتى هذه الأهاجي تضجرنا هي الأخرى لأن هدفها قد تحقق: فالشعراء الذين أدانتهم هدموا هدماً لم يبقِ على أثر لهم في ذاكرتنا أوفي اهتمامنا؛ يضاف إلى هذا حتى أصحاب العقول الغضة منا، ولا سيما إذا كنا مؤلفين، يؤثرون النقاد الذين يرشدوننا إلى الطيب على أولئك الذين يسخرون من الخبيث.

وبعد حتى مضى بوالوفي أهاجيه ممضى جوفينال الصارم، خفف من غلوانه بالتزام ممضى هوراس الأكثر اعتدالاً، ووصل إلى أسلوب ألين في سلسلة من الرسائل (1669-95). وهذه الرسائل الشعرية هي التي أغرت لويس بدعوته إلى البلاط. وسأله الملك ما أفضل شعره في ظنه. أما بوالوالذي كان يترقب فرصته الكبرى فلم يقرأ شيئاً من شعره المنشور، ولكنه تلا بعض شعره بمدح الملك العظيم، وكان أبياتاً لم تطبع بعد نطق عنها إنها أقل شعره رداءه. وأجازه لويس بمعاش قدره ألفان من الجنيهات، وأصبح شخصاً "سقمياً عنه" في البلاط. نطق لويس "أحب بوالولأنه سوط تأديب ضروري نصلته على ذوق كتاب الدرجة الثاني السقيم(46)". وكما حتى لويس ساند موليير في حملته على المتعصبين. كذلك لم يفه بأي احتجاج حين نشر بوالوملحمة ساخرة سماها "لوتران" (1674)، هزأ فيها برجال الكنيسة الغافلين النهمين. وفي 1677 عبن الشاعر الهاتى مؤرخاً رسمياً مع راسين، وفي 1684 قبل نهائياً في الأكاديمية بأمر صريح من الملك، ورغم احتجاجات أولئك الذين سلخ جلودهم.

أما القصيدة التي طفت به فوق دوامات الزمن فهي "فن الشعر" (1674) التي ضارعت في تأثيرها النموذج الذي نسجت على منواله، وهوكتاب هوراس Arspoetiea، ويستهل بوالوقصيدته بتنبيه شباب الشعراء إلى حتى "بارناس" جبل وعر، فليستوثقوا إذن قبل حتى يشرعوا في ارتفاء جبل ربات الشعر والفن حتى لديهم شيئاً يستحق حتى ينطق، شيئاً يؤيد الحقيقة ويعين على الإدراك والذوق السليمين. وهويقول لهم ناصحاً: نوعوا حديثكم، فإن أسلوباً بالغ التكافؤ شديد التماثيل (كأسلوب بوالو) يحملنا على النوم، و"حبذا الشاعر الذي ينتقل، بلمسة رقيقة، من الخطير إلى الخفيف، ومن السار إلى العنيف(47)". "وأرهفوا آذانكم لإيقاع ألفاظكم. واتبعوا قواعد ماليرب في اللغة والأسلوب. وادرسوا القدامى لا المحدثين: هومر وفرجل في شعر الملاحم، وسفوكليس في المأساة، وتيرانس في الملهاة، وهوراس في الهاتى، وتيوقريطس في شعر الرعاة". "أسرعوا في بطء، وضعوا إنتاجكم على السندان عشرين مرة دون حتى يفت ذلك من عضدكم...وأضيفوا إليه قليلاً، واحذفوا منه(48) كثيرً. أحبوا من ينتقدونكم، وصححوا أخطاءكم دون تذمر وأنتم تنحنون لحكم العقل(49). وأعملوا للمجد، ولا تجعلوا الكسل الخسيس هدفاً لجهدكم(50). فإذا خطتم درامات فراعوا الوحدات، واجعلوا العمل الواحد، المكتمل في مكان واحد ويوم واحد، يبقى المسرح ممتلئاً بجمهوره إلى النهاية(51). أدرسوا البلاط وتعهدوا على المدينة فكلاهما غني بالنماذج، ولعل هذا هوالسر في الفوز الذي حققه موليير لفنه(52)".

وانضم بوالوإلى موليير في السخرية من "المتحذلقات" واحتقر شعر الحب المتكلف الذي أضعف الشعر الفرنسي، وقابل بين هذه العاطفة الكاذبة وبين تمجيد ديكارت للعقل وغرس الآداب القديمة لضبط المشاعر. وصاغ مبادئ الأسلوب الكلاسيكي، وأجملها في بيتين شهيرين "أحبوا العقل إذن، ولتقبس كتاباتكم منه بهائها وقيمتها(53)" فلا زيف في العاطفة، ولا انفعال، ولا كلام طنان، لا تحذلق، لا تكلف، ولا غموض التباهي والغرور. فالمثل الأعلى في الأدب، كما في الحياة، هوضبط رواقي للنفس، و"لا تزيد أوإفراط".

وقد أحب بوالوموليير، ولكنه أسف على هبوطه إلى درك المسلاة "الفارص". وأحب راسي، ولكن يظهر أنه لم يفطن إلى تمجيده الرومانسي للوجدان، ولم يلحظ بطلاته المتفجرات بالانفعالات-هرميون، وبرينيس، وفيدر. والمقاتل لابد مبالغ في نصيبه من الحقيقة. ولقد كان في بوالومن قوة المحارب ما أعجزه عن فهم ما نطقه بسكال من إذا للقلب دواعيه التي لا يفهمه الدماغ، وأن الأدب بغير وجدان قد يحدث له ملاسة الرخام وبرودته. لقد جاز هوراس بالوجدان فنطق "إن أردتن حتى أبكي" أي حتى أحس مما تخط، "عمليك حتى تبكي أنت أولاً" أي عليك حتى تحس أنت بالأمر. إذا فن العصور الوسطى وأدبها ظلا محجوبين عن عين بوالو.

وكان أثر تعليمه هائلاً. فقد حاول الشعر والنثر الفرنسيان التزام قواعد الكلاسيكية طوال قرون ثلاثة. وشاركت هذه القواعد في تشكيل أسلوب الأدب الإنجليزي في "العصر الأغسطي" الذي قلد شاعره بوب في صراحة "فن الشعر" في كتابه "منطق في النقد". وكان تأثير بوالوضاراً ونافعاً. فهوباستنكاره الخيال والوجدان، وضع صماماً على الشعر في فرنسا بعد راسين، وفي إنجلترا بعد درايدن. واتخذ الشعر في أفضل نماذجه شكل النحت بالإزميل، ولكنه فقد دفء التصوير ولونه. ومع ذلك كان من الخير حتى يدخل هدف العقل إلى ساحة الأدب المحض، فقد خط الكثير جداً من اللغوعن الحب والرعاة، واحتاجت أوربا إلى احتقار بوالوالغاضب حتى تطهر ذلك الجوالأدبي، جوالسخف والتكلف والعاطفة السطحية. وربما كان الفضل لبوالوفي ازدياد موليير من "الفارص" إلى الفلسفة، وفي محاولة راسين البلوغ بفنه إلى مرتبة الكمال.

وكان مما يتلاءم وطبيعة بوالوتماماً مسلكه بعد حتى اقتنى بيتاً وحديقة في أتوى بفضل نفحة من نفحات الملك (1687)، فهولم يذكر شيئاً في كتاباته عن الطبيعة المحيطة به اللهم إلى أنه من تلك الحقول اتخذ الآن اسم "دسبريو". هناك عاش أكثر ما بقي له من أجل في هدوء بسيط، لا يزور البلاط إطلاقاً، ويرحب ترحيباً حاراً بأصدقائه. وقد لاحظ الناس حتى "له أصدقاء كثيرين رغم أنه تحدث بسوء عن جميع إنسان(54)". وكان فيه من الشجاعة ما حمله على الإعراب عن عطفة على البور رويال، وعلى حتى يخبر يسوعياً بأن رسائل بسكال الإقليمية إحدى ورائع النثر الفرنسي. وقد عمر بعد موت جميع أفراد الجماعة التي كان منظرها المرموق: فموليير لقي ربه منذ أمد بعيد، ثم لحق به لافونتيين في 1693، ثم راسين في 1699، وتحدث الهاتى العجوز العليل بتأثر عن "الأعزاء الذين فقدناهم، والذين اختفوا كأنهم حلم إنسان استيقظ من نومه(55)" وحين دنت منيته غادر أوتوى ومضى ليموت (1711) في مسكن كاهن اعترافه بصومعة النوتردام، مؤملاً حتى لا يجرؤ الشيطان على حتى يمسه بسوء هناك.


