حين تركنا الجسر

عودة للموسوعة

حين هجرنا الجسر

إبراهيم العريس
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا الموضوع
"حين هجرنا الجسر". انقر لمطالعة الرواية.

«حين هجرنا الجسر» لمنيف : هزيمة فرد وهزيمة جيل

مع صدور روايته الاولى «الاشجار واغتيال مرزوق» جعل المحرر السعودي عبد الرحمن منيف لنفسه مكاناً لا بأس به في الرواية العربية المعاصرة. فروايته الأولى تلك كانت مفاجأة حقيقية عهدت كيف من الممكن أن تثير الإجماع من حولها بفضل تميّزها وبنيانها الذي ادخل جديداً – الى حد ما - على الرواية العربية. غير ان ذلك المكان الذي تحقق لمنيف بفضل «الاشجار...» لم تعززه روايتاه التاليتان «سيرة حب مجوسية» و«شرقي المتوسط» اللتان صدرتا خلال الأعوام التالية لصدور روايته الأولى، فاعتبرت أولاهما أقل شأناً من «الأشجار...»، فيما نُظر الى الثانية باعتبارها عملاً تغلب عليه السياسة والآيديولوجيا بل تلتهمانها، رغم تفوقها المدهش في هذين البعدين.

من هنا كان من الضروري في ذلك الحين - أي اواخر سنوات السبعين -، ان تصدر رواية منيف الرابعة «حين هجرنا الجسر» لتطرح من حديث معضلة التعامل مع هذا المحرر، ومشكلة تقييمه انطلاقاً من مجمل اعماله وتطرح في الوقت نفسه سؤالاً مشروعاً يقول: هل يمكن حتىقد يكون الشخص الذي خط «الاشجار...» هونفسه مؤلف الروايات الثلاث التالية، رغم حتى الرواية التي نحن في صددها نالت اعجاباً ونجاحاً فاقا ما نالته سابقتاها؟. فالحال حتى «حين هجرنا الجسر» اتت متميّزة عن تينك السابقتين، محاولة في شكل أوآخر، في بنيانها الفني على الاقل، الاقتراب من عالم «الاشجار واغتيال مرزوق».

«حين هجرنا الجسر» أتت رواية عن الخيبة والفشل تماماً مثلما هوالامر مع الرواية الاولى، غير ان التعامل مع هذين البعدين يتخذ هذه المرة لدى «بطل» الرواية طابعاً عدوانياً ممتزجاً بالحزن والمرارة وشيء من الانتظار. «البطل» هنا اسمه زكي النداوي، انسان سيتبين لنا شيئاً فشيئاً أنه ينتمي الى الفئات الكادحة، وأن صيد الطيور الذي يمارسه في صحبة كلبه «وردان»، ليس هواية تأتي عن ترف، وإنما هومحاولة لإنجاز الذات، لسحق الهزيمة التي كانت قد سحقته، من طريق السيطرة على «ملكة البط».

فعن طريق اغتال هذه الملكة واذلالها، بمشاركة وردان، كان زكي النداوي يأمل في تخطي هزيمته. والحدث الأول للرواية يدور حول انتظار الملكة في بقعة الصيد الريفية، لقتلها. وهذا الحدث يجري على المستوى الاول، حيث يروي لنا زكي النداوي انتظاره الطويل – الذي يحمل شيئاً من الأمل -، في الوقت الذي يستعيد فيه على المستوى الثاني، للرواية، ذكريات «الجسر» الذي بناه والرفاق المقاتلين، ثم تخلوا عنه من دون ان يعبروه (لاستعادة الارض المغتصبة؟) اوينسفوه (منعاً للعدومن استعماله).

