تاريخ أفريقية والمغرب، كتاب تاريخي من تاليف الرقيق القيرواني ويعتبر مصدر هام لتاريخ أفريقيا (تونس حاليا) وبلاد المغرب، منذ بدايات الفتح الإسلامي على يد عقبة بن نافع، وتأسيسه القيروان، ومواصلة الفتوح على يد زهير بن قيس البلوي وحسان بن النعمان وموسى بن نصير، ثم بداية فترة الولاة التي استمرت إلى غاية ظهور دولة الأغالبة على يد إبراهيم بن الأغلب، وتتوقف الأحداث عند ولاية ابنه أبي العباس عبد الله.

فكرة الكتاب

والكتاب في أصله بترة غير منسوبة، من تاريخ المغرب، من حكم عقبة بن نافع إلى عهد إبراهيم الأوّل، وهي ناسيرة الأول، منعدمة اللصاق. وقد سقط اكتشافها في الرباط على يد السيد المنوني ونشرها بتونس الدكتور المنجي الكعبي (1968)، ونسبها إلى ابن الرقيق القيرواني (توفي بعد 418 هـ/ 1028 م ) أوكذلك الرقيق أبوإسحاق إبراهيم بن القاسم المحرر القيرواني، وقد كان محررا للزيريين منذ ما يقارب ربع القرن، حين كان ابن رشيق بصدد تأليف كتابه "العمدة". وكان ابن الرقيق خاصة أديبا وإخباريا بارعا. ويعترف ابن رشيق له بشيء من الموهبة الشعرية، على الرغم من حتى طريقته كانت خاصة طريق الكتاب، واحتفظ لنا ياقوت (معجم الأدباء) ببتر طويلة من قصائده. وندين لنشاطه الأدبي كذلك بأثر عنوانه: كتاب قطب السرور. لكنّ ابن الرقيق في نظر معاصريه وأيضا في نظر من أتوا بعده، يعتبر خاصة مؤرخا لا نظير له.

ويعتبره ابن خلدون مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بالقيروان ويستحق ابن الرقيق هذه الشهرة بصفة واسعة. فقد كان كتابه "تاريخ إفريقية والمغرب" عمدة أعمال ابن شدّاد وابن الأثير وابن الأبّار والتجاني وخاصة ابن عذاري والنويري وابن خلدون والمقريزي ويبدوأنّ السخاوي والشمّاخي وحتى الوزير السرّاج (الحلل السندسية): ينقلون عنه مباشرة.

إلاّ أنّ تاريخ ابن الرقيق، في أيّامنا، يبقى في الواقع مفقودا، على الرغم من الإشارة بلا انقطاع إلى وجوده في بعض المخطات الخاصة بالبلاد التونسية.

أقسام الكتاب

إن المقتطفات التي جمعناها من مختلف المصادر تساعدنا على إعطاء نظرة عن كتاب "تاريخ إفريقية والمغرب" ومحتواه والفترة التي يغطيها ومنهج الكتابة التاريخية عند الرقيق القيرواني. ولتسهيل الدراسة، ارتأينا حتى نورد هذه المقتطفات مرتَّبَة ترتيباً زمنياً حسب تسلسل الأحداث التاريخية:

1 ـ »وذكر أبوإسحاق إبراهيم بن القاسم الرقيق في تاريخه: إذا فهماء المشرق وفقهاءه خطوا إلى أهل إفريقية: "من رابط عنا برادس يوماً واحداً، حججنا عنه حجة"« ([102]).

2 ـ وفي كتاب الرقيق نطق: »ينطق إذا بإفريقية ساحلاً ينطق له المنستير هوباب من أبواب الجنة، وبها جبل [ينطق] له ممطور هوباب من أبواب جهنم«. انتهى كلام الرقيق... نطق الرقيق: »وسبب تسميته "ممطور" حتى معاوية بن حديج لما وصل إلى إفريقية، هبط على هذا الجبل؛ فأصابه فيه مطر شديد؛ فنطق: "إن هذا الجبل ممطور. امضىوا بنا إلى ذلك القرن". فسمي ذلك الجبل "ممطوراً"، وسمي ذلك الموضع "القرن"«([103]).

