استعراش مـِيْ‌جي

عودة للموسوعة

استعراش مـِيْ‌جي

استعراش مـِيـْجي (明治維新): فترة انتنطقية من تاريخ اليابان عهدت فيها البلاد تحولات واسعة بعد أكثر من قرنين من حكم أسرة توكوگاوا (راجع: "فترة إدو").

عهد اليابان في الثلث الثاني من القرن الـ19 م (1800 م) وخلال هذه الفترة تحولات جذرية، سياسية واجتماعية، قادت هذه إلى إنهاء شوگونية أسرة "توكوگاوا" و"فترة إدو" التي صاحبتها، ودخلت البلاد بعدها الفترة المعاصرة من تاريخها.

تم في الـ3 من يناير 1868 م إعادة الإمبراطور أوالـ"تينو" إلى مكانه على رأس هرم السلطة في البلاد، كان الأباطرة ورغم أنهم حكموا البلاد بصورة مستمرة، مجردين من السلطة العملية، كانت هذه بين أيدي الشوگونات (راجع "فترة كاماكورا" و"ميناموتونويوريتومو"). قام المؤرخون بتعميم هذه التسمية (استعراش مييجي) فأصبحت تطلق على الفترة التي سبقت ومهدت هذا الأحداث ثم فترة الحروب الأهلية التي تلتها.

لم تكن الحركة التي حملت هذه التغيرات ثورة شعبية بالمعنى الذي نعهده اليوم، اقتصر الصراع على أبناء طبقة واحدة (المحاربين). كرست هذه هيمنة المحافظين (قد يبدوا هذا اللفظ غريبا في يومنا) كان هؤلاء يدعون إلى إعادة النظام الإمبراطوري القديم. عهدت هذه الفترة الانتنطقية بداية انفتاح اليابان على الخارج، وانطلاق عملية الإصلاحات.

الإمبراطور "مييجي" أو"مـِيـْجي تينو" (明治天皇)

تصاعد الحركات الاحتجاجية

مع حلول العشرية السادسة من القرن الـ19 (1860 م) دخلت البلاد فترة حديث من الصراعات. أصبحت الكثير من الجماعات تندد بالنظام الحاكم. كان النظام الشوگوني قد قام سنة 1858 م بتوقيع معاهدة تجارة جديدة مع القنصل الأميركي "تاوزند هاريس"- بعد المعاهدة الأولى في 1854 م- ، أدى ذالك إلى تأليب الجماعات المحافظة والتي كانت تعارض عملية فتح البلاد على الخارج. في نفس السنة (1858 م) توفي الشوگون "إيئه-سادا" (徳川) ع (1824-1858 م) تبع ذلك خلافات حادة بين ورثته ثم تطور الأمر إلى بروز جبهتين بين رجالات الحكم، جبهة يغلب عليها الطابع المحافظ وترى إبقاء الأمور على حالها، وجبهة أخرى كانت ترغب الإسراع في عملية إصلاح النظام الشوگوني.

أسفرت الجولة الأولى على فوز المحافظين وتم تعيين "توكوگاوا إيئه-موتشي" (徳川 家茂) ع (1846-1866 م) شوغونا جديدا. قاد رئيس المجلس الوطني "إيئي ناؤوسوكه" (1815-1860 م) ـ زعيم التيار المحافظ داخل النظام والذي كان الحاكم العملي للبلاد ـ سياسة متشددة اتجاه المعارضين للنظام الشوگوني. كان من عواقب ذلك حتى توحدت جميع قوى المعارضة في بلاد تحت راية واحدة، وكان هدفها يلخصه الشعار التالي: "الطاعة لإمبراطور والطرد للأجانب". في حقيقة الأمر لم تكن قضية إعادة الإمبراطور إلى السلطة الشغل الشاغل لهذه الجماعات، كان أنصار هذه القضية يمثلون أقلية بين أفراد المعارضة، إلا حتى الأغلبية كانت تتفق في كون ذلك ذريعة وسببا وجيها لتوحيد الصفوف ضد النظام الشوگوني.


تشكل التحالف ضد الـ"توكوگاوا"

المعاقل الرئيسية أثناء إستعراش مييجي

سنة 1860 م يتولى "أندونوبوماسا" (1819-1871 م) رئاسة المجلس، خلفا لـ"إيئي ناؤوسوكه". كان همه الأول حتى يقرب إليه البلاط الإمبراطوري حتى يكسر شوكة أعداء النظام. كانت خطته تقضي بزواج الشوغون "إيئه-موتشي" من إحدى الأميرات من الأسرة الإمبراطورية. بعد حتى أقنعه بعض مستشاريه وافق الإمبراطور "كوميي" (1831-1867 م)، كان الأخير ولترضية أنصاره قد وضع شرطا أساسيا للقبول بتلك التسوية: طرد الأجانب من البلاد.

أخذ الكثير من رجال الساموراي ("كيدوتاكايوشي" (木戸孝允)، "أوكوبوتوشيميتشي" (大久保 利通)، "سائيگوتاكاموري" (西郷 隆盛) و"إيتوهيروبومي" (伊藤 博文)) في المعاقل الغربية ـ على غرار "تشوشو" (長州)، "ساتسوما" (薩摩) و"توسا" ـ ينظمون أنفسهم، كان يحدوهم الطموح لبلدهم، وتجمعهم الرغبة في تحديثه وتزويده بجيش قوي، قاد هؤلاء الرجال حركات التمرد الأولى. كانت أغلبيتهم من القوميين إلى درجة التعصب. أرادوا طرد الأجانب من البلاد، وإجبار النظام الشوگوني على تطبيق وعوده (بموجب القرارات التي تم توقيعها سنة 1863 م)، وجدوا هؤلاء ضالتهم في الانضمام إلى الجبهة التي كانت تطالب باسترجاع الحق الإمبراطوري. أمام إلحاح قادة المعاقل الغربية حاول الـ"باكوفو" (التسمية التي كانت تطلق على الحكومة الشوگونية) كسب المزيد من الوقت من خلال المفاوضات. إلا حتى هذه لم تثمر، وبدأ المتمردون في شن هجمات على المراكب الغربية التي تحاول الاقتراب من سواحل البلاد.

قام النظام بتجهيز جيش كانت مهمته إخضاع المتمردين في معقل "تشوشو" (長州)، إلا حتى هؤلاء استطاع صد هذه القوات. حاول الـ"دائي-ميو" (كبير الزعماء) في معقل "ساتسوما" حتى يعرض على النظام حلا وسطا: تشكيل حكومة وطنية يتم انتخاب أعضائها من قبل الشوگون، الإمبراطور والزعماء الـ"دائي-ميو". إلا أنه وبعد ضغوطات مارسها عليه زعماء المتمردين في معقله، عدل عن رأيه ووافق بمضض على التحالف التي تم عقده سنة 1866 م مع معقل "تشوشو". كان جميع من "كيدوتاكايوشي" و"سائيگوتاكاموري" قد مهدا لهذه العملية منذ مدة.

ثم تسارعت الأحداث، فتوفى الشوگون "إيئه-موتشي" (徳川) في أغسطس من عام 1866 م وهوفي ريعان شبابه، انتقل الأمر من بعده إلى "توكوگاوا يوشينوبو" (徳川慶喜) ع (1837-1868 م)، ثم توفي الإمبراطور في يناير من العام الموالي، فاعتلى ابنه "ماتسوهيتو" (睦仁) العرش وتلقب بـ"مييجي" (明治). أصبح الشوگون الجديد مجردا من السلطة كان الأمر في أيدي زعماء المقاطعات، وأمام زحف قوات معقلي الـ"تشوشو" والـ"ساتسوما" (薩摩) على العاصمة "إيدو"، كان من السهل على زعيم معقل الـ"توسا" (والذي انظم مؤخرا إلى التحالف الإمبراطوري، حتى يقنع الشوگون بتقديم استنطقته للإمبراطور. وافق "يوينوبو" على الفكرة، فقام يوم 19 نوفمبر 1867 م بالتنازل عن جميع سلطاته للإمبراطور.