على هذين المستويين: مستوى الحاضر وانتظار الملكة لقتلها، ومستوى الماضي واستعادته، تتمحور شخصية زكي النداوي الذي يظهر لنا محبطاً ويائساً منذ السطور الاولى للرواية. وشيئاً فشيئاً سنكتشف سبب الإحباط واليأس، كما سنشهد كيفية تعامل زكي النداوي معهما من طريق اسقاطهما على كلبه وردان. والكلب، رغم قسوة زكي، مطيع متفهم متعاون... يشارك مفهمه انتظاره وقلقه وأمله ويأسه من دون حتى ينبس ببنت شفة اويتمرد (وهوحتى حين يتمرد في الفصل الاخير من الرواية،قد يكون تمرده سلبياً لا عدوانية فيه تجاه مفهمه). زكي النداوي هوالذي يربط مستويي العمل والتذكر في الرواية. وهويطمع كما قلنا الى تخليص نفسه من شوائب الماضي، عبر اغتال الملكة. الملكة مقتولة تساوي عنده الجسر متروكاً. والمعادلة ترافقه طوال الفصول، حين يكتشف من طريق شيخ حكيم، ان أسلوبه في انتظار الملكة اسلوب خاطئ، وهنا – إذ يصحح أسلوبه، ويأتي في ليلة قمرية – يتمكن اخيراً من اغتال ملكة البط، ويصل الى حدود تحقيقه لذاته – في مشهد أخاذ -. ولكن في لحظة الفوز هذه يتخلى عنه «وردان»، بيد ان هذا التخلي نفسه لا يهمه في لحظة انتظاره المتوهجة، فيلتقط القتيلة – «الزانية» بنفسه... ليكتشف ان فوزه هذا لا يساوي شيئاً، وان عملية الاستبدال محكومة بالفشل، وان البطة – الملكة، ليست بعد ان ماتت سوى بومة قبيحة. ويعيدنا هذا الى الحلقة الدائرية التي تجاوز لنا ان تعاملنا معها في «الاشجار واغتيال مرزوق»: الهزيمة، الانتظار، الامل، الخيبة. لكن التطور الذي يطرأ بين الانتظار الاول والانتظار الثاني، انه في المرة الاولىقد يكون فردياً ينغلق فيه زكي النداوي على ذاته، لكنه في المرة الثانية يتحول الى انتظار جماعي: «وقبل ان تغيب شمس اليوم الاول كنت قد ضعت في زحام البشر، وبدأت اكتشف الحزن في الوجوه، وتأكدت ان جميع الرجال يعهدون شيئاً كثيراً عن الجسر، وانهم ينتظرون... ينتظرون ليعملوا شيئاً».

ان هذه الحدثات الاخيرة التي تنتهي اليها رواية «حين هجرنا الجسر» تمثل في الواقع، التطور الاكبر الذي اصاب عمل عبدالرحمن منيف منذ روايته الأولى حتى صدورها. ولكن ما يفقد نقطة الضوء هذه قيمتها هوانها تأتي، أيضاً، من طريق اكتشاف فردي لشخص محبط لا يرى الا الحزن في جميع الوجوه... ومن هنا السؤال: هل تكفي هذه النهاية لاقناعنا بأن «حين هجرنا الجسر» ليست رواية عن الخيبة والاحباط،يا ترى؟ وهل تكفي بضع حدثات ختامية الى ضرب جميع لحظات التأزم والانهزام التي رافقت مسيرة زكي النداوي منذ هجر الجسر لقمة سائغة للعدو، حتى تخلى عن فوزه على الملكة، خائباً،يا ترى؟ اسئلة لا يمكن التنبؤ بالكيفية التي كان من شأن المحرر ان يجيب عليها في أعمال تالية له. لكن بناءه لشخصية زكي النداوي، هذا البناء المتماسك فنياً الى حد كبير، كان يدفعنا الى الاعتقاد بأن النداوي هذا لنقد يكون هوالحل، كما ان الحل لن يأتي من الانتظار، فالحل يقترحه الحوار التالي: «- والجسر.. ألا يعني شيئاً،يا ترى؟ - يمكن دائماً بناء الجسور... الصعب هوبناء الانسان. - بناء الانسان،يا ترى؟ - نعم بناء الانسان من نوع جديد! - تقصد انساناً لا يهجر الجسر،يا ترى؟ - أقصد انساناً لا يهجر الجسر ويعهد كيف من الممكن أن يتصرف...». ان هذا الحوار إذ يأتي في الصفحات الأخيرة يكشف لنا عن ملامح ايجابية في الرؤية... غير ان ايجابيتها تفترض واحداً من اثنين: اما سقوط زكي النداوي (مع جميع الجيل الخائب المحبط الذي يمثله) وإما إقدامه على عمل شيء يختلف عن مجرد محاولة التخطي الداخلي للهزيمة. ومن هنا نجد ان «حين هجرنا الجسر» بتقنيتها الحديثة التي تجعلها أشبه «بمونولوغ» طويل (أكثر من اللازم على اي حال) تنتمي الى تلك الابداعات التي تعكس ازمة جيل، اكثر مما تعكس ازمة طبقة. وهنا ليس مصادفة ان تحفل الرواية بتجريد زماني ومكاني، لا تناقضه سوى اشارات قليلة جداً حول انتماء زكي النداوي.