3 ـ »وروى الرقيق عن عبد الله بن وهب يحمل الحديث إلى النبي r أنه بعث سرية في سبيل الله. فلما رجعوا، ذكروا شدة البرد الذي أصابهم. فنطق رسول الله r: "ساكن إفريقية أشد برداً وأعظم أجراً"« ([104]).

4 ـ »ذكر الرقيق في كتابه نطق: "كان هرقل ملك القسطنطينية العظمى وروما يؤدي إليه كـل نصراني ـ في بر أوبحر ـ جزيته، منهم المقوقس صاحب الإسكندرية وبرقة... ولما بلغه ما صالح عليه أهل إفريقية عبد الله بن أبي سرح...« ([105]).

5 ـ نطق إبراهيم بن القاسم: »ووصل عقبة بن نافع الفهري إلى إفريقية في عشرة آلاف من المسلمين، فافتتحها ودخلها، ووضع السيف في أهلها، فأفنى بها... من النصارى«. ثم نطق: »إن إفريقية إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام. فإذا خرج منها، عاد من كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر. فأرى لكم ـ يا معشر المسلمين! ـ حتى تتخذوا بها مدينة تكون عزاً للإسلام إلى آخر الدهر« ([106]).

6 ـ تلمسان: »ولم أقف لها على خبر أقدم من خبر ابن الرقيق بأن أبا المهاجر الذي ولي إفريقية بين ولايتي عقبة بن نافع الأولى والثانية توغل في ديار الغرب، ووصل إلى تلمسان. وبه سميت "عيون أبي المهاجر" قريباً منها« ([107]).

7 ـ هؤلاء البربر جيل وشعوب وقبائل أكثر من حتى تحصى حسبما هومعروف في "تاريخ الفتح بإفريقية والمغرب". وفي أخبار ردتهم وحروبهم فيها نقل ابن أبي رقيق حتى موسى بن نصير لما فتح سقوما، خط إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سبي سقوما مئة ألف رأس. فخط إليه الوليد بن عبد الملك: ويحك! إني أظنها من بعض كذباتك؛ فإن كنت صادقاً، فهذا محشر الأمة ([108]).

8 ـ »وفي كتاب أبي إسحاق الرقيق حتى ذلك [أي خرق حسان بن النعمان البحر إلى تونس] كان في ولاية الوليد بن عبد الملك وأن الوليد خط بذلك لعمه عبد العزيز« ([109]).

9 ـ »الفيء الذي حمله موسى بن نصير إلى القيروان سنة 95 هـ: نطق الرقيق: "كانت وسق مئة عجلة وأربع عشرة عجلة"« ([110]).

10 ـ »نطق الرقيق: "وكان ميسرة قد تسمى بالخلافة، وبويع عليها، فقتلوه وولوا أمرهم بعد خالد بن حميد الزناتي"« ([111]).

11 ـ »ونطق الرقيق: "لم ينهزم من أهل إفريقية إلاّ عبد الرحمان بن حبيب؛ فإنه جاز إلى الأندلس، فنطق لأميرها عبد الملك بن قطن: "هؤلاء أهل الشام يقولون: ابعث لنا مراكب نجوز فيها، وهم إذا جازوا إليك لم نأمنهم عليك!"« ([112]).

12 ـ »ولاية عمر بن حفـص على إفريقية: الحلف الإباضي ـ الصفري بقيادة عبد الرحمان بن رستم وعبد الملك بن سكرديد الصنهاجي في ألفين من سوى جماعات أخر. نطق الرقيق: "لم أذكرهم"« ([113]).

13 ـ »نطق الرقيق وعريب: "وفي سنة 153 هـ، زحف أبوقرة من تلمسان في جمع كبير من البربر إلى القيروان، فصالحه عمر بن حفص وانصرف"« ([114]).

14 ـ »وقد تقدم حتى اغتال عمر بن حفص كان في سنة 154 هـ. ذكر ذلك الرقيق وابن حمادة« ([115]).

15 ـ حكاية الزبير بن بكار في مدح يزيد بن حاتم: »... هكذا ذكر الرقيق« ([116]).

16 ـ وصول إدريس إلى المغرب: »على ما ذكره الرقيق والنوفلي في "المجموع المفترق"، وغيرهما من المؤرخين« ([117]).

17 ـ موت إدريس: »... هكذا ذكر الرقيق في كتابه« ([118]).