الاحتجاج الرومانسي

لم تقبل سيدات المجتمع على القواعد الكلاسيكية-قواعد العقل، والاعتدال، وضبط النفس-إقبال كورنبي العجوز وراسين الشاب. ذلك حتى عالمهن كان عالم الوجدان والرومانس،وقد حفزت "زيجات المصلحة" التي كن يعقدن أوهام الغرام أكثر مما صدتها. ومن ثم نرى الرواية الرومانسية تنمو-جنباً إلى جنب مع الدراما الكلاسيكية- حتى تتضخم حجماً وتلقى استحساناً واسعاً وتؤثر تأثيراً دولياً. ولم تكن سيدات المجتمع في فرنسا ليشبعن من هذه الروايات، ولكن يجدنها مفرطة في الطول، وآية ذلك أنه حين توقف "جوتييه دلا كالبرونيد" عن المضي في روايته "كليوبطرة" بعد حتى خط فيها عشرة أجزاء (1656)، رفضت خطيبته حتى تتزوجه إلا إذا ختمها بجزأين آخرين(56).

وقد استرقت الآنسة مادلين دسكوديري قلوب نصف فرنسا بوايتها "آرتامين أوكورش الكبير" (1649-53)، و"كليلي" (1654-60) ولكتاهما في عشرة مجلدات. وأشبع غرور المجتمع الفرنسي حتى يجد الشخوص في هذا الإنتاج الرومانسي الغزير، تحت أسماء مستعارة، تصف أعلام العصر وأقطابه المشهورين وتميط اللثام عنهم. وما لبثت سيدات الصالونات وسادته حتى أطلقوا على أنفسهم أسماء من هذه الروايات، وتفهموا فنون التنهد والإنكار شأن أبطالهم وبطلاتهم، وأصبحت الآنسة دسكوديري نفسها تسمى "سافو"، وكذلك كانت تنادي في الصالونات إلى نهاية عمرها الذي بلغ أربعة وتسعين عاماً. وقد خطت لتسر أخاها جورج، ونشرت خطها تحت اسمه؛ وآثرت حتى ترعاه على حتى تتزوج. وظل سلطانها على النساء المثقفات والرجال المعطرين إلى حتى غيرت مسرحيتا موليير "المتحذلقات المضحكات" و"النساء العالمات" من اتجاه الأذواق العالمية، وهنا حبست مادلين في شجاعة آخر مجلد من مجلداتها التسعين عن النشر. والذين يشكون الفراغ قد يجدون إلى اليوم في صفحات "كورش الكبير" الخمس عشرة ألف، أوصفحات "كليلي"، العشرة الآلاف، فقرات تتميز برقة العاطفة، أوتنفرد بتحليل الخلق. كذلك تستحق لاسكوديري حتى تتذكرها لما قامت به من جهد في سبيل النهوض بتعليم النساء في فرنسا.

وأما "ماري مادلين بيوش لافيرن"، التي أصبح اسمها بعد الزواج الكونتيسة لافاييت، فهي شخصية أكثر فتنة، لأنها لم تخط سيرة رومانسية شهيرة فحسب، بل عاشت أيضاً سيرة أشهر. وقد أتيح لها تعليم مكتمل على غير العادة، ثم مضىت لتعيش في أوفرن بعد زقابلا (1655). ولكنها حين وجدت الحياة هناك مملة اتفقت مع زوجها على الانفصال (1659)، ومضىت إلى باريس، وانضمت إلى الجماعة التي تلتقي في قصر رامبوييه. ثم أصبحت وصيفة الشرف لمدام هنربيتا، وخلدتها بعد حين في مذكرات تفيض محبة. وكانت قريبة وصديقة لمدام دسفينييه التي خطت تقول فيها بعد عشرة أربعين عاماً "لم تحجب سماء صداقتنا أقل سحابة، ولا أبلى طول الألفة من فضائلها في نظري، فقد كان شذاها على الدوام نظراً جديداً(57)". وتلك تحية للطرفين قل حتى تجد لها نظيراً، لأن الصداقات تبلى كالحب الرومانسي. وسنلتقي بمزيج نادر من الحب والصداقة في علاقات مدام دلافاييت بلاروشفوكو. وقد سقطت على الجديد الثوري حين قررت حتى تبارز بقلمها الآنسة دسكوديري. ذلك أنها خطت رواية في مجلد واجد لا يزيد طولها على مائتي صفحة. واعتنقت مبدأ مؤداه أنه إذا تساوت جميع الاعتبارات الأخرى فإن خير الخط ما حذف أكثر ما في نصه الأصلي، فكل جملة تحذف تضيف جنيهاً مضىياً لقيمة الكتاب، وكل حدثة تحذف نضيف عشرين فلساً. وبعد حتى نشرت أعملاً صغيرة ألفت (1672) ونشرت (1678) رائعتها المسماة "أمير كليف". وحبكة الرواية (إن شئنا حتى نخلط بين الاستعارات) هي مثلث ذومماس. فالآنسة شارتر فتاة بارعة الجمال ولكن في تواضع يجعل من أمير كليف عبداً لها لأول نظرة. وتتزوجه عملاً بنصيحة أمها، ولكنها لا تشعر نحوه شعوراً أحر من الاحترام. وما يلبث دوق نيمور حتى يراها فيهيم بها لتوه، وتصده هي في إحساس بالفضيلة، ولكن إلحاحه المحموم يمس قلبها، وشيئاً فشيئاً تتحول الشفقة فيها حباً. وتعترف بهذا التطور لزوجها، وتتوسل إليه حتى يبعدها عن القصر وعن التجربة، ولكنه لا يستطيع حتى يصدق أنها وفية له، فيخترمه الهم حتى يقتله، وكأن قرنيه الوهميين خرقا حلقه. أما الأميرة فتصد الدوق وضميرها يبكتها على موت الأمير، وتكرس ما بقي لها من عمر لأعمال البر. وقد علق "بيل" الشكاك على السيرة بقوله: لوحتى امرأة بهذا الطهر والوفاء وجدت في فرنسا لسار ألفا ومائتي ميل ليرها.

ونشر الكتاب غفلاً من اسم المؤلفة، ولكن سرعان ما أستقر رأي الأوساط الأدبية على أنه إحدى ثمرات علاقة حميمة مشهورة آنذاك. نطقت الآنسة سكوديري: (لقد خط مسيودلاروشفوكوومدام دلافاييت رواية...قيل لي أنها خطت على نحويثير الإعجاب(59))، ولكنها أضافت "أنهما لم يعودا في سن تسمح لهما بالاشتراك معاً في أي عمل غير هذا(60)". ولكن كلا المؤلفين المزعومين أنكرا تأليف الرواية. وخطت لاسكوديري تقول "إن الأميرة كليف أرملة مسكينة تبرأ منها أبوها وأمها". أياً كان الأمر، فقد أجمع الكل على أنها أروع رواية خطت في فرنسا إلى ذلك الحين. واعترف فونتنيل بأن قرأها أربع مرات، وكان رأي بوالو، عدوالرومانس، في مدام دلافايين أنها "أبدع عقل وأفضل محررة بين نساء فرنسا". ويقر التاريخ لأميرة كليف بأنها من أول الروايات السيكولوجية وما زالت من أفضلها. وهي الرواية الفرنسية الوحيدة من روايات ذلك العصر التي ما زال في الإمكان قراءتها دون ما ألم.