قام أعضاء من المعاقل المتحالفة المنتصرة بتشكيل حكومة وطنية في "كيوتو"، أعربت هذه (رسميا) يوم ثلاثة من يناير 1868 م استعراش الإمبراطور وتقلده حكم البلاد. كما تم إلغاء منصب الـ"شوگون" ومصادرة الأراضي التابعة له. حرص أتباع الحركة على إعطاء صفة الشعبية على عملية انتنطق السلطة، فتم إصدار مراسيم يضمن فيها حرية التعبير للشعب، بينما تم إقرار جميع الاتفاقيات التجارية التي سقطها النظام السابق مع الأجانب.

الحرب الأهلية "بوشين"

رجال "ساموراي" من معقل "ساتسوما" (薩摩) يراجعون بعض الخرائط قبل إحدى المعارك، الصورة تعود إلى الفترة التي عهدت باسم حرب "بوشين" (戊辰戦争) ح 1869 م.

انتهت الفترة الأولى من عملية انتنطق السلطة بدون إراقة دماء، إلا حتى اللقاءات الأولى كان لا مفر منها وبالأخص مع الموالين من أتباع الشوگون المعزول وحاشيته. كان هؤلاء يخشون حتى يتم تجريدهم من أراضيهم ومن ممتلكاتهم، فقاموا بتسليح أنفسهم. اندلعت حرب أهلية بين الطرفين عهدت باسم "بوشين سنسو" (戊辰戦争)، لم تشهد أحداثها وقوع خسائر كبيرة. كانت أغلب الأطراف تنادي بإصلاح المؤسسات وتريد تحديث البلاد. اندلعت المعارك متعددة وفي أراتى متفرقة من البلاد بين أنصار النظام القديم والحكومة الجديدة. تم إخضاع أتباع النظام السابق في وسط اليابان بعد هزيمة هذه القوات في "توبا" و"فوشيمي". تقدمت القوات الحكومية ـ والتي يتشكل أغلب تعدادها من المعاقل الغربية للبلاد ـ إلى العاصمة "إيدو"، فتسلمت مفاتيح القصر الشوگوني بدون أية مقاومة تذكر. خاضت هذه القوات في العام الموالي (1869 م) معارك متفرقة ضد قوات معضلة من تحالف الكثير من الـ"دائي-ميو" والذين انضووا تحت راية عشيرة الـ"آئيزو". آخر المتمردين والذين كان على رأسهم قائد الأسطول الشوگوني السابق "إيموتوتاكي-آكي" تم دحرهم في "هوكاداته" في شهر يونيومن السنة نفسها (1869 م) .

رغم أحداث الحروب التي عهدتها البلاد، تم إصدار مرسوم إمبراطوري بتاريخ 25 من فبراير 1869 م يعلن انتهاء عملية إعادة السلم في البلاد. في شهر أكتوبر تم الإعلان عن ميلاد "الحكومة المستنيرة" وهي التسمية التي أطلقت على الفترة الزمنية التي تلت. اختارت الحكومة الاستقرار في "إيدو" (江戸) والتي تم إعادة تسميتها إلى "طوكيو" أو"العاصمة الشرقية" (東京).

الثورة السياسية

تدهور الحكم العسكري - أمريكا تطرق الباب - عودة السلطة الإمبراطورية - تغريب اليابان - التجديد السياسي - الدستور الجديد - القانون - الجيش - الحرب مع روسيا - نتائجها السياسية


تدهور الحكم العسكري

يندر حتى يأتي الموت إلى مدينة من خارجها، بل لا بد للانحلال الداخلي حتى يفت في نسيج المجتمع أولاً قبل حتى يتاح للمؤثرات أوالهجمات الخارجية حتى تغير جوهر بنائها، أوحتى تقضي عليها قضاء أخيراً؛ فقلماقد يكون للأسرة الحاكمة تلك الحيوية الدؤوب والمرونة السريعة التشكل، اللتان يتطلبهما استمرار السيادة، فمؤسس الأسرة المالكة يستنفذ نصف القوة الكامنة في أصلاب أسرته ثم يهجر لغير الممتازين من خلفه عبثاً لا يستطيع حمله إلا العباقرة؛ فأسرة "توكوجاوا" بعد "أيياسو" حكمت البلاد حكماً لا بأس به، لكننا لواستثنينا منها "يوشيموني" لما وجدنا بين أفرادها شخصيات بارزة تستوقف النظر؛ فما انقضت بعد موت "أيياسو" ثمانية أجيال حتى راح أمراء الإقطاع يزعزعون قوائم تلك الأسر العسكرية بثوراتهم التي ما فتئت تنهض حيناً بعد حين؛ فكانوا يسوِّفون في دفع الضرائب أويمتنعون عن دفعها؛ وعجزت خزانة "ييدو" - بالرغم من التدابير الاقتصادية العنيفة التي اتخذت - عن تمويل الدفاع القومي أوصيانة الأمن في البلاد(1). وقد مر على البلاد أكثر من قرنين حيث ساد السلام فتطرَّت خشونة "السيافين" وضعف احتمال الشعب لمكاره الحروب وتضحياتها؛ وحلَّت في الناس نزعات أبيقورية (ترمي إلى التمتع) محل البساطة الرواقية التي كانت سائدة في عهد هيديوشي؛ فلما حتى دعيت البلاد فجأة لحماية سيادتها، وجدت نفسها منزوعة السلاح بمعناه المادي والخلقي جميعاً؛ وانحل العقل الياباني بعمل اعتزالها الاتصال بالأجانب، وأخذ الناس يسمعون بتطلع قلق عن ازدياد الثروة وتغير المدنية في أوربا وأمريكا؛ وراح هؤلاء الناس يدرسون ما اتى بكتابي "مابوشي" و"موتو- أوري" وشاع بينهم في الخفاء حتى الحكام العسكريين مغتصبون للحكم، وقد فككوا باغتصابهم ذاك استمرار سيادة الإمبراطورية، ولم يستطع الشعب حتى يوفق بين الأصل الإلهي للإمبراطور، وبين فقره المدقع الذي فرضته عليه أسرة "توكوجاوا"؛ وجعل النادىة إلى قلب نظام الحكم العسكري القائم، يخرجون من مكانهم في "يوشيوارا" وغيرها ويغمرون البلاد بنشراتهم التي تحرض الناس على ذلك الانقلاب، وإرجاع الإمبراطور للحكم.

أمريكا تطرق الباب

ونزلت النازلة على رأس هذه الحكومة المرتبكة الفقيرة، حين شاع النبأ سنة 1853 بأن أسطولاً أمريكياً قد تجاهل الأوامر اليابانية التي تحرم دخول خليج أوراجا، ودخل ذلك الخليج، وأن قائده يلح في لقاءة صاحب السلطة العليا في اليابان، والحقيقة حتى "الكومودور بري" كان يقود أربع سفن حربية فيها خمسمائة وستون رجلاً، وبدل حتى يعرض هذه القوة المتواضعة عرضاً فيه معنى التهديد، أوفد مذكرة ودية إلى الحاكم العسكري "أييوشي" يؤكد له حتى الحكومة الأمريكية لا تطلب أكثر من فتح بضعة موان يابانية في وجه التجارة الأمريكية، واتخاذ بعض الإجراءات لحماية البحارة الأمريكيين الذين قد تتحطم بهم سفائنهم على الشواطئ اليابانية، ولم يلبث "بري" حتى اضطر إلى العودة إلى قاعدته في المياه الصينية بسبب "ثورة تاي - ينج"، لكنه عاد إلى اليابان من حديث سنة 1854 مسلحاً بقوة بحرية أكبر، ومزوداً بمختلف الهدايا المغرية - عطور وساعات ومدافئ وشراب الويسكي، يقدمها للإمبراطور والإمبراطورات وأمراء البيت المالك؛ غير حتى الحاكم العسكري الجديد "أييسادا" تعمد ألا يرسل هذه الهدايا إلى أفراد الأسرة المالكة، ووافق على توقيعه لمعاهدة "كاناجاوا" التي اعترفت بكل ما طلبه الأمريكان؛ وهنا أثنى "بري" على حسن لقاء أهل الجزر اليابانية، وأعرب مدفوعاً بقصر نظره أنه "لواتى اليابانيون إلى الولايات المتحدة، وجدوا المياه الصالحة للملاحة في البلاد مفتوحة أمامهم، وأنه ستفتح لهم أبواب مناجم المضى نفسها في كاليفورنيا"(2)؛ إلى غير ذلك فتحت الموانئ اليابانية الكبرى للتجارة الخارجية بمقتضى هذه المعاهدة وما تلاها من معاهدات؛ وحددت الضرائب الجمركية وفصِّلت مقاديرها وأنواعها؛ ووافق اليابانيون على حتى يحاكم المتهمون من الأوربيين والأمريكيين في اليابان أمام محاكمهم القنصلية؛ واشترطت شروط اتفق فيها على حتى يوقف اضطهاد المسيحية في الإمبراطورية اليابانية، ووافقت الولايات المتحدة في الوقت نفسه حتى تبيع لليابان جميع ما بحاجة إليه من أسلحة وسفن حربية، وأن تعيرها الضباط والصناع لعل هذه الأمة المسالمة مسالمة صبيانية حتى تتفهم على أيديهم فنون القتال(3).

