العز بن عبد السلام

العز بن عبد السلام الفقيه الدمشقي الذي برز في عصر الحروب الصليبية وعاصر الدول الإسلامية المنشقة عن الخلافة العباسية في عصرها الأخير. ولعل أبرز نشاطه في ريادة الدعوة للقاءة الغزوالمغولي التتري ووقوفه إلى جانب الحكام الذين قادوا المقاومة والحرب الدفاعية ضد الغزاة - ووقوفه خاصة بجانب السلطان قطز ( المملوكي) الذي كان قائد قوات السلطان عز الدين أيبك ؛ ومن أغرب وأطرف مسائله ؛ إفتائه بملكية المماليك للشعب وإمكانية بيعهم لصالح الشعب في الوقت الذي كان المماليك يحكمون ويسوسون الشعوب العربية كالمصريين.

أصله ونسبه

مولد العز بن عبد السلام ولد العز بن عبد السلام في بلدة ( كفرالماء ) في محافظة اربد شمال الأردن وكانت في ما تجاوز من أعمال دمشق وهذا يفسر لنا ما تذكره بعض الخط من أنه ولد في دمشق والصواب أنه ولد في بلدة كفرالماء، وقد ذكر ذلكمجبر الدين الحنبلي في كتابة ( الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل ) ثم رحل إلى دمشق وتلقى تعليمه فيها.

أبومحمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن مهذّب السُلمي مغربي الأصل، ولد بمدينة دمشق وهوشافعي الممضى، أشعرى العقيدة ملقب بسلطان الفهماء وبائع الملوك والأمراء. اشتهر باسم العزّ بن عبد السلام. وُلد الإمام الشيخ العز بن عبد السلام في دمشق عام 578 هـ، وعاش فيها وبرز في الدعوة والفقه ،توفي سنة/ 660/هـ في مصر. وقد وصفه رحمة الله عليه(( رانه له في وجهه قسامة ، ولأساريره قسامة ، جليلاً مقبول الصورة ، وكان ذوشخصية قويه ، وكان في مظهره من الملبس وغبره متواضعاً، وكان لايتأنق ليزيف عن نفسه ولا ليكذب في الحشمة ولا يستألف الوقار استألافا ، ولم يكن يتقيد بلبس العمامه والتي كلنت عادة الفهماء والفقهاء في عصره، وقد يلبس قبعة اللباد ( طاقية من الصوف الصوف يغلب عليها اللون الداكن اوالابيض ) وكان يحضر المواكب الرسمية به.

طلبه للفهم ونشأته

عاش العز بن عبد السلام في دمشق في كنف أسرة متدينة فقيرة مغمورة، وهذه تربة صالحة للنبوغ والتفوق، وابتدأ الفهم في سن متأخرة. يروي السبكي سيرة ذلك عن والده: "كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيرا جدا، ولم يشتغل إلا على كبر (أي في الفهم)، وسبب ذلك أنه كان في بيت في الكلاَّسة –وهي الزاوية والبناء والمدرسة عند الباب الشمالي للمسجد الاموي- من جامع دمشق، فبات بها ليلة ذات برد شديد فاحتلم، فقام مسرعا، ونزل في بركة الكلاسة، فحصل له ألم شديد من البرد، وعاد فنام، فاحتلم ثانية، فعاد إلى البركة، لأن أبواب الجامع مغلقة، وهولا يمكنه الخروج، فطلع فأغمي عليه من شدة البرد، أنا أشك (والد السبكي يتحدث) هل كان الشيخ الإمام يحكي حتى هذا اتفق له ثلاث مرات أومرتين فقط، ثم سمع النداء في المرة الأخيرة: يا ابن عبد السلام، أتريد الفهم أم العمل،يا ترى؟ فنطق الشيخ عز الدين: الفهم لأنه يهدي إلى العمل، فأصبج وأخذ التنبيه –وهوأبرز كتاب مختصر في الفقه الشافعي للشيرازي، ويعتبر الكتاب الأول للمبتدئين- فحفظه في مدة يسيرة، وأقبل على الفهم حتى صار أفهم أهل زمانه، ومن أعبد خلق الله."