مدام دسفينييه 1626 - 1696

ولكن بقي من آثار ذلك العصر عشرة مجلدات-من تأليف امرأة أيضاً-في الإمكان قراءتها في بهجة مستسلمة حتى في نبض زماننا السريع. والمؤلفة، وهي واري درابوتان-شانتال، فقدت أبويها في طفولتها وورثت ثروتهما الكبيرة. وقد شارك في تعليمها نفر من خيرة العقول في فرنسا، ونشأتها خيرة الأسر في فرنسا على فنون الحياة. فلما بلغت الثامنة عشرة تزوجت هنري، مركيز دسفينييه، ولكن هذا الزير كان يحب مالها أكثر من شخصها، وبدد بعضه على خليلاته، وبارز خصماً بسبب إحداهن، وقتل في المبارزة (1651). وحاولت ماري حتى تنساه، ولكنها لم تتزوج بعده، بل فرغت لتربية ابنها وابنتها. ولعلها كما ألمح ابن عمها الحقود بوسي-رابوتان كانت "ذات مزاج بارد"(61) أولعلها درست حتى الجنس يستنزف الذات أما الأمومة فتحققها. وخطاباتها تفيض سعادة، كلها تقريباً سعادة الأمومة.

ولقد أحبت المجتمع بقدر ما تشككت في الزواج. وكان لها، وهي الأرملة الشابة التي تملك ثروة بلغت 350.000 جنيه(62)، خطاب كثيرون من النبلاء-تورين، وروهان، وبوسي...ولم ترَ معنى لطردهم جميعاً إلا واحداً، ومع ذلك لم تلوث سمعتها حدثة فضيحة أوعلاقة محرمة واحدة. وكان أصدقاؤها يحبونها بإخلاص أكثر صدقاً-ومنهم دريتز، ولاروشفوكو، ومدام دلافاييت، وفوكيه. أما الأول والثاني فقد أقصيا عن القصر لاشتراكهما في حرب الفروند، وأما الأخير فلثروته التي لم يستطع تعليلها، ولم تلقَ مدام دسفينيه، الوفية وفاءاً حاراً للأربعة على السواء، ترحيباً في الرحاب الملكية المقدسة وإمالة حدثات متفضلة من الملك في حفلة مثلت فيها مسرحية إستير بسان-سير. أما في خارج البلاط فكانت دوائر كثيرة تبتهج بصحبتها، لأنها كانت تملك جميع مفاتن المرأة المثقفة، كانت تتحدث بنفس الحيوية التي تخط بها، وذلك إطراء يناقض إطراء ألفناه أكثر منه؛ فطالما يسدي إلينا النصح، من الممكن في غير تبصر، بأن نخط كما نتحدث.

وقد بق من رسائلها أكثر من ألف وخمسمائة، وجلها موجه لابنتها، فرنسواز مارجريت. التي تزوجت الكونت دجرينيان (1669)، وسرعان ما رحلت إلى بروفانس لتعيش معه، وكان نائباً لحاكمها. فظلت الأم من 1671 إلى 1690 تبعث بخطاب مع جميع بريد تقريباً-وأحياناً مرتين في اليوم-إلى هذه الزوجة الشابة التي فصلتها عنه أرض فرنسا كلها طولاً. خطت تقول لها "إن مراسلتي لك هي عافيتي، ولذة حياتي الوحيدة، وكل اعتبار آخر يتضاءل بالقياس إلى هذا(63)". ذلك حتى الحب الذي لم يجد رجلاً يشبعه أصبح غراماً مشبوباً بابنة أحست أنها غير جديرة به، لأن فرانسواز كانت ذات خلق أكثر تحفظاً، ولم تعهد كيف من الممكن أن تعرب عن مشاعرها بحرارة. ثم كان لها زوج وأطفال يتطلبون العناية بهم، وكانت أحياناً تصبح ضيقة الخلق أومكتئبة المزاج، ومع ذلك ظلت طوال خمسة وعشرين سنة، إلا في فترات سقمها، تخط لأمها مرتين في الأسبوع، لا يفوتها بريد إلا نادراً، حتى لقد أقلق الأم المتينة بها حتى تكون قد جارت على وقت ابنتها. وأبلغ ما في هذه الرسائل تأثيراً على النفس ما روى حياة طفلة مدام جربنيان البكر ونهاية هذه الحياة في الدبر. ذلك أنها قدمت باريس لتلد في كنف أمها. وما لبثت حتى أوفدت إلى زوجها اعتذاراً لأنها ولدت بنتاً-لابد من تربيتها بجهد أليم، ومهرها بمهر غالٍ، ثم فقدها؛ ولما عادت فرنسواز إلى بروفانس هجرت ماري بلانش الصغيرة حيناً مع جدتها التي افتتنت بها. وخطت مدام دسفنييه للأب تقول "إن كنت ترغب ولداً فاعكف على صنعه(64)" خطت للوالدين اللذين لم يقدرا طفلتهما تفاصيل نشوانة عن العجيبة التي أنجباها كارهين:

"إن ابنتكما الصغيرة تغدومحببة للنفس...بيضاء كالثلج، ضاحكة على الدوام...ولون بشرتها، وعنقها، وجسدها الصغير-كلها عجيب. وهي تقوم بعشرات الحركات الصغيرة-تثرثر، وتلاطف، وتضرب، وترسم علامة الصليب، وتطلب العفو، وتنحني، وتقبل يدها، وتهز كتفيها، وترقص، وتتملق، وتشد الأذن...وأنا ألهومعها ساعات بطولها".

وقد ذرفت الجدة دموعاً كثيرة لتدع هذه العجيبة الريانة البدن تمضى إلى بوفانس، ودموعاً أكثر حين أودعها الأبوان ديراً وهي لم تتجاوز الخامسة، ولم تعد الطفلة بعدها، ففي الخامسة عشرة بترت على نفسها عهد الرهبنة واختفت من العالم. وكان نائب الحاكم رجلاً متلافاً، يولم الولائم فوق ما يسمح به مركزه. وكانت زوجته تنبئ أمها بانتظام بما تتسقطه من قرب إفلاسهما، أما الأم فكانت توبخهما في محبة وترسل لهما المبالغ الكبيرة من المال "كيف، بحق محبة الله والناس، يستطيع إنسان حتى يحتفظ بهذا القدر الكبير من المضى والفضة والحلي والأثاث وسط الفقر المدقع الذي ابتلي به من يحيط بنا من الفقراء في هذه الأيام(66)". ورغبة في الاحتفاظ بقدرتها المالية بعد هذه الاستقطاعات، كانت مدام دسفينييه تعنى بتفقد أملاكها في لي روشيه بإقليم بريتني لتستوثق من أنها تلقى الرعاية الواجبة، ومن حتى ريعها يصلها بعد اختلاسات معقولة. ووجدت سعادة جديدة في الحقول، والغابات، وفلاحي بريتني، وخطت عنهم بنفس الحيوية التي خطت بها عن المجتمع الباريسي الذي كانت له أشبه برسالة نصف أسبوعية لابنتها. وكان ابنها مشكلاً من نوع آخر. فهي شديدة التعلق به لأنه فتى طيب، يملك كما نطقت "معيناً من الذكاء وروح الفكاهة...وقد ألف حتى يقرأ علينا فصولاً من رابليه يكاد يموت السامع من الضحك عليها"(67). وكان شارل ابناً مثالياً، إلا إذا استثنينا ترسمه خطى أبيه في التنقل من إغراء إلى إغراء، إلى أن-ولكن لندع مدام دسفينيه، وهي تخط لابنتها، تتحمل تبعة باقي السيرة، فلا شيء أكثر إيضاحاً لطابع العصر:

"بقيت حدثة أوحدثتان عن شقيقكِ...فبالأمس أراد حتى يقص عليّ نبأ حادث مروع سقط له. ذلك أنه صادف لحظة سعيدة، ولكن حين وصل إلى بيت القصيد-كان شيئاً عجيباً! فإن الفتاة المسكينة لم يرفه عنها أحد في حياتها قط بمثل هذا، أما الفارس فقد تقهقر بعد حتى هزم شر هزيمة، وظن حتى سحراً ألقي عليه، وألطف ما في السيرة أنه لم يشعر بالراحة إلا بعد حتى أنبأني بكارثته. وضحكنا عليه حتى استلقينا، وقلت له أنني مغتبطة جداً لأنه عوقب حين أثم.....لقد كان منظراً يستحق حتى يسجله موليير(68)". وأصيب الفتى بالزهري، فعنفته؛ ولكنها سقمته في حب. وحاولت حتى تبث فيه شيئاً من الدين، ولكن نصيبها من الدين كان من الضآلة بحيث لم تستطع حتى تعطيه الكثير منه. وقد تأثرت بمواعظ بوردالو، وخبرت دفقات فجائية من التقوى، ولكنها كانت تبتسم حين ترى المواكب الدينية التي أبهجت أهل المساكن الفقيرة. وقرأت آرنو، ونيكول، وبسكال، وتعاطفت مع ألبور-رويال، ولكن صدها هجريزهم على تجنب الهلاك الأبدي، ذلك أنها لم تستطع حتى تقنع نفسها بالإيمان بالجحيم(60). وكانت على العموم تجفل من التفكير الجاد، فمثل هذه الأمور ليست للنساء، ومن شأنها حتى تعكر جمال الحياة الوادعة. ومع ذلك كانت ذواقة في قراءاتها-تقرأ فيرجل وناسيتوس والقديس أوغسطين باللاتينية، ومونتيني بالفرنسية، وتعهد مسرحيات كورنبي وراسين فهم وثيقة. أما فكاهتها فكانت أعمق وأبهج من فكاهة موليير. فلنستمع إليها تتحدث عن صديق مدمن للتأمل الشارد:

"انقلب برانكا قبل أيام في مصرف عثر نفسه فيه مرتاحاً جداً حتى لقد سأل من سارعوا ليخرجوه منه أبهم حاجة إلى خدماته. وقد كسرت نظارته، ولولا حتى حظه كان خيراً لكسر رأسه أيضاً، ولكن هذا كله لم يبتر تأملاته قط. وقد أوفدت له حدثة هذا الصباح...أنبئه فيها أنه انقلب وكاد عنقه يدق، لأنني افترض أنه الشخص الوحيد الذي لم يسمع بالحادث في باريس".

وهذه الرسائل في مجموعها تؤلف صورة من أكثر الصور كشفاً في الدب، لأن المركيزة تسجل فيها أخطاءها وفضائلها دون تحفظ. فهي الأم المحبة، التي تجد نفسها على سجيتها سواء في صالونات العاصمة أوفي حقول بريتني، وهي تخط لابنتها عن أتفه أحاديث الأرستقراطية وقيلها ونطقها، ولكنها تقول أيضاً "إن البلبل، والوقواق، والهزاز-كلها بدأت تصدح في ربيع الغابات"، وندر حتى تفوه بحدثة سوء عن مئات الأشخاص الذي يرفون خلال صفحاتها الألفين، وهي على الدوام مستعدة لمديد المعونة للمكروبين، مجملة حديثها بالرقيق من التحية والمجاملة، مذنبة بين الحين والحين بالمرح القاسي (كضحكها على شنق بعض المتمردين المساكين في برتني)، ولكنها مرهفة الإحساس بآلام الفقراء، وهي تغضي عن فساد زمانها وطبقتها، ولكنها بلا لوم في سيرتها الشخصية؛ إنها روح تفيض بالنية الطيبة وحب الحياة، فيها من التواضع ما يمنعها من نشر كتاب، ولكنها تخط أفضل فرنسية في عصر أفضل فرنسية خطت على الإطلاق.

ترى هل خطر ببالها حتى رسائلها قد تنشر في يوم ما،يا ترى؟ كانت أحياناً تسترسل في تحليقات من البلاغة كأنها تشم مداد المطابع، غير حتى رسائلها حافلة بتفاصيل العمل، وبالمصارحات العاطفية، والمكاشفات المحرجة التي لا يمكن حتى تكون قصدت على القراء. كانت تفهم حتى ابنتها تطلع أصدقاءها على رسائلها، ولكن مثل هذه المشاركة كانت كثيرة في تلك الأيام، حين كادت المراسلة حتى تكون وسيلة الاتصال الوحيدة بين المسافات الطويلة، وقد ورثت وحفظت الرسائل حفيدتها بولين، التي منعتها من حتى تدخل ديراً كما عملت شقيقتها بلانش ماري، ولكنها لم تنشر إلا عام 1726، بعد موت المركيزة بثلاثين عاماً. وهي اليوم من أغلى عيون الأدب الفرنسي، وكأنها باقة زهر غنية يزداد عبيرها انتشاراً على الأيام.

وازداد تفكيرها في الدين حدثا دنت نهايتها، وقد اعترفت بخوفها من الموت والحساب. وبين ضباب بريتني ومطر باريس أصابها الروماتزم، ففقدت فرحتها بالحياة، وأدركت أنها بشر فانٍ.

"لقد ولجت الحياة دون رضاي، ويجب حتى أخرج منها؛ هذه الفكرة تطغى علي..وكيف أخرج؟...ومتى؟..إنني أدفن نفسي في هذه الأفكار، وأجد الموت شديد الرهبة حتى لأبغض الحياة لأنها تفضي بي إلى الموت أكثر من بغضي لها لما يملؤها من أشواك. ستقولين أنني أريد حتى أحيا إلى الأبد. ليس الأمر كذلك مطلقاً، ولكن لوأخذ رأيي لآثرت حتى أموت بين ذراعي مربيتي، فقد كان هذا خليقاً بأن يوفر علي اضطرابات الروح ويكفل لي الجنة في جميع يقين ويسر(71)". وليس سليماً أنها بغضت الحياة لأنها تفضي بالموت، إنما هي أبغضت الموت لأنها استمتعت بالحياة استمتاعاً شديداً قرابة سبعين عاماً. وإذ كانت أمنيتها حتى تموت في بيت ابنتها الحبيبة، فإنها عبرت فرنسا خلال أربعمائة ميل في رحلة عذاب إلى شاتوجرينيان. فلما أقبل الموت لقيته بشجاعة أدهشتها، ووجدت العزاء في تناول الأسرار المقدسة، وعللت نفسها بالخلود. ولقد وهب لها الخلود حقاً.


لاروشفوكو1613-1680

شتان ما بين هذا الروح، وروح أشهر الكلبيين المحدثين، وأقسى من مزق القناع عن نقائصنا، ذلك العليل المكتئب الذي شوه سمعة النساء وافترى على الحب، والذي أحبته ثلاث نساء حتى الموت. كان النبيل السادس المسمى فرانسوا دلاروشفوكو، سليل أسلاف كثيرين من الأمراء والكونتات، والابن البكر للرئيس الأكبر لإدارة الملابس والحلي للملكة والوصية ماري دمديتشي.