عودة السلطة الإمبراطورية

وعانى الشعب الياباني أقسى عناء مما فرضته هذه المعاهدات عليه من فروض الذل، ولوأنه عاد فنظر إليها على أنها أدوات محايدة اتىته لتعمل على تطوره، وتقرير مصيره؛ وود بعض اليابانيين حتى يقاتل الأجانب مهما تكلف في سبيل ذلك، وأن يطردهم ويعيد للبلاد نظامها الزراعي الإقطاعي الذي يكفيها مؤونة الاعتماد على غيرها؛ لكن بعضهم الآخر كان من رأيه حتى تقليد الغرب أجدى من طرده من بلادهم؛ فالوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها اليابان حتى تتجنب الهزائم المتكررة والخضوع الاقتصادي الذي يشبه ما كانت أوربا تفرضه عندئذ على الصين؛ هي حتى تتفهم اليابان بأسرع طريقة ممكنة أساليب الصناعة الغربية، فن الحرب الحديثة؛ وهنا نهض الزعماء الداعون إلى تغريب البلاد، واستخدموا اللباقة البالغة في استخدام سادة الإقطاع أعواناً لهم في قلب الحكم العسكري، وإعادة الإمبراطور، وبعدئذ استخدموا السلطة الإمبراطورية في قلب نظام الإقطاع وإدخال الصناعة الغربية في البلاد، إلى غير ذلك وقع سنة 1867 حتى حمل أمراء الإقطاع "كيكي" - آخر الحكام العسكريين - على النزول عن سلطته، وقد نطق "كيكي": "إن معظم أعمال الإدارة الحكومية معيبة، وإني لأعترف خجلاً بأن الأمور في وضعها الراهن يرجع نقصها إلى ما أتصف به أنا من نقص وعجز، وهاهوذا اتصالنا بالأجانب يزداد يوماً بعد يوم؛ فما لم تتولَّ إدارة البلاد سلطة مركزية موحدة، انهار بناء الدولة انهياراً من أساسه"(4)؛ وعلى هذا القول أجاب الإمبراطور "ميجي" في اقتضاب قائلاً: "قد قبلنا ما عرضه توكوجاوا كيكي من إعادة السلطة الإدارية إلى البلاط الإمبراطوري، وفي اليوم الأول من يناير سنة 1868 بدأ العهد الجديد "عهد ميجي" بداية رسمية.

ورجعت الديانة الشنتوية القديمة، وقام أولوالأمر بنادىية قوية في الشعب حتى أقنعوه بأن الإمبراطور العائد إلى عرشه إلهيُّ النسب والحكمة، وأن ما يصدره من مراسيم يجب طاعته، كما تجب طاعة أوامر الآلهة.


تغريب اليابان

فلما حتى توفرت هذه القوة الجديدة لأنصار التغريب تمت على أيديهم معجزة أوما يوشك حتىقد يكون معجزة في تحول البلاد تحولاً سريعاً؛ فقد شق "إتوا" و"إنويي" طريقهما إلى أوربا رغم جميع ما صادفهما من صعاب وعقبات، ودَرَسَا أنظمتها وصناعاتها، ودهشا لطرقها الحديدية وسفنها البخارية، وأسلاكها البرقية وسفنها الحربية؛ ثم عادا إلى بلادهما تشتعل في صدريهما الحماسة الوطنية نحوتحويل اليابان إلى صورة أوربية، فدُعِي رجال من الإنجليز للإشراف على بناء السكك الحديدية وإقامة الأسلاك البرقية وتكوين الأسطول، كذلك دُعي رجال من الفرنسيين ليعيدوا صياغة القوانين ويدربوا الجيش؛ وكلف رجال من الألمان بتنظيم شؤون الطب والصحة العامة، واستخدم الأمريكان في وضع نظام للتعليم العام، ولكي يتم لهم الأمر من جميع نواحيه اتىوا برجال من إيطاليا ليفهموا اليابانيين النحت والتصوير(5)، وقد كان يحدث بعض الحركات الرجعية أحياناً، وكانت تصل هذه الحركات إلى حد إراقة الدماء، بل كانت الروح اليابانية كلها تثور آناً بعد آن على هذا التحول المصطنع الذي رج أوضاع الحياة كلها، لكن الآلة شقت طريقها آخر الأمر، ودخلت اليابان بلداً جديداً في نطاق الانقلاب الصناعي.

وحملت هذه الثورة من طبيعة الحال (وهي الثورة الوحيدة الحقيقية في التاريخ الحديث)، طبقة جديدة من الرجال إلى منازل الثروة والقوة الاقتصادية - منهم الصناع والتجار والممولون - وقد كان هؤلاء في اليابان القديمة يوضعون في أسفل درجات السلّم الاجتماعي؛ وجعلت هذه الطبقة (البرجوازية) الصاعدة تستخدم في هدوء ما أتيح لها من مال وقوة نفوذ في تحطيم النظام الإقطاعي أولاً، ثم عقبت على ذلك بالحد من سلطة العرش العائدة بحيث جعلت منها سلطة وهمية؛ ففي عام 1871 حملت الحكومة أشراف الإقطاع على النزول عن امتيازاتهم القديمة، وعوضتهم عن أراضيهم بسندات أصدرتها الحكومة .

ولما كانت الطبقة الأرستقراطية قد ارتبطت هكذا بروابط المصلحة المادية مع المجتمع الجديد، فقد بذلت خدماتها للحكومة عن ولاء ورضى، ومكنتها من تحويل البلاد من عصرها الوسيط إلى عصرها الحديث دون حتى تسفك الدماء في هذا السبيل، وكان "إيتوهيروبومي" قد عاد لتوه من زيارته الثانية لأوربا؛ فجرى في بلاده على غرار ما رآه في ألمانيا، إذ أنشأ بها طبقة عالية جديدة مؤلفة من خمس درجات:

أمير؛ فماركيز، فكونت، ففيكونت، فبارون.

لكن هؤلاء جميعاً لمقد يكونوا هم الأعداء الإقطاعيين للنظام الصناعي الجديد بل كانوا لهذا النظام أعوانه المأجورين.

جاهد "إيتو" في تواضعه جهاداً لم يعهد الكلل، ليحقق لبلاده ضرباً من الحكومة لا تعيبه العيوب التي بدت في عينيه عيوباً ناشئة من الإفراط في الديمقراطية، على ألا يحد ذلك من تجنيد أصحاب النبوغ وتشجيعهم مهما تكن طبقتهم الاجتماعية لكي يحققوا للبلاد رقياً اقتصادياً سريعاً؛ وتمكنت اليابان في ظل زعامته حتى تعلن أول دستور لها سنة 1889؛ فكان الإمبراطور في قمة البناء التشريعي، إذ كان من الوجهة الدستورية رأس الحكومة الأعلى، ومالكاً للأرض كلها، وقائداً للجيش والأسطول، المسئولين أمامه وحده، وهوالذي يكسب الإمبراطورية وحدتها واستمرارها وقوتها وسمعتها المستمدة من سمعة مليكها، وقد شاءت إرادته الكريمة حتى يفوض لقوته التشريعية إنشاء مجلسين نيابيين يظلان قائمين ما شاء هولهما حتى يقوما - مجلس الأشراف، ومجلس النواب، غير أنه هوالذي يعين وزراء الدولة، الذين يسألون أمامه وحده لا أمام مجلس البرلمان، وكان تحت هؤلاء طبقة من الناخبين عددها يقرب من أربعمائة وستين ألفاً، حصروا في هذه الدائرة الضيقة باشتراط مؤهلات كثيرة في الناخب من حيث مقدار ما يملكه؛ ثم ارتفع عدد الناخبين بعمل حركات تحريرية متعاقبة حتى بلغ ثلاثة عشر مليوناً في سنة 1928، ولكن فساد الحكومة كان يساير التوسع في الديمقراطية خطوة خطوة(6).