وتدل هذه السيرة على حتى العز نشأ في أسرة دينية ومجتمع إسلامي، ومحيط فهمي، يقدر الفهم ويجل شأنه، كما أنها تدل على الورع والتقوى، وصرامة العز في دينه وقوة شكيمته، وتحمله الصعاب والشدائد في سبيل سقماة الله. (ليس كبعض شبابنا الملتزم اليوم، يجري وراء الرخص من هنا وهناك، سواء كانت بدليل راجح اومرجوح، وسواء كان ممن تجوز لهم هذه الرخص أم لا)

قصد العز الفهماء، وجلس في حلقاتهم، ينهل من علومهم، ويكب على الدراسة والفهم والاستيعاب، فاجتاز العلوم بمدة يسيرة. يقول عن نفسه: "ما احتجت في فهم من العلوم إلى حتى أكمله على الشيخ الذي أقرأ عليه، وما توسطته على شيخ من المشايخ الذين كنت أقرأ عليهم إلا ونطق لي الشيخ: قد استغنيت عني، فاشتغل مع نفسك، ولم أقنع بذلك، بل لا أبرح حتى أكمل الكتاب الذي أقرؤه عليه في ذلك الفهم." (ليس كالمغرورين من شباب هذه الأيام، لا يكاد أحدهم يقرأ كتابا أوكتابين، حتى يبدأ في تأليف الرسائل والموضوعات في ضلالات الداعية الفلاني، وأخطاء العلامة العلاني)

واختار العز فطاحل الفهماء العاملين، فأخذ فهمهم وتأثر بهم وبأخلاقهم الفاضلة، وسلوكهم الرفيع في الحياة، فجمع بين الفهم والأخلاق والسلوك والعمل، حتى صار أفهم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله كما نطق السبكي.

وجمع العز في تحصيله بين العلوم الشرعية والعلوم العربية، فدرس التفسير وعلوم القرآن، والفقه وأصوله، والحديث وعلومه، واللغة والتصوف، والنحووالبلاغة وفهم الخلاف. وكان أكثر تحصيله للفهم في دمشق، ولكنه ارتحل أيضا إلى بغداد للازدياد من الفهم، فقد كانت الرحلة لطلب الفهم قد أصبحت قاعدة مستقرة في الحضارة الإسلامية، وتعتبر منقبة ومفخرة ومزية لصاحبها. وقد رحل إلى بغداد في ريعان شبابه عام 597هـ وأقام بها أشهرا، يأخذ العلوم والمعارف، ثم عاد إلى دمشق.

هجر الشيخ تراثا فهميا ضخما في علوم التفسير والحديث والسيرة والعقيدة والفقه وأصول الفقه والزهد والتصوف وتلاميذ جهابذة، وحارب البدعة وأحيا السنة، وكانت له فتنة مع الحشوية من المنتسبين للحنابلة في أمور العقيدة.

في دمشق

حكم دمشق الملك الصالح إسماعيل من بني أيوب، فولّى العز بن عبد السلام خطابة الجامع الأموي الكبير بدمشق ، وبعد فترة قام الملك الصالح إسماعيل بقتال ابن أخيه الصالح نجم الدين أيوب حاكم مصر واراد انتزاع السلطه من يده فوالى الصليبين وأعطاهم الصالح إسماعيل حصن الصفد والثقيف وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والطعام وعندها غضب العز وصعد المنبر وخطب الناس خطبة عصماء وأفتى بحُرمة بيع السلاح للفرنجة وحُرمة الصلح معهم، ثم بتر الخطبة عن الصالح إسماعيل وكان ذلك بمثابة إعلان للعصيان العام ونطق في أخر خطبته اللهم أبرم أمر رشد لهذه الأمة يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويأمر بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ثم نزل. فهم الملك الصالح إسماعيل بخروج العز عن طاعته، فغضب عليه غضبًا شديدًا، وأمر بإبعاده عن الخطابة، وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج، واضطرب أمر الناس، أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة بعد ذلك .