وكان اسمه الأمير مارسياك إلى حتى ورث لقب الدوقية عند وفاة أبيه (1650). وقد تلقى التعليم في اللاتينية والرياضيات والموسيقى والرقص والمبارزة والأنساب والأتكيت. فلما ناهز الرابعة عشرة تزوج بتدبير أبيه من أندريه دفيفون، الابنة الوحيدة والوريثة لبازبار فرنسا الكبير المتوفى. وحين بلغ الخامسة عشرة أمر على فوج من الفرسان، وفي السادسة عشرة اقتنى رتبة الكولونيل. وكان يختلف إلى صالون مدام درامبوييه الذي هذب عاداته وصقل أسلوبه. ومع جميع مثالية الشباب وإثارة للنساء الناضجات نراه يعشق الملكة، ومدام دشفروز، والآنسة دهوتفور. وحين تآمرت آن النمساوية على ريشليواستخدمت فرانسوا، ثم كشف أمره، وأودع الباستيل أسبوعاً (1636). فلما أفرج عنه سريعاً نفي إلى ضيعة أسرته بفيرتوي. وراضَ نفسه حيناً عل العيش مع زوجته، ولاعب ولديه الصغيرين فرانسوا وشارل، وتفهم حتى للريف مباهج لا تستطيع فهمها غير المدينة.وفي تلك الأيام لم يكن ممكناً فصم عرى الزواج الشرعي بين الطبقات العليا الفرنسية، ولكم كان من الممكن تجاهلها. وبعد حتى قضى الأمير عشر سنوات في زواج المرأة الواحدة الذي أضجره، انطلق للمغامرة في الحب والحرب. وحين استهدفت عيناه مدام دلونجفيل (1646) لم يعد دافعه إلى ذلك حب مثالي، بل تصميم على الاستيلاء على قلعة منيعة مشهورة، لأنه مما يحمل من قدره حتى يغوي زوجة لدوق وأختاً لكونديه العظيم. أما هي فلعلها ارتضته لأسباب سياسة، فقد يحدث حليفا، نافعاً في التمرد الأرستقراطي الذي اعتزمت حتى تلعب فيه دوراً نشيطاً. ولما أبلغته أنها حبلت منه(72)، منح جميع تأييده للفروند. وفي 1652 نبذته واتخذت الدوق نيمور عشيقاً، وحاول لاروشفوكوإقناع نفسه بأن ذلك ما كان يصبوا إليه، وكما نطق بعد ذلك "حين نحب إنساناً إلى درجة الملل...فإننا نرحب أشد الترحيب...بعمل من أفعال الخيانة يبرر تحللنا من ذلك الحب(73)" في ذلك العام، وفيما كان يحارب في صفوف الفروند في ضاحية سانت أنطوان، أصابه رش بندقية في عينيه وخلف به عمى جزئياً. فانكفأ راجعاً إلى فيرتوى.

وكان الآن في الأربعين، يحس بوادر النقرس، ويشعر المرارة من كوارث أكثرها من صنعه. أما مثاليته فماتت في إثر مدام دلونجفيل، وفي مؤامرات الفروند الخداعة والنهاية الحقيرة التي انتهت إليها. وقد أزجى فراغه ودافع عن سيرته في "مذكرات" (1662) دل فيها على عظيم تمكنه من الأسلوب الكلاسيكي. وفي 1661 جاز له بالعودة إلى البلاط، ومنذ ذلك التاريخ قسم وقته بين زوجته في فيرتوى وأصحابه في صالونات باريس.

وكان أحب الصالونات إليه صالون مدام دسابليه. هناك كانت هي وضيوفها يلعبون أحياناً لعبة "العبارات". يعلق أحدهم بعبارة على الطبيعة البشرية أوسلوك الإنسان، فتتقاذف الجماعة العبارة فيما بينها تأييداً واعتراضاً. وكانت مدام دسابليه جارة وصديقة مخلصة للبور-رويال-دباري، فاعتنقت رأيه في شر الإنسان الفطري وخواء الحياة الدنيوية، ولعل تشاؤم لاروشفوكوالناجم عن خيبته في الحب والحرب، وعن الخيانه السياسية والألم البدني، وعن خدعه غيره وانخداعه بالغير-نقول لعل هذا التشاؤم عثر مساندة قليلة من جانسنيه مضيفته. وكان يجد لذة قاتمة في تهذيب عباراته وعبارات غيره وغربلتها على مهل، وسمح لمدام دسابليه وغيرها من الأصدقاء بأن يقرؤوا هذا الحكم، وأن يعدلوا فيها أحياناً. وقد نسخها أحد هؤلاء، وطبع ناشر لص هولندي 179 منها، غفلاً من اسم المؤلف، حوالي سنة 1663، وتبين فيها رواد الصالونات حكم لاروشفوكو، ثم أصدر المؤلف نفسه طبعة أفضل أضاف إليها 317 مثلاً عام 1665 تحت عنوان "عبارات وأمثال أخلاقية". وأصبح هذا الكتيب الذي اختزل الناس اسمه بعد قليل إلى "الأمثال"، من عيون الأدب للتوتقريباً. ولم يعجب القراء بأسلوبه الدقيق المحكم الأنيق فحسب، بل أنهم استمتعوا بما حوى من فضح لأثرة الغير. ولم يفطنوا إلى حتى السيرة إنما تروى عنهم، إلا فيما ندر.

ووجهة نظر لاروشفوكوأوردها ثاني أمثاله: "إن حب الذات هوحب الإنسان لنفسه، ولأي شيء آخر لأجله. وحياة الإنسان كلها ليست إلا ممارسة متصلة لهذا الحب وتحريضاً قوياً له" وليس الغرور إلا شكلاً من الأشكال الكثيرة التي يتخذها حب الذات، ولكن حتى هذا الشكل يدخل في جميع عمل وفكر تقريباً، وقد تنام شهواتنا أحياناً، ولكن غرورنا لا يهدأ أبداً "إن الذي يرفض الثناء أول مرة يرفضه أنه يريد سماعه ثانية". والتلهف على استحسان الناس لنا هوالأصل لكل الأدب والبطولات الواعية. "وكل الناس يستوون كبرياء، والفرق الوحيد هوأنهم لا يتبعون كلهم نفس الطرق في إبدائها". "إن الفضائل تضيع في المصلحة الذاتية كما تضيع الأنهار في البحر". "ولوتأملنا أفكارنا الخفية لوجدنا في صدورنا بذرة جميع الرذائل التي نستنكرها في غيرنا" ولاستطعنا حتى نحكم من الواقع فسادنا الشخصي على الفساد المتأصل في الإنسان. وما نحن إلا عبيد شهواتنا، وإذا قهرت شهوة منها فقاهرها ليس العقل بل شهوة أخرى، "والعقل يستغفله الوجدان دائماً"، "والناس لا يشتهون شيئاً بلهفة إذا طلبوه انصياعا لأوامر العقل فقط"، "وأبسط الناس إذا أعانته العاطفة المشبوبة سينتصر أكثر من أفصح الناس بدونها".

وفن الحياة يكمن في إخفائنا حب ذواتنا بقدر يكفي لتجنب إغضاب حب الغير لذواتهم. وعلينا حتى نتظاهر بقدر من الإيثار "إن النفاق ضرب من الاحترام الذي تقدمه الرذيلة للفضيلة". واحتقار الفيلسوف المزعوم للثراء أوعراقة النسب ليس إلا طريقته في الترويج لبضاعته. وما الصداقة "إلا تجارة لا يفتأ حب الذات يطلب الكسب من ورائها" وقد نقيس إخلاصها إذا لاحظنا أننا نجد في نكبات أصدقائنا شيئاً ليس كله مسيئاً. ونحن نبادر إلى الصفح عمن أساءوا إلينا بأسرع من صفحنا عمن أسأنا إليهم، أوعمن تفضلوا علينا-فألزمونا-بخدماتهم. والمجتمع حرب بين الفرد والكل. "والحب الصادق أشبه بالأشباح-شيء يتحدث عنه جميع إنسان ولكن نادراً ما رآه أحد"، و"ما كنا لنقع في الحب قط لولا سمعنا الناس يتحدثون في الحب". ومع ذلك فالحب إذا كان صادقاً تجربة فيها من العمق ما يجعل النساء اللاتي عهدن الحب مرة ضعيفات القدرة على الصداقة، لأنهن يجدنها باردة غثة بالقياس إلى الحب ومن هنا لم يكن للنساء وجود تقريباً إلا وهن في الحب "قد تلقى نساء لم يسبق لهن غرام غط، ولكن من العسير جداً حتى تجد نساء لم يقعن إلا في غرام واحد لا أكثر". "وأكثر النساء المحصنات كالكنوز المخفاة، التي لم تكن في مأمن إلا لأن أحداً لم يفتش عنها". وكان هذا الكلبي العليل عليماً بأن هذه الحكم البارعة ليست وصفاً منصفاً للبشر. لذلك راح يتجنب الجزم في الكثير منها بألفاظ مثل "تكاد" أو"تقريباً" إلى غير ذلك من التحفظات الفلسفية، وقد اعترف أنه "أسهل حتى يعهد المرء النوع الإنساني عموماً من حتى يعهد إنساناً واحداً بالذات"، وسلمت المقدمة بأن أمثاله لا تصدق على "المحظوظين القلائل، الذين سرت السماء بأن تحفظهم...بنعمة خاصة". ولابد أنه سلك نفسه في زمرة هؤلاء القلائل، لأنه خط: "إنني أخلص لأصدقائي إخلاصاً لا أتردد معه لحظة في التضحية بمصالحي في سبيل مصالحهم".-ولوأنه كان بلا شك يفسر هذا بأنه راجع لأنه يجد في بذل مثل هذه التضحية لذة أكثر مما يجده في منعها. وقد تحدث بين الحين والحين عن "عهدان الجميل، فضيلة العقول الحكيمة السمحة"، و"الحب، النقي الذي لا تشوبه شهوة (إذا عثر إطلاقاً)، الذي يكمن في أعماق قلوبنا" و"مع أنه يمكن القول ، بقدر كبير من الصدق..،أن الناس لا يعملون شيئاً دون مراعاة لمصلحتهم، إلا أنه لا يستتبع هذا حتى جميع ما يعملوه فاسد، وأنه لم يبق في الدنيا شيء اسمه العدالة أوالأمانة. فالناس قد يحكمون أنفسهم بوسائل شريفة، ويختطون (لأنفسهم) مصالح كلها الخير والنبل".