وساير هذا التقدم السياسي نظام تشريعي حديث (1881) قائم إلى حد كبير على تشريع نابليون، وهويحقق خطوة تقدمية جريئة بالنسبة لتشريع العصور الوسطى التي ساد فيها نظام الإقطاع؛ فمنحت للناس حقوقهم المدنية منحاً سخياً - إذ منحت لهم حرية الكلام وحرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية العبادة وعدم انتهاك الرسائل والبيوت، والحصانة من القبض والعقاب إلا بإجراء قانوني ، وحرم التعذيب والمحنة وفُكتْ عن جماعة الـ "إيتا" قيودهم الطبقية، وسُوِّى بين الطبقات كلها أمام القانون من الوجهة النظرية، وأصلحت السجون، ودفعت الأجور للمسجونين على عملهم، حتى إذا ما أطلق سراح المسجون أعطي مبلغاً من المال متواضعاً يبدأ به حياة جديدة في زراعة أوتجارة؛ وعلى رغم ما أتاحه هذا التشريع للناس من حرية فقد ظلت الجرائم قليلة الحدوث(7).

ولواعتبرنا رضى الناس بالقانون عن طواعية علامة على مدنيتهم، عددنا اليابان في طليعة الأمم الحديثة حضارة (إذا استثنينا عدداً قليلاً من حوادث الاغتيال).

ولعل أبرز ما يميز الدستور الجديد هوإعفاء الجيش والأسطول من جميع رئاسة إلا رئاسة الإمبراطور، فإن اليابان لم تنس قط ما سقط لها من ذل في عام 1853، ولذا صممت على إنشاء قوة عسكرية تمكنها من السيطرة على تقرير مصيرها بنفسها، وتجعلها في النهاية سيدة الشرق كله؛ فلم يكفها حتى تعمم التجنيد، بل جعلت من جميع مدرسة في البلاد معسكراً للتدريب الحربي، وثدياً يُرضع النشء بلبان الحماسة الوطنية؛ وكان لهؤلاء الناس استعداد عجيب للنظام والطاعة، سرعان ما انتهى بقوتهم العسكرية إلى درجة أتاحت لليابان حتى تخاطب "الأجانب الهمج" محاورة الند للند، كما أتاحت لها احتمال ابتلاعها للصين جزءاً جزءاً، وهوأمل طاف برأس أوربا، لكنه لم يتحقق لها؛ وحدث عام 1894 حتى أوفدت الصين حملة عسكرية لإخماد ثورة في كوريا، وأن لبثت تعيد وتكرر القول بأن كوريا دولة تابعة لسلطة الصين، فلم يعجب اليابان هذا كله، وأعربت الحرب على مفهمتها القديمة، وأدهشت العالم بسرعة فوزها إذ أرغمت الصين إرغاماً على الاعتراف باستقلال كوريا، وعلى التنازل لها عن "فرموزا" و"بورت آرثر" (على رأس شبه جزيرة لياوننج)، وعلى دفع تعويض مالي قدره مائتا مليون من التيلات، وقد أيدت ألمانيا وفرنسا روسيا في "نصحها" لليابان بالانسحاب من "بورت آرثر" لقاء زيادة في تعويضها المالي قدرها ثلاثون مليوناً من التيلات (والزيادة تدفعها الصين)، وخضعت اليابان لما طلب إليها، لكنها احتفظت بذكرى هذه المعاكسة على مضض، وراحت ترقب فرصة الانتقام.

الحرب الروسية اليابانية

ومنذ تلك الساعة أخذت اليابان تعد نفسها إعداداً جاداً لا يعهد اللهو، تعد نفسها للصراع مع روسيا صراعاً كان لا بد من وقوعه نتيجة اتساع الإمبراطوريتين في آمالهما الاستعمارية؛ ونجحت اليابان في إثارة مخاوف إنجلترا من احتمال التوغل الروسي في الهند فأبرمت مع سيدة البحار تحالفاً (1902-1922)، تعهدت به جميع من الدولتين حتى تساعد الأخرى إذا ما اشتبكت في قتال مع دولة ثالثة ودخلت دولة أخرى في القتال؛ وقلما وقّع الساسة الإنجليز على ما يقيد حريتهم جميع هذا التقييد الذي فرضته عليهم تلك المعاهدة؛ فلما بدأت الحرب مع روسيا سنة 1904 أقرض الممولون الإنجليز والأمريكان أموالاً طائلة لليابان، لتعينها على كسب النصر من القيصر(8)، واستولى "نوجي" على "بورت آرثر" وزحف بجيشه نحوالشمال قبل فوات الفرصة لإخماد مذبحة مكدن - وهي أفظع ما شهد التاريخ من مواقع دامية، قبل حتى يشهد حربنا العالمية (الأولى) التي لا يضارعها مضارع، والظاهر حتى ألمانيا وفرنسا فكرتا في مساعدة روسيا بالسياسة أوبالسلاح، لكن الرئيس روزفلت صرح بأنه إذا وقع شيء، كهذا، فلن يتردد في الوقوف إلى جانب اليابان(9)، وفي ذلك الوقت أقلع أسطول روسي قوامه تسع وعشرون سفينة، وشق طريقه جريئاً حول رأس الراتى الصالح، مرتحلاً بذلك رحلة لم يسبق لأسطول حديث حتى ارتحل مثلها طولاً، وذلك لكي يقابل اليابان في مياهها وجهاً لوجه؛ غير حتى الأميرال "توجو" استعان لأول مرة في تاريخ الأساطيل البحرية باللاسلكي، وظل على فهم متصل بسير الأسطول الروسي، ثم وثب عليه وثبة قوية في مضيق تسوشيما في السابع والعشرين من شهر مايوسنة 1905، وأبرق "توجو" لقادته جميعاً رسالة تصور نفسية اليابان كلها. إذ نطق: "إن نهوض الإمبراطورية أوسقوطها يتوقف على هذه المعركة"(10)، فقتل من اليابانيين فيها 116، وجرح منهم 538، وأما الروس فقتل منهم أربعة آلاف، وأسر سبعة آلاف، وأغرقت أوأسرت جميع سفنهم إلا ثلاثاً.

نتائجها السياسية

كانت "مسقطة بحر اليابان" نقطة تحول في مجرى التاريخ الحديث؛ فهي لم تقتصر على إيقاف التوسع الروسي في الأراضي الصينية، بل أوقفت كذلك سيطرة أوربا على الشرق، وبدأت ذلك البعث الذي اشتمل آسيا، والذي يبشر بأنقد يكون محور الحركات السياسية كلها في هذا القرن الحاضر؛ ذلك حتى آسيا كلها قد دبت فيها الحماسة حين رأت الإمبراطورية الجزرية الصغيرة تهزم أكثر دول أوربا عمراناً بأهلها، فدبرت الصين خطة لثورتها، وبدأت تحلم بحريتها، أما اليابان، فلم يَطُف ببالها حتى توسع من نطاق الحرية، بل فكرت في الزيادة من سلطانها؛ فانتزعت من روسيا اعترافاً بأن لليابان المكانة العليا في كوريا، ثم ما اتىت سنة 1910 حتى أعربت اليابان نهائياً ضم كوريا إليها رسمياً، وهي تلك المملكة القديمة التي بلغت من المدنية يوماً شأناً عظيماً، فلما توفي الإمبراطور "ميجي" عام 1912، بعد حياة طويلة طيبة أنفقها حاكماً وفناناً وشاعراً استطاع حتى يحمل معه إلى الآلهة الذين انسلوا اليابان رسالة بأن الأمة التي خلقوها، والتي كانت في بداية حكمه لعبة في يد الغرب الفاجر، قد باتت اليوم رفيعة المكانة في الشرق، وبترت شوطاً بعيداً في طريقها نحوحتى تكون محوراً للتاريخ كله.