18 ـ هرثمة بن أعين بإفريقية: »وهوالذي بنى القصر الكبير المعروف بالمنستير. نطقه الرقيق« ([119]).

19 ـ »نطق الرقيق: "لما رأى هرثمة بن أعين ما رأى من الخلاف بإفريقية وسوء طاعة أهلها، طلب الاستعفاء. فخط إليه الرشيد بالقدوم عليه، فرجع إلى المشرق؛ وهوالذي بنى سور طرابلس« ([120]).

20 ـ فتح صقلية: رواية طويلة: »... هكذا نطق ابن الرقيق« ([121]).

21 ـ تلمسان: »وذكرها ابن الرقيق أيضاً في أخبار إبراهيم بن الأغلب قبل استبداده بإفريقية وإنه توغل في غزوه إلى المغرب ونزلها« ([122]).

22 ـ سنة 187 هـ: في هذه السنة رسول المعتضد يعزل الأمير إبراهيم لشكوى أهل تونس به. فاستقدم ابنه أبا العباس من صقلية ارتحل هوإليها مظهر الغربة والانتجاع. هكذا نطق ابن الرقيق. وذكر أنه كان جائراً ظلوماً سفاكاً للدماء وأنه أصابه آخر عمره ماليرخيا، أسرف بسببها في القتل. فقتل من خدمه ونسائه وبناته ما لا يحصى، وقتل ابنه أبا الأغلب لظن ظنه به... ([123]).

23 ـ جزيرة شريك: نطق أبوإسحاق إبراهيم بن القاسم الرقيق في كتابه: ولم تخل هذه الجزيرة قط من عابد مذكور. وذكر حتى عبد الله بن الأغلى أراد حتى يحدث على الناس مظالم، من جملتها حتى يحمل عنهم طلب العشر ويضع على جميع زوج ثمانية دنانير أصابوا أولم يصيبوا. فاشتد ذلك على الناس. وقدم حفص بن حميد الجزري ومعه قوم صالحون من أهل الجزيرة وغيرها. فاستأذنوا عليه وكان من أجمل الناس، فحدثه حفص بن حميد ونطق له: "اتق الله ـ أيها الأمير ـ وارحم جمالك وشبابك، فإن النار أمامك". فلم يجبه إلى شيء مما أراد وأظهر الاستخفاف به وبمن معه. فخرج حفص بن حميد وأصحابه، وذكر أيضاً عن فضل بن أبي العنبر وكان والياً على الجزيرة...([124]).

24 ـ أخبار عن طغيان إبراهيم بن أحمد ووفاته: »ذكرها الرقيق وغيره«([125]).

25 ـ كتامة: »ولم تكن الدولة (أي الأغلبية) تسومهم بهضيمة لا ينالهم تعسف، لاعتزازهم بكثرة جموعهم كما ذكره ابن الرقيق في "تاريخـ"ـه« ([126]).

26 ـ أبا يزيد مخلد بن كيداد اليفرني: »نطق الرقيق: "وقرأ (أي أبوزيد) على عمار الأعمى وكان يركب الحمار وتسمى شيخ المؤمنين"« ([127]).

27، 28ـ »وذكر ابن الرقيق حتى أبا يزيد النكاري لما ظهر بجبل أوراس، خط إليهم بمكانهم حول توزر يأمرهم بحصارها. فحاصروها سنة ثلاثين وثلاثمئة«([128]).

29 ـ 336 هـ: الخليفة المنصور الفاطمي:

وأقام هوعلى وادي ميناس. وكان هنالك ثلاثة جبال جميع منها عليه قصر مبني بالحجر المنحوت. فوجد في وجه أحد هذه القصور كتابة على حجر فسيح. فأمر المنصور التراجمة بقراءته وإذا فيه: "سليمان السردغوس خالف أهل هذا البلد على الملك، فبعثني إليهم ففتح الله عليهم وبنيت هذا البناء لأذكر به". ذكر هذه السيرة الغريبة ابن الرقيق في "تاريخـ"ـه([129]).

30 ـ عبد الله بن ناصر ابن الخليفة المستنصر الأموي بالأندلس: »نطق الرقيق في "تاريخـ"ـه: "كان عبد الله يسمى الزاهد، فبايعه قوم على اغتال والده وأخيه الحكم ولي العهد، فسجنه أبوه، ثم ذبحه بيده يوم الضحى سنة تسع وثلاثين وثلاثمئة وقتل أصحابه"« ([130]).