وقد ألانت الشيخوخة جانب لاروشفوكو، حتى وهي تزيده شجناً على شجن. ففي 1670 ماتت زوجته ثلاثة وأربعين عاماً من الوفاء الصابر، وبعد حتى أنجبت له ثمانية أطفال، وقامت على تمريضه طوال الأعوام الثمانية عشر الأخيرة. وفي 1672 ماتت أمه، وقد اعترف حتى حياتها كانت معجزة طويلة من المحبة. وفي تلك السنة جرح اثنان من أبنائه في غزوة هولندا، ومات أحدهما من جروحه. كذلك سقط في نفس الحرب الفاجرة ابنه غير الشرعي الذي ولدته له مدام دلونجفيل، والذي لم يؤذن له بأن يطالب به ابناً برغم أنه أحبه حباً عميقاً. روت مدام دسفينييه "رأيت لاروشفوكويبكي في حنان جعلني أعبده(96)". ترى أكان حبه لأمه وأولاده حباً لذاته،يا ترى؟ أجل، إذا نظرنا إليهم على أنهم جزء من ذاته وامتدادها لها. وهذا هوالتصالح بين الإيثار والأثرة-فلإيثار توزيع للذات، ولمحبة الذات، للأسرة، أوالأصدقاء، أوالجماعة. وفي وسع المجتمع حتى يقنع بمثل هذه الأنانية السمحة الكاملة.

ومن أكثر ملاحظات لاروشفوكوسطحية قوله "أن فضل القليل من النساء يدوم أطول من جمالهن". لقد كانت أمه وزوجته استثنائين، ولم يكن الكرم تجاهل آلاف النساء اللاتي ضيعن جمالهن الجسدي في خدمة الرجل والأطفال. وفي 1665 بذلت امرأة ثالثة معظم حياتها. ولا شك في حتى مدام دلافاييت أرضت قلبها هي وهي تحاول حتى تسري عنه. فلقد كان يومها في الثانية والخمسين، يشكوالنقرس ونصف العمى، أما هي فكانت في الثالثة والثلاثين، محتفظة بجمالها، ولكنها عليلة تشكوحمى الملاريا. ولقد روعها ما في أمثاله من كلبية، ولعل فكرة سارة بإصلاح هذا الرجل الشقي والتسرية عنه خالطت رأيها فيه، فدعته إلى بيتها في باريس، فاتى محمولاً على محفة، فعصبت قدمه الموجوعة ووسدتها، وأتت بأصحابها، ومنهم مدام دسفينييه المتدفقة العاطفة ليساعدنها في الترويح عنه. وعاد إليها ثانية، وكثرت زياراته حتى لغطت بها باريس. ولا فهم لنا هل دخلت في هذه الزيارات الألفة الجنسية، ولكنها على أية حال كانت جزءاً صغيراً في علاقة أصبحت تبادلاً بين الأرواح. نطقت "لقد أعطاني الفهم، ولكنني أصلحت قلبه(98)". ولعله ساعدها في روايتها "أميرة كليف" وإن بعدت رقتها وحنانها عن قسوة "أمثاله" بعد السماء عن الأرض.

وبعد حتى ماتت مدام دلاروشفوكوأصبحت هذه الصداقة التاريخية ضرباً من الزواج الروحي، وفي الأدب الفرنسي صور كثيرة لهذه المرأة القصيرة الضعيفة الجسد، تجلس في هدوء إلى جوار الفيلسوف العجوز الذي أقعده الألم عن الحركة. نطقت مدام دسفينييه "لا شيء يمكن حتى يقارن بسحر صداقتهما وثقتها(99)". ونطق بعضهم إذا المسيحية تبدأ حيث ينتهي لاروشفوكو(100)، وقد تبينت صحة القول في هذه الحالة، ولعل مدام دلافاييت الصادقة الورعة أقنعته بأن الدين هوالكفيل بالإجابة عن مشكلات الفلسفة. ولما شعر بدنوأجله طلب إلى الأسقف بوسويه حتى يناوله الأسرار المقدسة الأخيرة (1680). وقد عمرت صديقته بعده ثلاثة عشر عاماً حافلة بالألم.

لابرويير 1645 - 1696

بعد موت لاروشفوكوبثمانية أعوام أكد جان دلابرويير تحليله الساخر للآدميين من أهل باريس. وكان جان ابن موظف صغير في الحكومة. تفهم القانون، واقتنى وظيفة حكومية صغيرة، وأصبح مفهماً خاصاً لحفيد كونديه العظيم، وخدم أسرة كونديه وصيفاً، وتبعها إلى شانتبي وفرساي. وقد ظل أعزب إلى نهاية حياته.

وقد عذبته حدة الفوارق الطبقية في فرنسا لما فطر عليه من حساسية وحياء، ولم يستطع الاستعانة بمظاهر الغرور اللطيفة التي من الممكن كانت تيسر له طريقه بين النبلاء وفي البلاط، وذلك رغم انتمائه إلى الطبقة الوسطى. وقد لاحظ معرض الوحوش الملكي بعين معادية نفاذة، وانتقم منها بوصفها في كتاب صب فيه جميع عصارته الفكرية تقريباً، وقد سماه "الأخلاق لتيوفراست مترجمة عن الإغريقية، مع أخلاق أوعادات هذا العصر". وأصبح الكتاب حديث باريس. لأنه صور تحت أقنعة شفافة أشخاصاً مشهورين في المدينة أوالبلاط، وجعل كلاً منهم يجد المتعة البالغة في فضح الباقين. ونشرت "مفاتيح" للكتاب تزعم أنها تطابق الصور مع أصولها، وأحتج لابرويير بأن أوأوجه الشبه عارضة، ولكن أحداً لم يصدق، وذاع صيته، ونفدت ثماني طبعات قبل موت المؤلف في 1696، وقد أضاف إلى جميع طبعة "أخلاقاً" جديدة تبينت فيها باريس مرآة العصر.