الانقلاب الصناعي

حركة التصنيع

لم تلبث اليابان نصف قرن إلا وقد غيرت جميع وجه من أوجه حياتها؛ فتحرر الفلاح رغم فقره، وأصبح في مستطاعه حتى يملك جزءاً متواضعاً من الأرض يدفعه ضريبة سنوية أوأجراً سنوياً للدولة، ولم يكن من حق أحد من سادة الإقطاع حتى يقف في سبيله لوأراد حتى يهجر الزراعة ليلتمس وسيلة رزقه في المدن؛ ذلك لأن مدناً عظمى قامت عندئذ على طول الساحل؛ منها "طوكيو" (التي معناها العاصمة الشرقية) بقصورها الملكية والأرستقراطية وحدائقها الفسيحة وحماماتها المزدحمة وعدد سكانها الذي لم يفقها فيه إلا لندن ونيويورك، ومنها "أوساكا" التي كانت في سابق عهدها قرية للسّماكة وحصناً، فأصبحت اليوم جباً مظلماً من الأكواخ الحقيرة والمصانع وناطحات السحاب، وهي مركز الصناعات في اليابان، ومنها "يوكوهاما" و"كوبي" اللتين ترسلان من مرفأيهما الهائلين المعدين بكل ضروب الآلات الحديثة، تلك الصناعات إلى مئات المواني، محملة على ثاني أسطول تجاري في العالم .

واستعانت البلاد في وثبتها من نظام الإقطاع إلى النظام الرأسمالي باستخدامها لكل وسيلة ممكنة استخداماً لم يسبق له نظير؛ فاستدعت الخبراء الأجانب الذين وجدوا من مساعديهـم اليـابانيين طاعـة المـتحرق لمـعهدة إرشاداتهم؛ ولم تمض خمسة عشر عاماً، حتى تقدم المتفهمون الأذكياء فيما تفهموه تقدماً أعطى لليابان حتى تدفع للأخصائيين الأجانب آخر أجورهم وأن ترسلهم إلى أوطانهم بكل إجلال؛ واقتفت اليابان أثر ألمانيا، فاستولت الحكومة على البريد والسكك الحديدية والتلغراف والتليفون؛ لكنها في الوقت نفسه عرضت قروضاً سخية لمن يريد حتى ينهض لنفسه بصناعة ما، وجعلت تحمي تلك الصناعات الخاصة بالضرائب الجمركية العالية، من منافسة المصانع الأجنبية في سائر الأقطار؛ واستعانت البلاد بالتعويض المالي الذي أخذته من الصين بعد حرب سنة 1894 على تمويل حركة التصنيع في اليابان وتشجيع الصناعات، على نحوما استعانت ألمانيا بالتعويض الفرنسي سنة 1871 على استحثاث حركة التصنيع في أرضها؛ وشبهت اليابان ألمانيا قبل ذلك بجيل واحد، في قدرتها على البدء بآلات حديثة مقرونة بطاعة من العمال كالتي سادت في عصور الإقطاع، على حين كانت الدول الأخرى المنافسة لهما، تعاني من آلات قديمة وعمال ثائرين؛ وكانت مصادر القوة في اليابان رخيصة والأجور قليلة، كما كان العمال يخضعون لرؤسائهم خضوع الولاء؛ لهذا تأخرت عندهم قوانين تنظيم المصانع، وفرضت على العمال فرضاً لا عنف فيه(12)؛ وفي سنة 1933 كنت ترى مغازل "أوساكا" الجديدة لا بحاجة إلى أكثر من فتاة واحدة لكل خمس وعشرين آلة، بينما كانت مغازل لانكشير القديمة تتطلب رجلاً لكل ست آلات(13).

المصانع

وتضاعف عدد المصانع ما بين 1980 و1918؛ ثم تضاعف مرة أخرى بين 1918 و1924، حتى إذا ما كانت 1931 زادت المصانع نصف عددها(14) بينما كانت الصناعة في الغرب عندئذ تخوض أغوار أزمة عميقة؛ وفي سنة 1933 كانت لليابان الصدارة الأولى في تصدير المنسوجات، بحيث أوفدت بليوني ياردة من الخمسة بلايين ونصف البليون من ياردات المنسوجات القطنية التي استهلكها العالم في ذلك العام(15)؛ وفي سنة 1921 تنازلت عن معيار المضى، وسمحت لعملتها الـ "ين" حتى تهبط إلى أربعين في المائة من قيمتها السابقة في التجارة الدولية، وبذلك استطاعت حتى تحمل مبيعاتها في الخارج خمسين في المائة عما كانت بين عامي 1932 و1933(16)؛ وازدهرت التجارة الداخلية كما ازدهرت التجارة الخارجية، وأتيح لأسرات تجارية كبرى، مثل أسرتي "متسوي" و"متسوبيشي" حتى تكدسا ثروة طائلة جعلت رجال الجيش يتحالفون مع طبقات العمال في حركة ترمي إلى جعل الحكومة تتولى بنفسها، أوتفرض رقابتها على الصناعة والتجارة.

الأجور

وبينما كان التقدم التجاري يخلق طبقة وسطى جديدة من الأغنياء، كان العمال الذين ينتجون بأيديهم يتحملون عبء الأثمان المنخفضة التي جعلتها اليابان أداة تهزم بها منافساتها في الأسواق العالمية؛ فكان متوسط أجر العامل سنة 1931 - 1.17 من الريال جميع يوم، ومتوسط أجر العاملة 48 سنتاً في اليوم؛ وكان واحد وخمسون في جميع مائة من العمال نساء، كما كان اثنتا عشر في جميع مائة ممن تقل سنهم عن ستة عشر عاماً.

الاضرابات

وكانت الإضرابات كثيرة الوقوع، والشيوعيـة تزداد اتساعـاً، حتى هبت على البلاد روح الحرب سنة 1931، فنفخت في الناس وطنية دعتهم إلى التعاون والتماسك؛ وحرم القانون "الآراء الخطيرة"، وفرضت قيود شديدة على نقابات العمال التي لم تبلغ قط مبلغ القوة في اليابان(20).

الفقر

واتسعت رقعة المساكن الفقيرة في أوساكا وكوبي وطوكيو، فقد كانت الأسرة ذات الخمسة أعضاء في طوكيوتسكن من تلك المنازل الفقيرة غرفة تبلغ في المتوسط من ثماني أقدام إلى عشرة أقدام مربعة - وهي مساحة لا تزيد إلا قليلاً عن المساحة التي يشغلها سرير لشخصين؛ وكان يسكن في أمثال هذه المساكن في مدينة كوبي عشرون ألفاً من المتسولين والمجرمين والشائهين والبغايا، كانوا يسكنون في قذارة بلغت حداً جعل الوباء يتفشى فيهم مرة جميع عام، وزادت نسبة الوفيات في الأطفال أربعة أمثال ما كانت عليه في بقية اليابان(21)، ونهض شيوعيون مثل "كاتاياما"، واشتراكيون مسيحيون مثل "كاجاوا" يقاومون بالعنف أوباللين تلك الحالة السيئة، حتى استيقظت الحكومة آخر الأمر وقامت بحركة تطهيرية لتلك المساكن الفقيرة ، لم يشهد التاريخ أعظم منها.

وقد خط "لافكاديوهيرن" منذ جيل، يعبر عن رأيه الناقم على النظام الحديث في اليابان، فنطق:

"إن التاريخ لم يشهد قط فيما مضى أمثال هذه الألوان من البؤس التي تجد مجالها في ظل النظام الجديد؛ وتستطيع حتى تكوّن لنفسك صورة تقريبية عن هذا البؤس، إذا عهدت حتى عدد الفقراء في طوكيوالذين يعجزون عن دفع ضريبة المسكن، يربوعلى خمسين ألفاً، ومع ذلك فهذه الضريبة لا تزيد قيمتها على عشرين "سنًّا" وهوما يقابل عشرين "سنتا" بالعملة الأمريكية؛ ولم يكن في أي جزء من أجزاء اليابان مثل هذا العوز قبل حتى تتراكم الثروة في أيدي نفر قليل - إلا إذا استثنينا من طبيعة الحال الأعقاب المؤقتة التي تلحق عهود الحرب".