من الناحية الفنية لا تخفي الرواية، على رغم شيء من الوهن في تسلسل الاحداث، تماسكاً فذاً في رسم شخصية زكي النداوي، وعلاقته مع كلبه... فالنداوي المحبط على الدوام واليائس من وحدته، لا يكف عن اسقاط جميع احباطه على الكلب، في محادثة متميز – على رغم امتلائه، احياناً، بثرثرة ما -. وفي لقاء الرسم التصاعدي لشخصية زكي النداوي وكشفه امامنا تدريجياً، نلاحظ ضعفاً، والكثير من المبالغة الغرائبية، في رسم شخصية «الشيخ» الذي يشير النداوي على افضل الاساليب لصيد الملكة.

«حين هجرنا الجسر»، على رغم بعض السلبيات التي كان يمكن المرء ان يجدها فيها، رواية جيدة، رواية تتحدث في لغة متماسكة، وصور قوية، وبناء فني متصاعد يسير على مستويين تاريخيين متوازيين: الماضي والحاضر – كما يراهما زكي النداوي -... والقارئ، اذا كان قد أخذ عليها عدم قدرتها على تخطي هزيمة «الجيل» الذي تتحدث عنه، فإنه استوعب ان عبدالرحمن منيف، حين يتحدث عن جيل «زكي النداوي» وهزيمته فإنه يعهد جيداً ما يقوله، ولكنه اذا كان لا يقول ما لا يعهده، فما هذا الا لأنه واحد من ابناء الجيل الذي ينتمي اليه زكي النداوي... وهواذا كان يتلوفي هذه الرواية شيئاً من عمل الندامة، فإن فضيلته الكبرى انه بات متأكداً الآن، كما يقول على لسان «بطله»: لا تفيد الجسور شيئاً اذا لم يعبر عنها الناس. والقارئ العربي كان، في ذلك الحين ومن زمان، في انتظار من يتفوه – اخيراً – بهذه البديهية.

المصادر

تاريخ النشر: 2020-06-09 06:45:11
التصنيفات: عبد الرحمن منيف

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

مقتل الرجل الثاني في حركة حماس: حزب الله أمام خيار صعب

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 21:07:13
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 87%

بطولة إنكلترا: محادثات "إيجابية" بين تين هاغ وراتكليف

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 21:07:36
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 87%

قائد قوات الدعم السريع في السودان يزور بريتوريا

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 21:07:33
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 86%

العلاقات الإمارتية الجزائرية.. هل دخلت نفق التشنج؟

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 18:27:50
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 67%

2024 سنة كبيسة: ماذا يعني هذا ؟ ومتى تتكرر السنوات الكبيسة ؟

المصدر: BBC News عربي - بريطانيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 21:07:05
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 94%

الإمارات تدين التصريحات العنصرية لوزيرين إسرائيليين

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 21:07:51
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 89%

العلاقات الإمارتية الجزائرية.. هل دخلت نفق التشنج؟

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 18:27:56
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 63%

فوزي جمال: "الرجاء فريق كبير وسنجتهد للفوز عليه"

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 21:06:33
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 60%

اتحاد تواركة يرتقي للمركز الثامن بعد انتصاره على أولمبيك آسفي (1-0)

المصدر: البطولة - المغرب التصنيف: رياضة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 21:06:36
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 57%

الإسباني ريكي روبيو يعتزل اللعب في الـ"أن بي ايه"

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 21:07:31
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 86%

مصر..كشف تفاصيل القبض على المتهمين في قضية "مغارة علي بابا"

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 21:07:48
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 100%

ارتفاع معدل التضخم مجددا في ألمانيا في كانون الأول/ديسمبر

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-01-04 21:07:40
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 93%

تحميل تطبيق المنصة العربية