ونحن الذين فقدنا اليوم مفتاح متحف الصور هذا تبدولنا مادته هزيلة بعض الشيء، وأفكاره قديمة مبتذلة، وروحه يشوبها بعض الحسد، وهجاؤه سطحياً جداً، كهجائه لمينالكاس الرجل الشارد الذهن(101). ولا يطلب لابرويير أي تغيير في دين فرنسا أوحكومتها. وقد رأى حتى من الخير حتىقد يكون هناك فقراء، وإلا لكان العثور على الخدم عسيراً، ولما عثر أحد يستخرج المعادن أويفلح الأرض، والخوف من الفقر لا غنى عنه لإنتاج الثروة(102). وكان يسلك بوسويه في عداد أصدقاءه مفاخراً بذلك، وقد أعاد في القسم الخير من كتابه "في أحرار الفكر" الحجج التي أعرب عنها الواعظ العظيم بحكم أفضل ونثر أحمل، وردد البراهين التي ساقها ديكارت عن الله والخلود، واستشهد بشيء من الحذق، في رده على اللاأدريين في زمانه بنظام السماوات وجلالها، وعلامات الهدف المرسوم في الكائنات الحية، والإحساس بتقرير المصير في الإرادة وباللامادية في الذهن. وهاجم غرور النبلاء، وجشع رجال المال وخنوع الحاشية الذين صورهم ينظرون إلى لويس لا إلى المذبح في كنيسة فرساي؛ ولكنه حرص على حتى يقدم للملك باقات زهر يتقي بها غضبه(103). وفي فقرة واحدة على الأقل أزاح الحذر جانباً وتسامى في جرأة ليصف درك البهيمية الذي تردى فيه فلاحوفرنسا من جراء حروب الحكم وضرائبه. يقول:

"انتشرت في أراتى الريف حيوانات ضارية، ذكور وإناث، سوداء، ممتقعة، أحرقتها الشمس تماماً، والتصقت بالأرض التي تحفرها وتقلبها في إصرار لا يقهر، ولها ما يشبه الصوت المنطوق، فإذا انتصبت على قوائمها بدت في سحنة البش، والواقع أنها فاس من الناس(104)".

وما زالت هذه الصفحة من أبلغ ما خط في عصر فرنسا الكلاسيكي.


مزيد من الأدباء

هل نحشد الآن بغير نظام، بعد حتى أصابنا الإعياء، في ملحق هياب بعض الخالدين الذين بدئوا يموتون،يا ترى؟ هناك جان شابلان، الذي أعان على تنظيم الأكاديمية الفرنسية، واعتبر في زمانه (1595-1674) أشعر شعراء فرنسا. وهناك جان باتيست روسو، الذي خط شعراً ينسى، ولكنه خط أيضاً إبجرامات مقذعة جرت عليه النفي من فرنسا (1712) عقاباً على تشهيره بالأشخاص. وقد خط معظم النبلاء الذين اشتغلوا بالسياسة مذكرات، فرأينا مذكرات دريتز ولاروشفوكو، وسنرى في موضع لاحق مذكرات سان-سيمون. ويلي أولئك مرتبة تلك المجلدات الثلاثة التي سجلت فيها مدام دموتفيل بتواضع خلاب وقائع سنيها الاثنتين والعشرين التي قضتها في بلاط آن النمساوية. ونلاحظ أنها وافقت لاروشفوكوعلى رأيه إذ خطت "إن تجربتي القاسية في صداقة البشر الزائفة أكرهتني على الإيمان بأنه ليس في الدنيا شيء أندر من الأمانة والاستقامة، أومن القلب الطيب القادر على عهدان الجميل(105)". لقد كانت هي هذا الإنسان النادر الوجود.

وقد حقق روجيه درابوتان، كونت بوسي، نجاحاً في دنيا الفضائح بكتابه "تاريخ غراميات الغاليين" (1665) الذي وصف غراميات معاصريه مستخفية وراء قدامى الغاليين. وغضب الملك لكونه سخر فيها من مدام هنربيتا، فزج به في الباستيل، ثم أفرج عنه بعد سنة شريطة حتى يعتكف في ضيعته، وهناك ألف "مذكراته" النابضة بالحياة، والغيظ يبريه إلى نهاية حياته. وأقل من هذا الكتاب جدارة بالتصديق كتاب "الأقاصيص" الذي رسم فيه تالمان دي ريوصوراً موجزة خبيثة لشخصيات شهيرة في الأدب أوالغرام. وقد جاهد كلود فلوري، بكتابه الأمين "التاريخ الكنسي" (1691)، وسباستبان تيلمون بكتابه "تاريخ الأباطرة" (1690 وما بعدها)، وكتابه "مذكرات ينتفع بها في التاريخ الكنسي للقرون الستة الأولى" (1693) ذي الستة عشر مجلداً-هذان جاهدا في معاناة، ودون وعي منهما، ليمهدا الطريق وينقياه لكتاب جيبون "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" (1776 وما بعدها).

ثم هناك أخيراً شارل دماركتيل شريف سانت-افريمون الذي كان ألطف تلك "العقول القوية" التي صدت الكاثوليك والهيجونوت، واليسوعيين والجانسيين على السواء، بالتشكك في التعاليم الأساسية لإيمانهم المشهجر. وكانت حياته العسكرية الحافلة بالمغامرات تقوده إلى عصى المارشالية حين غضب عليه الملك لأنه كان صديقاً لفوكيه وناقداً لمازاران. فلما نمى إليه حتى قد تقرر القبض عليه فر إلى هولندا، ثم إلى إنجلترا (1662). وقد جعلته عاداته المهذبة وذكاؤه الشكاك أثيراً في صالون هورتنزي مانشيني بلندن، وفي بلاط تشالز الثاني. وكان كالماريشال دوكنكور، في واحد من أكثر حواراته مرحاً(106)، يحب الحرب أولاً، ثم النساء، ثم الفلسفة. وإذ رشف جميع المباهج التي في مونتيني، ودرس أبيقور مع جاسندي، فقد خلص مع الإغريقي المفترى عليه إلى حتى لذة الحس طيبة، ولكن لذة الفكر أطيب، وأنه لا داع يدعونا لشغل أنفسنا بالآلهة أكثر مما تشغل أنفسها بنا. وقد بدا له الأكل الطيب والكتابة الجيدة مزيجاً معقولاً. وفي 1666 زار هولندا ثاني، والتقى بسبينوزا وتأثر تأثراً عميقاً بالحياة المسيحية التي كان يحياها اليهودي القائل بوحدة الوجود(107). وقد أعطى له معاش أجرته عليه الحكومة الإنجليزية، بالإضافة إلى ما استنقذه من فضلات ثروته، حتى يخط سلسلة طويلة من الخط الصغيرة، كلها بأسلوب خفيف رشيق شارك في تكوين فولتير. وقد أعان كتابه "تأملات في مختلف أجناس الشعب الروماني" مونتسكييه، وشاركت رسائله إلى نينون دلانكلوبجزء من ذلك العبير الذي يتضوع خلال الرسائل الفرنسية. ولما بلغ الثامنة والخمسين، ودون وعي منه بأنه سيعمر اثنتين وثلاثين سنة أخرى، وصف نفسه بأنه مقلقل بصورة لا شفاء له منها. "إنني لولا فلسفة ميسود ديكارت التي تقول أنا أفكر فإذن أنا موجود لما صدقت إنني موجود، وهذا جميع ما أفدت من دراسة ذلك الرجل الشهير(108)" لقد كاد ينافس فونتنيل في طول عمره، إذ لم يمت إلا عام 1703 بعد حتى بلغ التسعين، وقد نال تشريفاً ندر حتى حظي به فرنسي، وذلك هودفنه في دير وستمنستر.

خط فردريك الأكبر إلى فولتير: "بعد قرون سيترجمون الكتاب المجيدين في عصر لويس الرابع عشر كما نترجم نحن كتاب عصر بركليز وأوغسطس". وقبل حتى يموت الملك بسنين طويلة شبه الكثيرون من الفرنسيين فن العصر وأدبه بخير ما ابتكر القدماء في الفنون والآداب. وفي 1687 قرأ شارل بيرو(أخوكلود بيروالذي صمم من قبل قابلة اللوفر الشرقية) على الأكاديمية الفرنسية قصيدة سماها "قرن لويس العظيم" حمل فيها العهد فوق أي حقبة في تاريخ اليونان أوالرومان. ولكن بوالوالناقد العجوز انبرى للدفاع عن القدامى رغم حتى بيروسلكه في زمرة المعاصرين الذين فضلهم على نظرائهم القدامى، فنطق للأكاديمية حتى من العار الاستماع إلى هذا اللغو. وحاول راسين حتى يخمد النار بزعمه حتى بيروكان(110) يمزح، ولك نبيروأحس حتى لديه موضوعاً مجزياً. فعاد إلى المعركة في 1688 بكتابه "نظائر القدامى والمحدثين" وهومحادثة طويل حيث يؤيد تفوق المحدثين في العمارة والتصوير والخطابة والشعر-وذلك باستثناء الإنياذة، التي هي في رأييه أروع من الإلياذة والأوديسة أوأي ملحمة أخرى. وقد ناصره فونتيل بذكاء وبراعة، أما لابرويير ولافونتين وفينيلون فوقفوا في صف بوالو.