وجهة نظر يابانية

ولاشك حتى "تراكم الثروة في أيدي نفر قليل" عامّ في العالم كله، والظاهر أنه عامل مصاحب للمدنية لا يتخلف؛ ويقول الممولون اليابانيون، إذا أجور العمال هناك ليست أقل مما ينبغي إذا روعي عدم كفايتهم في العمل نسبياً، وإذا روعي إلى جانب ذلك رخص العيش في اليابان(23)، والرأي في اليابان هوحتى الأجور المنخفضة شرط لازم لانخفاض الأسعار، وانخفاض الأسعار شرط لازم للسيطرة على الأسواق الخارجية، والأسواق الخارجية شرط لازم لصناعة تعتمد على حديد وفحم يستوردان من الخارج؛ والصناعة شرط لازم لسد حاجات شعب يتزايد عدده في جزء لا تصلح الزراعة إلا في اثني عشر في جميع مائة جزء من أجزاء أرضها، وهي كذلك ضرورية لاكتساب الثروة وإعداد السلاح اللذين بغيرهما لا تستطيع اليابان حتى تحمي نفسها ضد عدوان الغرب.

الانقلاب الثقافي

التغيير في الشباب - وفي آداب السلوك - الخلق الياباني - الأخلاق والزواج في فترة انتنطق - الدين - الفهم - الطب في اليابان - الفن والذوق - اللغة والتعليم - القصص الطبيعي - صورة جديدة من الشعر


إنا لنسأل هل تغير الشعب نفسه نتيجة للانقلاب الصناعي،يا ترى؟ إذا العين لتلمح بعض ألوان التجديد؛ فالبدلة الأوربية المقبضة ذات الشعبتين، قد سيطرت على معظم سكان المدن ولَفَّتْ أبدانهم، غير حتى النساء مازلن يرتدين ثياباً فضفاضة زاهية الألوان، يربطها عند الوسط شريط مزخرف يلتئم طرفاه بعقدة عريضة عند الظهر ، وحدثا أصلحت الطرق حلت الأحذية محل القباقيب الخشبية؛ غير حتى نسبة كبيرة من الجنسين ما تزال تمشي بأقدام حافية سليمة من التشويه؛ وإذا نظرت خلال المدن الكبرى ألفيت جميع ضروب التشكيلات والهجريبات التي تجمع بين الثياب الوطنية والثياب الغربية، كأنما أرادوا بذلك حتى يرمزوا إلى تحول اسُتعجلَت خطواته فابتُسر ابتساراً.

ولا تزال آداب المعاملة عندهم نموذجاً "للتشريفات" الدبلوماسية، ولوحتى الرجال ما برحوا عند عادتهم القديمة في تقدمهم على النساء، إذا ما دخلوا غرفة أوخرجوا منها، أومشوا في الطريق؛ واللغة عندهم نسيج وحدها في احتشامها، فقلَّ حتى يداخلها فحش في اللفظ، وتراهم يكسون بغطاء ظاهري من التواضع احتراماً للنفس يبلغ حد التوحش، وآداب السلوك قد تبلغ من رقتها حداً يلطف من حدة العداوة مهما بلغت مـن استيلائها على النفوس، والخـلق الياباني - شأنه شأن الخلق الإنساني في جميع بقاع الأرض - مؤلف من أشتات متناقضة، لأن الحياة تضعنا في ظروف مختلفة جميع حين، وتتطلب منا حتى نأخذها بالشدة حيناً والرقة حيناً، وباليسر حيناً وبالصرامة حيناً، وبالصبر حيناً والشجاعة حيناً، وبالتواضع حيناً والكبرياء حيناً، لهذا لا ينبغي لنا حتى نأخذ على أهل اليابان جمعهم بين العاطفية والواقعية، وبين رقة الإحساس وصرامة الجد في الحياة، وبين طلاقة التعبير والكتمان، وبين سرعة التأثر وكبح الجماح؛ إنهم يغلب عليهم المرح والفكاهة وحب المتعة، ويميلون إلى الانتحار الذي يروع المتفرج بمنظره، وهم رقاق القلب - نحوالحيوان غالباً ونحوالمرأة أحياناً - لكنهم قساة في بعض الأحيان على الحيوان والرجال ، وإن الياباني الصادق في يابانيته ليتصف بكل صفات الجندي المحارب - الاعتداد والشجاعة والاستعداد لملاقاة الموت استعداداً لا يضارعه فيه مضارع؛ ومع ذلك كله تراه في كثير من الأحيان يحمل بين جنبيه روح الفنان - فهومرهف الحس سهل التأثر رقيق نشيط محب للاطلاع والبحث ذوولاء وصبر، وله قابلية شديدة لاستيعاب التفصيلات، وهوذودهاء وحيلة ككل ذي جسد ضئيل، وذكاؤه وقّاد، تراه لا يبرع في الخلق الفكري، لكنه قادر على الفهم السريع والاقتباس والمهارة العملية؛ ولقد اجتمعت في الياباني روح الرجل الفرنسي وغروره، وشجاعة البريطاني وضيق أفقه، وحرارة الإيطالي واستعداده للفنون، ونشاط الأمريكي وميله للتجارة، وحساسية اليهودي ودهاؤه.

ثم اتى اتصالهم بالغرب وصراعهم معه، فغيروا حياة اليابان الأخلاقية وطرائق السلوك فيها، غير حتى أمانتهم التقليدية لا تزال قائمة بينهم إلى حد كبير، وإن يكن التوسع في حقوق الانتخاب وحدَّة التنافس التي تلازم التجارة الحديثة، قد أدخلا اليابان نصيبها النسبي من الرشوة التي هي من خصائص الحكم الديمقراطي، والقسوة التي تتصف بها الحياة الصناعية، وخفة اليد في عالَم المال؛ نعم إذا "خُلُق الفرسان" (ويسمونه بوشيدو) لا يزال باقياً هنا وهناك بين طبقات الجنود العليا، ولذا فهوبمثابة الضابط الأرستقراطي الخفيف للجموح الشيطاني الذي استولى على عالمي التجارة والسياسة؛ والاغتيال كثير الوقوع على الرغم مما تتصف به عامة الناس من طاعة القانون والصبر على أحكامه - والاغتيال هناك لا يقع خلاصاً من استبدادية رجعية، بل يقع عادة لتشجيع روح الوطنية التي لا تبالي الاعتداء؛ من ذلك حتى "جمعية الأفعوان الأسود" التي يرأسها "توياما" الذي يظهر في مظهر المنبوذ، قد كرست نفسها أكثر من أربعين عاماً، لبث سياسة غزوكوريا ومنشوريا بين أصحاب المناصب الحكومية في اليابان ، وقد اتخذت الاغتيال أداة للوصول إلى هذا الغرض، ومنها اكتسب الاغتيال مهمة شعبية ظل يقوم بها في تحريك العالم السياسي في اليابان(26).

لقد شارك الشرق الأقصى بلاد الغرب في الاضطراب الخلقي الذي يصحب جميع تغير عميق يتناول الأساس الاقتصادي للحياة؛ وازدادت الحرب التي ما فتئت قائمة بين الأجيال المتعاقبة، بين الشباب الطافح بحماسته، وبين الشيوخ المفرطين في حرصهم، ازدادت تلك الحرب حدة لنموالصناعة التي تعمل على إبراز شخصية الفرد، ونتيجة لإضعاف الإيمان الديني؛ فالانتنطق من الريف إلى المدينة، وإحلال الفرد محل الأسرة باعتباره الوحدة القضائية المسئولة للمجتمع الاقتصادي والسياسي، قد قوض أركان السلطة الأبوية، وأخضع عادات القرون الطويلة وأخلاقها للحكم المتسرع الذي يحكم به المراهق على أمثال هذه الأمور؛ وكنت ترى الشباب في المدن الكبرى يثورون على نظام الزواج تحت إشراف الأبوين، وترى العروسين لا يجريان على مألوف العادات من حيث السكنى في بيت والد العريس، بل هما أميل إلى إنشاء بيت مستقل أو"شقة" مستقلة؛ هذا إلى حتى سرعة تصنيع النساء قد حتم انحلال الروابط التي كانت تربطهن بالدار واعتمادهن في العيش على الرجال؛ والطلاق في اليابان قد كثر حتى شابه الحال في أمريكا، بل هوهناك أخف عاقبة منه في أمريكا، لأن الرجل قد يستطيع الطلاق بمجرد توقيعه على دفتر للتسجيل، ودفعه رسوماً تبلغ ما يساوي عشر "سنتات"(27)، ولئن حرم القانون نظام الخليلات إلا أنه لا يزال قائماً عملاً يتمتع به جميع من تمكنه حالته المالية من تجاهل القانون(28).