31 ـ »وذكر المحرر إبراهيم بن القاسم القروي المعروف بالرقيق بلد الأندلس، فنطق: "أهله أصحاب جهاد متصل يحاربون من أهل الشرك المحيطين بهم أمة يدعون الجلالقة يتاخمون حوزهم ما بين غرب إلى شرق، قوم لهم شدة ولهم جمال وحسن وجوه..."« ([131]).

32 ـ أبوالفتوح المنصور بن أبي الفتوح: ولي الإمارة في أوائل سنة 374 هـ بمدينة أشير، وتوفي يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول من سنة 386 هـ. فكانت مدته اثنتي عشرة سنة ودفن بالمنصورية... نطق الرقيق: »وقد ذكرت سيرته وحروبه وعطاياه في كتاب مفرد لأخبار جده وأبيه وأخباره« ([132]).

33 ـ نطق إبراهيم بن أبي القاسم المعروف بابن الرقيق: توفي العزيز ببليس. وكان بها مبارزاً الروم في جميع عساكره وجيوشه، وكانت به علة »الحصى والمثانة والغولنمج«، وكان الطبيب يطب له دخول الحمام فيجد له راحة. ودخله يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شهر رمضان من هذه السنة (368 هـ)، وعمل له دواء شربه في حوض الحمام. فأدركه أجله، فمات من ساعته وليس معه من الرجال إلا ابن النصير النصراني الطبيب وغلامه برجوان الخادم. فأخرج من الحمام ميتاً، وحمل إلى القاهرة فدفن بها ([133]).

34 ـ وفي سنة 395 هـ، كانت بإفريقية شدة عظيمة، انكشفت فيها الستور، وهلك فيها الفقير، ومضى مال الغني، وغلت الأسعار، وعدمت الأقوات، وتجلى أهل البادية عن أوطانهم، وخلت أكثر المنازل فلم يبق لها وارث، ومع هذه الشدة وباء وطاعون، هلك في أكثر الناس من غني ومحتاج، فلا متصرفاً إلاّ في علاج أوعيادة مريض، أوأخذاً في جهاز ميت، أوتشييع جنازة أوانصراف من دفن. وكان الضعفاء يجتمعون إلى باب سالم، فتحفر لهم أخاديد ويدفن المئة والأكثر في الأخدود الواحد. فمات من طبقات الناس وأهل الفهم والتجار والنساء والصبيان ما لا يحصي عددهم إلاّ خالقهم تعالى، وخلت المساجد بمدينة القيروان، وتعطلت الأفران والحمامات. وكان الناس يوقدون أبواب بيوتهم وخشب سقوفهم. واتى خلق من أهل الحاضرة والبادية إلى جزيرة صقلية. وكانت الرمانة بدرهمين للمريض في ذلك الوقت، والفرُّوج بثلاثين درهماً. وقيل إذا أهل البادية أكل بعضهم بعضاَ. كذا ذكر أبوإسحاق الرقيق([134]).

35 ـ نقل ابن الرقيق من أحوالهم (أي صنهاجة) في الولائم والهدايا والخبائز والأعطيات ما يشهد بذلك، مثلما ذكر حتى عطية صندل ـ عامل باغاية ـ حمل من المال، وأن بعض توابيت الكبراء منهم كان العود الهندي بمسامير المضى، وأن باديس منح فلفول بن مسعود الزناتي ثلاثين حملاً من المال وثمانين تختاً، وأن أعشار بعض أعمال الساحر بناحية صفاقس كان بخمسين قفيزاً وغير ذلك من أخبارهم«([135]).

36 ـ »لما انفصل العبيديون إلى مصر وهجروا الصنهاجيين بإفريقية، استولى بنوخزرون الزناتيون على طرابلس، وكان بينهم وبين الصنهاجيين وقائع كثيرة أشار الرقيق في "تاريخـ"ـه إلى بعضها« ([136]).