في مصر

انتقل العز بعدها إلى مصر، فوصلها سنة 639هـ. فرحب به الملك الصالح نجم الدين، فولاّه الخطابة والقضاء، وكان أول ما لاحظه بعد توليه القضاء قيام الأمراء المماليك المملوكين للدولة الإسلامية بالبيع والشراء وقبض الأثمان، وهوما يتعارض مع الشرع إذ أنهم في الأصل مملوكين لا يحق لهم البيع والشراء والزواج من حرائر نساء مصر، فكان لا يمضي لهم بيعاً ولا شراء، حتى تكالبوا عليه وشكوه إلى الملك الصالح الذي لم تعجبه فتوى الشيخ العز، فمضى الي الشيخ يسأله حتى يعدل من فتواه، "فطلب منه الشيخ ألا يتدخل في القضاء فليس هذا للسلطان، فإن شاء حتى يتدخل فالشيخ يقيل نفسه"(عبد الرحمن الشرقاوي، أئمة الفقه التسعة، 359). فاجتمع أمراء الدولة من الأتراك وأوفدوا اليه، فنطق الشيخ: "نعقد لكم مجلساً وننادي عليكم (بالبيع) لبيت مال المسلمين"(السيوطي، حسن المحاضرة). فاستشاط نائب السلطنة غضباً، وكان من المماليك، وأقسم ليقتلن الشيخ بسيفه. فمضى إليه نائب السلطنة مع جماعة من الأمراء فطرق بابه، ففتح الباب ابنه عبداللطيف، فراعه منظر نائب السلطنة إذ رأى سيفه مسلولاً، والغضب يعلووجهه فدخل على والده ونطق: انج بنفسك إنه القتل. فرد عليه الشيخ بقوله: أبوك أقل من حتى يُقتل في سبيل الله. ثم خرج وحين سقط بصره علي النائب، سقط السيف من يد النائب وارتعد، فبكى وسأل الشيخ حتى يدعوله، ونطق يا سيدي ماذا ستعمل،يا ترى؟ نطق: أنادي عليكم وأبيعكم.

الا حتى السلطان لم يذعن لحكم الشيخ، فأوفد اليه من يتلطف اليه، وبعد اصرار الشيخ "أبلغه الرسول حتى السلطان لن يسمح ببيع الأمراء، وأمر السلطان واجب، وهوفوق قضاء الشيخ عز الدين! وعلي أية حال فليس للشيخ حتى يدخل في أمور الدولة فشئون الأمراء لا تتعلق به. بل بالسلطان وحده!

فأنكر الشيخ تدخل السلطان في القضاء وقام فجمع أمتعته ووضعها علي حمار. ووضع أهله علي حمير أخري، وساق الحمير ماشياً!.. الي أين يا شيخ!؟.. نطق: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟!.. فيم المقام بأرض يُستضعف فيها أهل الشريعة، ويُعتدي فيها علي القضاء؟!" (عبد الرحمن الشرقاوي، أئمة الفقه التسعة، 360-361).

تجمع الناس وراءه وتبعه الفهماء والصلحاء والتجار والنساء والصبيان، حتى كادت مصر حتى تخلومن سكانها. خرج الملك الصالح مسرعاً ولحق بالعز وأدركه في الطريق وترضّاه، وطلب منه حتى يعود وينفذ حكم الله، فتم له ذلك. واشتهر العز بعدها بأنه بائع الملوك. فأزداد الأمراء المماليك غضباً وتآمروا علي اغتال الشيخ مرة أخري وفشلوا، بل وتاب من بعثوهم لقتله علي يديه وصلوا صلاة توبة وكان هوامامهم.

عايش العز دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين في الشام ومصر، وكانت دولة قوية، ولكن في آخر عصرها تنافس أمراؤها وتقاتلوا على المُلك، حتى لجأ بعضهم إلى التحالف مع الصليبيين من أجل حتى يتفرغ لقتال إخوانه وبني عمومته، ثم كان في آخر دولتهم حتى حكمتهم امرأة هي شجرة الدر، في سابقة هي الثانية في تاريخ الإسلام حتى يملك المسلمين امرأة، بعد تولي "رضية الدين" سلطنة دلهي (634-638هـ)، غير ان المصريين استنكروا وجود "سيدة" تتحكم في رقاب الأمراء والكبراء والسادة ، وغضبوا غضبا شديدا ، وخرجت المظاهرات الغاضبة تستنكر هذا الحضور والنفوذ السياسي الكبير لسيدة من سيدات القصر ، وقاد المعارضة العز بن عبد السلام ، ووقف وسط جموع المتظاهرين ، منددا بجلوس امرأة على عرش مصر ، مبينا حتى هذا الجلوس مخالفا للشرع الحكيم، ما اضطر شجرة الدر بعدها للتنحي بعد 80 يوماً قضتها في الحكم

وبعد وصول قطز لسدة حكم مصر، وظهور خطر التتار ووصول أخبار فظائعهم ورسلهم المهددين، وللاستعداد لملاقاة التتار الزاحفين، أمر قطز بجمع الأموال للإعداد للحرب، ووقف الفهماء وعلى رأسهم العز بن عبد السلام أمام الأمراء وقادة الجند، فقرروا ألا يؤخذ من الناس شيئا إلا إذا كان بيت المال فارغاً، وبعدما يخرج الأمراء والتجار وأغنياء الناس من أموالهم ومضىهم حتى يتساوى الجميع، فنزل قطز على حكم الفهماء.

توفي العزّ بن عبدالسلام في العاشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة للهجرة.