والآلة هي عدورجل الدين في اليابان كما هي في سائر أنحاء العالم، ولما استوردت اليابان من إنجلترا أوضاعها الصناعية الفنية، استوردت معها "سبنسر" و"ستيورت مِلْ"، وبهذا أسدل الستار فجأة على سيادة الممضى الكنفوشيوسي في الفلسفة اليابانية، ولقد نطق تشمبرلين سنة 1905: "إن الجيل الموجود الآن في المدارس يتشكل على صورة فولتيرية واضحة المعالم"(29)، ومن نتيجة هذا الاتجاه نفسه حتى ازدهر الفهم بارتباطه الحديث بالآلة، واكتسب في اليابان قلوب أعظم الباحثين في عصرنا هذا، بحيث انصرفوا إليه مخلصين على نحوما نعهده في اليابانيين من الولاء فيما يخلصون له ؛ فالطب في اليابان - على الرغم من اعتماده في معظم مراحله على الصين وكوريا - قد تقدم تقدماً سريعاً حين احتذى مثل الأوربيين واندفع بحافزهم، وخصوصاً الألمان؛ وإذا أردت حتى تفهم مدى السرعة التي انتقلت بها اليابان من فترة التتلمذ إلى فترة الأستاذية التي أخذت تفهم فيها العالم أجمع، فانظر إلى ما عمله "تاكامين" في استكشافه للأدرنالين وفي دراسته للفيتامينات؛ وما أداه "كيتاساتو" في سقم التتنوس وفقر الدم، وفي تقدم التلقيح ضد الدفتريا؛ ثم ما عمله ألمعهم جميعاً وأشهرهم جميعاً، وهو"نجوشي" في سقم الزهري وسقم الحمى الصفراء.

ولد "هيديونجوشي" سنة 1876 في إحدى الجزر الصغرى، من أسرة بلغ بها الفقر حداً جعل أباه يهجر أسرته حين فهم حتى طفلاً ثانياً في طريقه إلى الحياة؛ وأهمل الوليد هذا إهمالاً جعله يسقط في مدفأة فاحترقت يده اليسرى حتى شاهت، وأوذيت يده اليمنى إيذاء كاد يفقد نفعها، فكان حتى اجتنبه التلاميذ في المدرسة لما في جسده من وصمات وتشويه، وراح الناشئ يفكر في الانتحار، لكن جراحاً قدم إلى القرية حينئذ، وعالج له يده اليمنى علاجاً ناجحاً، واعترف "نجوشي" للجراح بالجميل اعترافاً جعله يقرر لتوه حتى يكرس نفسه للطب؛ ومن أقواله عن نفسه سأكون نابليون ينقذ البشرية لا نابليون يفتك بها، إنني أستطيع الآن حتى أعيش معتمداً على نعاس أربع ساعات في الليل"(30)؛ وكان "نجوشي" مفلساً، فاشتغل في صيدلية حتى حمل صاحبها على رصـد مبلغ مـن المال يتفهم بـه الطب؛ وبعـد حتى تخرج فـي الطب من الجامعة، مضى إلى الولايات المتحدة وعرض خدماته على الهيئة الطبية في الجيش في واشنطن لقاء نفقاته؛ وهيأت له مؤسسة روكفلر للأبحاث الطبية معملاً، وشرع "نجوشي" يعمل وحده لا يشاركه أحد على الإطلاق في إجراء التجارب والقيام بالبحث الفهمي، مما انتهى إلى أطيب الثمرات؛ فهوالذي ابتكر أول عينة خالصة من جراثيم الزهري، وكشف عن أثر الزهري في الشلل العام وفي الشلل البطيء الذي يصيب حركة العضلات، وأخيراً استطاع في سنة 1918 حتى يعزل طفيليّ الحمى الصفراء؛ فلما كسب الشهرة والثروة المؤقتة، عاد إلى اليابان، وكرَّم أمه العجوز، وجثا على ركبتيه أمام الصيدلي الذي أنفق على دراسته الطبيعية اعترافاً له بالجميل، ثم مضى إلى أفريقيا ليدرس الحمى الصفراء التي كانت تفتك بساحل المضى من أوله إلى آخره، فأصابته هذه الحمى ومات سنة 1928؛ ومما يزيدنا حسرة على موته أنه لم يكن قد بلغ من العمر أكثر من اثنين وخمسين عاماً.

كان التقدم الفهمي في اليابان - كما كان كذلك في الغرب - مصحوباً بانحلال في الفنون التقليدية؛ فتقويض الطبقة الأرستقراطية القديمة قد قوض عشاً كان يترعرع فيه حسن الذوق، وراحت الأجيال بعدئذ تتخذ لنفسها ما شاء لها هواها من معايير الجمال، بحيث يستقل جميع جيل في معياره الذوقي عما سلفه؛ وتدفقت الأموال من البلاد الخارجية سعياً وراء المنتجات الوطنية، فأدى ذلك إلى الإنتاج السريع الذي يعني بالكم وحده، وانحطت مستويات الرسوم اليابانية تبعاً لذلك، فلما عاد الشارون إلى طلب المصنوعات القديمة، انقلب الصناع جماعة من المزورين، وأصبحت صناعة الآثار القديمة في اليابان - كما هي الحال في الصين - أروج الصناعات في الفنون الحديثة؛ ولعل جانب الصناعة الخزفية المعروف باسم Coloisonne حتىقد يكون الفرع الوحيد من فروع تلك الصناعة، الذي تقدم في اليابان منذ قدوم الغرب إلى البلاد؛ فالانتنطق المضطرب من الصناعة اليدوية إلى الصناعة الآلية، وهجمة الأذواق والأساليب الأجنبية على أهل البلاد متسترة برداء من الظفر والثروة، قد أدى إلى زعزعة الحس الجمالي عند اليابانيين وإضعاف ذوقهم بحيث لم يعد على ما كان عليه من ثبات؛ وهاهي ذي اليابان قد اختارت السيف اتجاهاً، فلعلها قد كُتب لها حتى تعيد تاريخ الرومان - بأن تقلد في الفن - وتسود في الإدارة والحرب . لقد لبثت الحياة العقلية في الإمبراطورية الحديثة جيلاً اتجهت خلاله نحوممالأة الأساليب الغربية، فتكاثرت الحدثات الأوربية في لغة القوم، ونظمت الصحف على الطريقة الغربية، وأنشئت مجموعة من المدارس العامة على غرار المدارس النموذجية الأمريكية؛ إذ صممت اليابان تصميم الأبطال على حتى تجعل من نفسها أمة تكون أسبق أمم الأرض جميعاً في إزالة الأمية، وقد نجحت فيما أرادت، ففي سنة 1925 كان يختلف إلى المدارس من أبناء البلاد 4ر99 في المائة(31)، وفي سنة 1927 كان في مستطاع 93 في جميع مائة من أهل البلاد جميعاً حتى يقرءوا(32)؛ فقد أقبل الطلاب على الحركة العهدانية الفهمانية الجديدة إقبالاً فيه حرارة الإيمان الديني، حتى لقد أفسد مئات منهم صحة أبدانهم بسبب حماستهم في كسب الفهم(33)؛ واضطرت الحكومة اضطراراً حتى تتخذ الوسائل الفعالة لتشجيع الرياضة البدنية والألعاب بكافة صنوفها، القومي منها والمستعار من البلاد الخارجية؛ وخرج التعليم من كنفه الديني واصطبغ بصبغة فهمانية أكثر مما اصطبغ به التعليم في معظم الأقطار الأوربية؛ وأعينت خمس جامعات إمبراطورية، وقامت إحدى وأربعون جامعة أخرى - قد تقل في نزعتها الإمبراطورية عن تلك الخمس - وضمت بين جدرانها آلاف الطلاب المتحمسين؛ وفي سنة 1931 كانت الجامعة الإمبراطورية في طوكيوتشتمل على 8064 طالباً، وجامعة كيوتوتشتمل على 5552 طالباً(34).