37 ـ واتصل ملك خليفة بن وروا وقومه بنوخزرون بطرابلس، وخاطب الخليفة بالقاهرة الظاهر بن الحكم سنة سبع عشرة بالطاعة وضمان السابلة وتشييع الرفاق ويحفظ عهده على طرابلس. فأجابه إلى ذلك وأوفد في هذه السنة أخاه حماد على المعز بهديته، فتقبلها وكافأه عليها. هذا آخر ما حدَّث به ابن الرقيق من أخبارهم([137]).

دراسة نقدية

تاريخ المغرب

يمتد "تاريخ إفريقية والمغرب" كما تشير إليه المقتطفات، من الفتح الإسلامي لبلاد المغرب إلى سنة 417 هـ، وهي سنة مبايعة بني خزرون بطرابلس للخليفة الفاطمي بالقاهرة. ومن هنا يتضح حتى الرقيق القيرواني قد عمل عدة سنوات على كتابة تاريخه الكبير مسجلاً حتى أحداث معاصريه، إذ ذكر الأحداث التي عاشها، ما عدا الثلاث السنوات الأخيرة من حياته. وتجعل منه هذه الفترة الطويلة أول مؤرخ ـ إلى عهده ـ يخط تاريخ المغرب بهذا الأسلوب وبهذا الحجم.

إفريقية مركز الثقل

من الخطإ التكهن بأن "تاريخ..." الرقيق هوتغطية لجميع أحداث المغرب إلى غاية القرن الخامس الهجري. ويؤكد لنا التمعن في مختلف المقتطفات حتى إفريقية هي المعنية بهذا الكتاب. فبعد حتى مهد الرقيق للكتاب بالحديث عن الفتوحات الإسلامية لجميع بلاد المغرب، خصص تام كتابه للدول التي جعلت من القيروان عاصمة لها: الحكام الأمويون، والأغالبة والفاطميون ثم الزيريون. لا يغطي إذن "تاريخ إفريقية والمغرب" تاريخ المغرب الأوسط والأقصى، إلاَّ ما كان من نشاطات أصحاب القيروان خارج إطار إفريقية في شكل حملات عسكرية ضد مناطق حكم الرستميين واللفسة على العهد الأغلبي الفاطمي. وإفريقية ـ كما هي محددة في وثائق البلاط والخط الفقهية ـ كانت محدودة من طرابلس شرقاً إلى طبنة غرباً. وبما حتى مناطق نفوذ الحكم الفاطمي تجاوز حدودها، فإن الرقيق القيرواني أضاف لفظ »المغرب« للتعبير عن الإطار الجغرافي المغطى. وللتذكير، فإن جميع المناطق الواقعة غرب طبنة حملت اسم المغرب في الوثائق الفاطمية والصنهاجية، لأن المغربين الأوسط والأقصى لم يعهدا الظهور إلاّ في وقت متأخر مع تأسيس الإمارتين الحمادية ثم المرابطية.

بمقارنة مقدمة كتاب "طبقات فهماء إفريقية وتونس" لأبي العرب تميم (ت 333 هـ/ 944 م) ([138])، مع المقتطفات الواردة في كتاب الرقيق حول الأحاديث المنسوبة حول المغرب وإفريقية، نلاحظ حتى كتاب "تاريخ إفريقية والمغرب" يندرج ضمن تنطقيد الكتابة التاريخية للمدرسة القيروانية والمتمثلة في إدراج الأحاديث الشعبية المروجة والمنسوبة للرسول r حول أفضلية سكن المغرب. هذه التنطقيد نستطيع إدماجها في ما نسميه بأدب الفضائل الذي هوتفضيل سكنى قطر على الأقطار الأخرى. فبعد الخط التي خططت حول فتوح إفريقية: "فتوح إفريقية" لعيسى بن محمد بن سليمان بن أبي المهاجر دينار، وكتاب "فتوح إفريقية" للقاضي عبد الرحمان بن زياد (ت 161 هـ/ 778 م) وكتاب "أخبار إفريقية " أو"مغازي إفريقية" (ت 369 هـ/ 980 م) للطبيب القيرواني ابن الجزار (ت 369 هـ/ 980 م) و"طبقات فهماء إفريقية وتونس" لأبي العرب تميم (ت 333 هـ/ 944 م)، اتى كتاب "تاريخ إفريقية والمغرب" للرقيق ليغطي تاريخ المنطقة تغطية كاملة. وممّا يؤسف له حتى الخط الثلاثة الأولى ضائعة، والكتاب الرابع الذي وصلنا لا يندرج ضمن المدوَّنات التاريخية (chroniques)، وإنما ضمن خط الطبقات. وبهذا يصبح كتاب "تاريخ إفريقية" التأليف الأضم لتاريخ إفريقية خلال الخمسة القرون الأولى للهجرة.