لقد كان شجاراً صحياً، عين نهاية نظرية "الانحطاط" المسيحية الوسيطة، ونهاية تواضع النهضة والحركة الإنسانية أمام الشعر والفلسفة والفنون القديمة. وكان هناك اتفاق عام على حتى الفهم قد تقدم متجاوزاً أي فترة أدركها اليونان أوالرومان، وحتى بوالواعترف بهذا، وسلم بلاط لويس الرابع عشر في غير تردد بأن فن الحياة لم يطور قط من قبل بمثل هذا الجمال الذي طور به في مارلي وفرساي. ولن نزعم أننا فاصلون في هذه المشكلة، فلنهجرها الآن حتى نعهد جميع جوانب هذا العصر في أوربا بأسرها. ولا حاجة بنا إلى الإيمان بأن كورنبي كان متفوقاً على سوفوكليس، أوراسين على يوربيديس، أوبوسويه على ديموستينيس، أوبوالوا على هوراس؛ وما ينبغي حتى نسوي بين اللوفر والبارثينون، أوبين جيراردون وكوازفوكس وبين فيدياس وبراكستيليس. ولكن من اللطيف حتى نعهد حتى هذه المفاضلات تقبل المناقشة، وأن تلك النماذج القديمة لا تمتنع على المنافسة.

لقد وصف فولتير عصر لويس الرابع عشر بأنه "أكثر العصور التي شهدها العالم استنارة(111)" دون حتى يتسقط حتى عصره هوسيسمى "عصر التنوير". ولكن ينبغي حتى نخفف من غلوهذا الإطراء. فالعصر من الناحية الرسمية كان عصر ظلامية وتعصب بلغا أوجهما في إلغاء مرسوم نانت الرحيم، و"التنوير" كان وقفاً على قلة قليلة لم يرضَ عنها البلاط وعابها سرفها الأبيقوري أحياناً. والتعليم كان يهيمن عليه أكليروس ملتزم بعقيدة العصر الوسيط، وأما حرية الطباعة والنشر فلم يكد أحد يحلم بها، وحرية الكلام كانت مغامرة سرية وسط رقابة شاملة. لقد كان في عهد ريشليومن المبادرة والجرأة ومن مولد العبقرية قسط أكبر مما كان في عهد الملك العظيم. إذا العصر لم يكن له ضريب في الرعاية الملكية للأدب والفن، وفي خضوعهما البليغ للملك. وقد بلغ الفن والأدب كلاهما العظمة والجلال كما يشهد بذلك صف أعمدة اللوفر ومسرحية اندروماك، ولكنهما انحدرا أحياناً إلى المبلغة في الفخامة والأبهة كما نرى في قصر فيرساي أوفي بلاغة كورنبي في آخر إنتاجه. وكان يشوب المأساة والفنون الكبرى في هذا العهد بعض التكلف والافتعال، فقد أفرطا في الإتكاء على النماذج اليونانية أوالرومانية أونماذج النهضة. واتخذا موضوعاتهما من عصر قديم دخيل لا من تاريخ فرنسا ودينها وطابعهما، وعبرا عن التعليم الكلاسيكي الذي حظيت به طبقة خاصة لا عن حياة الشعب وروحه. ومن ثم نجد موليير ولافونتين العاميين يفيضان اليوم حياة وسط هذا الحشد المزوق، لأنهما نسيا اليونان والرومان وتذكرا فرنسا. سليم حتى العصر الكلاسيكي نقى اللغة، وصقل الأدب، وهذب الحديث، وفهم العاطفة المشوبة حتى تفكر، ولكنه إلى ذلك فرض على الشعر الفرنسي (والإنجليزي) برودة امتدت قرابة قرن بعد هذا العهد العظيم.

ومع ذلك كان عهداً عظيماً. فلم يشهد التاريخ من قبل حاكماً سخا مثل هذا السخاء على العلوم والآداب والفنون. لقد اضطهد لويس الرابع عشر الجانسنيين والهيجونوت، ولكن في عهده خط بسكال، ووعظ بوسويه، وفهم فينيلون، ولقد جند الفن ليخدم به مآربه ومجده، ولكن هذا الفن منح فرنسا بفضل تشجيعه روائع في العمارة والنحت والتصوير. ولقد حمى موليير من جيش من الخصوم، وآزر راسين من مأساة إلى مأساة. ولم تخط فرنسا من قبل مسرحية أفضل، ولا رسائل أفضل، ولا نثراً أفضل، مما خطت في عهده. وقد أعانت عادات الملك المهذبة، وضبطه لنفسه، وصبره، واحترامه للنساء-أعانت كلها على انتشار الآداب المحببة والمجاملات اللطيفة في البلاط، وعنه إلى باريس وفرنسا وأوربا ولقد أساء استعمال بعض النساء، ولكن تحت حكمه بلغت النساء في الأدب والحياة مقاماً أضفى على فرنسا ثقافة ثنائية الجنس يفوق جمالها أي ثقافة أخرى في العالم. وبعد جميع التحفظات، وبعد الإعراب عن أسفنا لأن هذا الجمال الكثير لوثته هذه القسوة الكثيرة، يحق لنا حتى نضم صوتنا إلى أصوات الفرنسيين في الإشادة بعصر لويس الرابع عشر بوصفه عصراً يقف على قدم المساواة مع اليونان في أيام بركليز، والرومان في أيام أوغسطس، وإيطاليا في أيام النهضة، وإنجلترا في أيام إليزابيث وجيمس الأول-يقف مع هؤلاء جميعاً قمة شامخة بين الشوامخ في مسار الإنسانية المتعثر.


الهامش

تاريخ النشر: 2020-06-04 18:47:43
التصنيفات: الأدب الفرنسي, القرن 17 في فرنسا, Early Modern literature

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

بيلاروسيا: على زيلينسكي توقيع اتفاق مع بوتين أو الاستسلام

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:31
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 92%

هل يصبح العرب يهوداً في القريب العاجل؟

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:18
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 91%

كيف يطلق الغرب الرصاص على قدميه؟

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:21
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 100%

الصين تستعد لسقوط الغرب

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:25
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 90%

الدوحة تجنبت الزوايا الحادة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:17
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 90%

حكايات ماريوبول المحاصرة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:19
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 95%

مناكفاً  كييف.. بوتين يشدد على تطوير شبه جزيرة القرم

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:32
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 99%

كلوب بعد مباراة ليفربول ضد أرسنال: سأقوم بضربه!

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:08
مستوى الصحة: 85% الأهمية: 91%

تايوان ستقاوم الصين على طريقة أوكرانيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:19
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 87%

اعترفت الولايات المتحدة بنهاية حقبة "هيمنتها أحادية القطب"

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:26
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 96%

إسرائيل تستهدف نخبة الأعمال الروسية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:09
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 93%

النفط الإيراني و"الصفقة النووية": روسيا حصلت على ضمانات

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:10
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 99%

خبرة السوريين مطلوبة في معارك دونباس

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:23
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 85%

ضابط أمريكي سابق: درّبنا النازيين الجدد في أوكرانيا (فيديو)

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:29
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 98%

دول البلطيق تتحول إلى قبو للبارود التركي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:10
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 95%

إيران تحاول تشتيت انتباه العالم عن العملية الروسية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:20
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 96%

خبير يقوّم إرسال روسيا المتطوعين إلى أوكرانيا

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:14
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 95%

عملية أوكرانيا تدمر سمعة "بيرقدار"

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:22
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 100%

لماذا لم ترد الولايات المتحدة على الهجوم الصاروخي الإيراني؟

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:15
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 91%

الولايات المتحدة تبحث عن طريقة لعزل روسيا عن الصين

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:16
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 96%

تزاحم ناقلات الغاز في قطر

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:11
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 87%

الولايات المتحدة غير مستعدة للتصعيد النووي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-17 15:18:24
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 95%

تحميل تطبيق المنصة العربية