وأما الأدب الياباني في الربع الأخير من القرن (التاسع عشر) فقد أفنى نفسه في سلسلة من ألوان المحاكاة، وتوالت على الطبقة المثقفة موجات الحرية الإنجليزية والواقعية الروسية والفردية المجالية والبراجماتية الأمريكية، فاكتسحتها واحدة بعد واحدة، حتى عادت روح الوطنية فأكدت نفسها، وبدأ الكتاب اليابانيون يكشفون عن مادتهم القومية فيعبرون عنها بأساليبهم القومية؛ وقد ظهرت فتاة شابة تدعى "إيشي يو" فافتتحت حركة في كتابة السيرة تنحومنحى الممضى الطبيعي قبل موتها سنة 1896 وهي في عامها الرابع والعشرين، وذلك بتقديمها صورة ناصعة عن تعاسة النساء وذلهن في اليابان(35)، وفي سنة 1906 دفع الشاعر "توسون" هذه الحركة إلى أوجها بسيرة طويلة عنوانها "هاكاي" أي عدم الوفاء بالعهد، قصَّ فيها بنثر شعري سيرة مفهم وعد أباه ألا يفضح عن نفسه حقيقتها وهي أنه من طبقة "إيتا" أي الطبقة التي انحدرت من أسلاف عبيد، وبهذا أتيح له بما كان له من قدرة وما ظفر به من تعليم حتى يحتل مكانة عالية، فأحب فتاة مهذبة من ذوات المكانة الاجتماعية؛ وبعدئذ فار فورة صدق اعترف فيها بأصله، وتنازل عن حبيبته ومكانته، وغادر اليابان لغير عودة، فكانت هذه السيرة عاملاً قوياً في تحريك النفوس تحريكاً انتهى آخر الأمر بإسدال الستار على العوائق التي لبثت طوال التاريخ مفروضة على طبقة "إيتا".

وكانت صورتا الشعر الموجز المعروفتان باسم "تانكا" و"بوكا" آخر صور الثقافة اليابانية استسلاماً للمؤثرات الغربية، إذ لبثتا أربعين عاماً بعد عودة الإمبراطور إلى عرشه العملي، هما الصورتين المنشودتين لقرض الشعر الياباني، وفني الروح الشعري في آيات معجزات من البراعة والصناعة، حتى كان عام 1897، ظهر مفهم شاب، هو"توسون" في "سنداي"، وباع لأحد الناشرين ديواناً من الشعر بخمسة عشر ريالاً، فاتى هذا الديوان بقصائده الطويلة ثورة تكاد تبلغ في عنفها مبلغ أية ثورة أخرى مما زعزع نسيج الدولة؛ وكان الشعب قد ملَّ الأقوال القصيرة الرشيقة، فأقبل على هذا الديوان (ذي القصائد الطويلة) إقبال الشاكر، وسبَّبَ بإقباله هذا ثراء للناشر؛ وسار بعض الشعراء الآخرين في إثر توسون، وانتهى الأمر بصورتي الشعر الموجز الـ "تانكا" والـ "بوكا" حتى أسلمتا زمام السيطرة بعد حتى ظلتا ممسكتين به ألف عام(36).

وعلى الرغم من ظهور هذه الصور الشعرية الجديدة، فقد ظلت "المباراة الإمبراطورية في قرض الشعر" قائمة كما كانت؛ فالإمبراطور يعلن في جميع عام موضوعاً، ثم يسوق مثالاً بنشيد يمليه في ذلك الموضوع؛ وتقتفي الإمبراطورة أثره، وبعدئذ يرسل خمسة وعشرون ألف شاعر ياباني من كافة الأشكال والطبقات، يرسل هؤلاء قصائدهم إلى "مخط الشعر" في القصر الإمبراطوري، وتشكل لها هيئة تحكيم من أعلى أعلام البلاد؛ حتى إذا ما انتهى التحكيم إلى القصائد العشر الأولى، قرأت على الإمبراطور والإمبراطورة، وطبعت في الصحف اليابانية في العدد الذي يصدر في اليوم الأول من العام(37)، فياله من تقليد بديع خليق حتى يدير النفس لحظة عن دنيا التجارة والحروب، وهويشير على حتى الأدب الياباني مازال جزءاً حيوياً في حياة أمة هي أكثر الأمم حيوية في العالم المعاصر.

المصادر

  • "تاريخ اليابان"

ول ديورانت. سيرة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود. Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

وصلات خارجية

  • Japanese Meiji Period Architecture (1868-1912)
  • Essay on The Meiji Restoration Era, 1868-1889 on the About Japan, A Teacher's Resource website
تاريخ اليابان

-- الفترات القديمة: اليابان البدائي - فترة جومون - فترة يايوئي - فترة ياماتو- فترة كوفون - فترة أزوكا - فترة نارا - فترة هـِيْ‌آن
-- العصور الوسطى: فترة كاماكورا - فترة موروماتشي - فترة المقاطعات المتحاربة - فترة أزوشي موموياما - فترة نان‌بان
-- الفترة الحديثة: فترة إيدو- إستعراش مييجي - فترة مييجي - فترة تائيشو- فترة شووا - التوسع الياباني - اليابان المحتل
-- فترة ما بعد الحرب: يابان ما بعد الحرب - فترة هـِيْ‌سـِيْ

تاريخ النشر: 2020-06-06 00:09:25
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, Meiji Restoration, 19th century in Japan, Japanese governmental reforms, تاريخ اليابان

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

نائبة أمريكية تحث العسكريين الأمريكيين على وقف "غزو وشيك"

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:42
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 93%

بايدن يجدد مطالبته للكونغرس بحظر الأسلحة الهجومية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:42
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 93%

عصر جديد من الحرب افتتحته كييف.. الذكاء الاصطناعي والدرون 

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:17:10
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 87%

رئيس تركمانستان يتلقى دعوة لحضور الاحتفالات بعيد النصر في موسكو

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:47
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 94%

شي جينبينغ يستضيف الأسبوع المقبل قمة أولى للصين ودول آسيا الوسطى

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:24
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 86%

عمليات إجلاء جديدة جراء الحرائق في غرب كندا

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:26
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 94%

"إرنا": مقتل إرهابي اشتهر بشن هجمات على الشاحنات الإيرانية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:32
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 89%

اليمين المتطرف في تشيلي يفوز باقتراع لصياغة دستور جديد

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:20
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 94%

زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الإكوادور

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:31
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 100%

الجيش الأوكراني: دمرنا 35 طائرة مسيرة أطلقها الروس ليلاً

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:17:11
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 87%

الناطق باسم أردوغان: الغرب يعارض إنهاء النزاع الأوكراني

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:39
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 97%

اليمين المتطرف في تشيلي مكلف بوضع دستور جديد

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:44
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 88%

محادثات جدة تستمر أياماً..أملاً بهدنة ثابتة في السودان

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:17:13
مستوى الصحة: 89% الأهمية: 93%

إيران ترحب بنجاح سوريا في استعادة مقعدها في جامعة الدول العربية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:38
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 90%

إعدام شخصين في إيران لادانتهما بإهانة المقدسات الإسلامية

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:23
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 97%

بيرو.. مقتل 27 عاملا جراء حريق في منجم ذهب

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:36
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 93%

اجتماع ثلاثي أردني كويتي سعودي في القاهرة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:41
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 95%

الأمم المتحدة تدعو "طالبان" لوقف عقوبات الجلد والإعدام والرجم

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:35
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 86%

اليابان.. نقل عشرات الأطفال إلى المستشفى بسبب "رائحة نفاذة"

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:33
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 90%

اشتباكات في نابلس وحملة اعتقالات في الضفة الغربية

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-08 09:16:46
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 97%

تحميل تطبيق المنصة العربية