ان دراسة المقتطفات تبين لنا وجود إيديولوجية مزدوجة في الكتاب: إيديولوجية شيعية مناهضة للأمويين والعباسيين، وإيديولوجية شيعية »بلاطية« مادحة للفاطمـيين والزيريين. فالمؤلف قلل من أهمية دور الخلافة الأموية في فتح المغرب، ثم أنزل جام غضبه على الحكام الأمويين بالقيروان وحمل سياستهم المسؤولية الكاملة في رواج التيار الخارجي بالمغرب، ثم اندلاع ثورات البربر. وبهذه النظرة، أعفى المجتمعات القبلية من مسؤولية عدم الاستقرار السياسي بالمغرب. بيد حتى ما أهمله الرقيق هوحتى المجتمعات كانت معروفة بمعارضتها للحكم المركزي منذ العهد الروماني، وذلك ما يتبين من خلال المقتطفات التي وصلتنا في "البيان المغرب" لابن عذاري. إذا النزعة المعادية للأغالبة واضحة جداً في كتاب الرقيق، لكون المؤلف أراد حتى يضفي شرعية اجتماعية على الحركة الشيعية بالمغرب. وهذا راجع بطبيعة الحال إلى توجهه الشيعي. وفي الوقت نفسه لم تحظ الدول الأخرى المجاورة باهتمام الرقيق: فالرستميون الإباضيون والمدراريون الصفرية واللفسة، آل البيت، لم يتطرق إليهم إلاَّ هامشياً؛ وهذا ما يفسر قلة المادة التاريخية الخاصة بهذه الدول. وبعد رحيل الفاطميين إلى مصر، واصل الرقيق تعاطفه معهم، لكنه ولج في خدمة الزيريين ليصبح المؤرخ الرسمي للأمراء، تعبر آرائه السياسية عن موقف النخبة الشيعية القيروانية من الحكم الصنهاجي. إنها نخبة مؤيدة لحكم أوائل الأمراء الصنهاجيين داخل إطار الخلافة الفاطمية. هذا الولاء عبر عنه الرقيق في عدة مقتطفات كما ذكرنا، وكلفه الإعدام مع وصول الأمير الزيري الرابع إلى الحكم، المعز بن باديس الذي كرس السُّنَّة ووطد أركان الحكم الباديسي.

من التذييل إلى الاقتباس

بعد وفاة الرقيق القيرواني، تداولت طائفة من أدباء البلاط الباديسي وإخباريِّيه على كتابة أذيال على "تاريخ إفريقية والمغرب" للرقيق القيرواني. فقد ذيل عليه ابن شرف القيرواني (ت 460 هـ/ 1071 م)([139]) وابنه. وهذا، بتسجيل أبرز أحداث إفريقية والمغرب من 417 هـ/ 1026 م إلى غاية 445 هـ/ 1053 م، ليتمه ابن شرف الابن إلى غاية 485 هـ/ 1092 م. وبداية من هذا التاريخ، ذيل عليه كذلك أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت (ت 529 هـ/ 1134 م) ([140]) إلى غاية بداية العشرينيّات من القرن السادس الهجري. وتخصيصاً لكتابه، عنون ابن أبي الصلت ذيله بـ"الديباجة في أخبار صنهاجة". جميع هؤلاء المؤلفين كانوا من حاشية البلاط الزيري وشعراء خاصين بالأمير، وهوما يشير على دور الحكم في توجيه المؤرخين لكتابة تاريخه.

بعد هذه الثلاثة التذييلات، اتىت طائفة من المقتبسين أوالمقلدين لـ"تاريخ إفريقية والمغرب" وأذياله. فقد دشن هذه الفترة الأمير أبومحمد عبد العزيز بن شداد بن تميم بن المعز الصنهاجي (ت بعد 600 هـ/ 1203 م) المنحدر من العائلة الأميرية الباديسية بالمهدية، حيث استخدم "تاريخ..." الرقيق لكتابة تاريخه "الجمع والبيان في أخبار القيروان وما فيها وفي سائر بلاد المغرب من الملوك والأيام"، وهذا لتغطية الفترة الممتدة إلى غاية 417 هـ/ 1026 م ليكمله بتذييلات ابن شرف وابن أبي الصلت، ثم ما عاشه وهوشاهد عيان في العهد الموحدي([141]). بعده اتى دور الكثير من المؤرخين، كابن حماد الصنهاجي (ت 628 هـ/ 1232 م)([142])، وابن عذاري المراكشي (قثمانية هـ/ 14 م)، ولسان الديـن بن الخطيب (ت 776 هـ/ 1375 م)، وعبد الرحمان بن خلدون (ت 808 هـ/ 1405 م)، والتجاني (قثمانية هـ/ 14 م).

أما مؤرخوالمشرق، فقد أخذوا بالخصوص عن "الجمع والبيان" لابن شداد الصنهاجيّ الذي أخذ عن "تاريخ..." الرقيق كما ذكرنا.

الاقتباس وطبيعة التعليم سبب ضياع الأصل

تسمح لنا دراسة ما آل إليه كتاب "تاريخ إفريقية والمغرب" للرقيق القيرواني بطرح مجموعة من التساؤلات عن ضياع خط تاريخية أصلية، على الرغم من شهرتها وانتشارها الواسع. فـ"تاريخ..." الرقيق ذاع صيته في مغرب العالم الإسلامي ومشرقه، لكنه اختفى واختفت معه مادة خبرية مهمة جداً لدراسة تاريخ المغرب الإسلامي خلال الخمسة القرون الأولى للهجرة. ويعود ضياع الخط الأصلية في غالب الأحيان إلى عاملين أساسيين:

1 ـ اقتباس المؤرخين اللاّحقين من الكتاب الأصلي أفقده قيمته لدى الأجيال اللاّحقة، لأنهم وجدوا في خط المتأخرين ما فيه الكفاية لفهم الفترات المغطاة من التاريخ، طالما أضاف المؤرخون اللاّحقون الكثير من الأحداث التي أعقبت كتابة الكتاب الأصلي. فكتاب "العبر" لابن خلدون غطَّى تاريخ المغرب حتى العصر المريني تغطية أكثر، على الرغم من اقتباسه من "تاريخ..." الرقيق. والأمر نفسه ينطبق على مؤلفي القرن السابع الهجري، الذين اشتهروا بمقتبساتهم كما هوالحال عند ابن الأثير مثلاً؛

2 ـ أدَّى تدريس خط التاريخ في الحلقات والمدارس دوره كذلك في اختفاء أوانتنطق بعض المعارف التاريخية. فالملاحظ لخط البرامج يدرك جيداً طبيعة الخط التاريخية المدرسة. فمثلاً، فهرسة جميع من ابن عطية الأندلسي (ت 541 هـ/ 1147 م) ([143]) وأبي القاسم يوسف التجيبـيّ السبتي (ت 730 هـ/ 1329 م)([144]) تعطينا نموذجين من خط التاريخ المدرسة والتي تنتقل شفاهياً. ويتعلق النوع الأول بخط الأنساب، وهي الخط التي تسمح بدراسة نسب القبائل والشخصيات، وهذا ما يساعد على دراسة تخريج الأحاديث وفق فهم الجرح والتعديل. أما النوع الثاني من الخط المدرسة، فهويتعلق في أغلب الأحيان بخط الطبقات التي تمكن من دراسة أوساط الفهماء كما هوحال طبقات الصحابة والفهماء والزهاد، إضافة إلى سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام. بين هذين النوعين، لم تحظ خط »الحودث« و»الدول« بتدريس وافٍ. ولعل ما حد من انتشار "تاريخ إفريقية والمغرب" هوموقف المرجعيات الفقهية المالكية من الرقيق القيرواني، إذ تم رفض كتابه بحجة انتمائه الشيعي وشربه للخمر. ولعل ما هجره لنا الونشريسي يشير دلالة واضحة على إقصاء كتاب الرقيق من المدارس وحلقات التعليم: »وقد نطق الشيخ عبد السلام فيه: "إن حكاية ابن الرقيق المؤرخ لا تقبل، لكونه شارب خمر"« ([145]).

المصادر