الإسلام في الحبشة (كتاب)

عودة للموسوعة

الإسلام في الحبشة (كتاب)

الإسلام في الحبشة

الإسلام في الحبشة: وثائق سليمة قيمة عن أحوال المسلمين في مملكة إثيوبيا من شروق شمس الإسلام إلى هذه الأيام

الإسلام في الحبشة من بعد الهجرة

انتهى بما تقدَّم كلامنا عن علاقة الحبشة بالعرب في الجاهلية، وما وقع في هجرة بعض الصحابة — رضي الله عنهم — إلى الحبشة وعودتهم منها جميعًا إلى المدينة، بدون حتى يهجروا للإسلام أي أثر فيها.

ونحن ذاكرون بعون الله حال الإسلام في الحبشة، من بعد الهجرة إلى هذه الأيام.


أول سرية إسلامية للحبشة

أراد أمير المؤمنين «عمر بن الخطاب» — رضي الله عنه — حتى يعجم عود الحبشة لينشر فيها الدعوة الإسلامية، فوجَّهَ سرية من المسلمين في سنة ٢٠ه بقيادة «علقمة بن مجزز المدلجي»، فلم تُوفَّق إلى شيء وأُصِيبت، فجعل عمر على نفسه حتى لا يحمل في البحر أحدًا للغزو.١

احتلال السواحل الحبشية اقتصاديًّا

تُرِكت الحبشة وشأنها بعد سرية «علقمة»، ولم يرسل إليها المسلمون حملات للفتح بقوة السيف، ولكن أخذوا في احتلالها اقتصاديًّا، فتدفَّقَ سيل التجار المسلمين على سواحل الحبشة واستوطنوها، وجعلوا يحتلونها شيئًا فشيئًا، فأخذوا جزيرة «دهلك» ثم «مصوع» و«زيلع»، ودأبوا على ذلك حتى أصبحت جميع سواحل الحبشة في قبضة يدهم، وأدخلوا في الإسلام كثيرًا من القبائل الوثنية.۲

منعة بلاد الحبشة

كانت مملكة الحبشة قبل الإسلام وقاعدتها مدينة «أكسوم» على جانب عظيم من القوة والسطوة، قوية الشكيمة، وحسبنا دليلًا على قوتها تمكُّنها من احتلال اليمن مدة ٧٠ سنة تقريبًا.

وقد زاد في سطوتها مناعة أرضها، وما وهبها الله — سبحانه وتعالى — من الحواجز الطبيعية التي تجعلها بعيدةَ المنال عن الفاتحين.

فإن تلك الجنَّة الفيحاء التي تضم الهضبة الحبشية محصنة بطبيعتها بجبال شاهقة، وأودية سحيقة، ومسالك وعرة، وصحارٍ قاحلة، وأجواء مختلفة.

من أجل ذلك لم يحاول الخلفاء الراشدون، ولا مَن اتى بعدهم من ملوك الإسلام فَتْحَها عنوةً، في الوقت الذي اكتسحت فيه جنودهم بلاد الشام والعراق ومصر، وجاوزت بلاد فارس.

ولكن شاء الله حتى ينشر فيها دينه عن طريق السلم.

انتشار الإسلام في الحبشة

إننا وإنْ كنَّا لا نستطيع حتى نذكر بالتفصيل كيف من الممكن أن كان احتلال المسلمين لسواحل الحبشة سلمًا بغير حرب، وجعلها إسلامية، ونشرهم فيها الدين الحنيف بين القبائل المتوحشة، حتى مصَّرُوهم وأوجدوا منهم جنودًا أشدَّاء كوَّنوا بهم قوة مسلمة ذات شأن، على جانب عظيم من مكارم الأخلاق والصفات؛ إلا أننا نستطيع حتى نبرهن على قيام دولة إسلامية عظيمة في الحبشة، نشرت سلطانها يومًا ما على جميع أرجائها زمنًا غير قليل.

كيف وأين نشأت أول دولة إسلامية في الحبشة كان ممَّن هبط الحبشة مع التجار الذين نزحوا إليها من اليمن والحجاز جماعةٌ من قريش، مِن ولد «عقيل بن أبي طالب»، وسكنوا في ناحيةٍ تُسمَّى «جبرت»٣ من أراضي «زيلع»، وسموا بعد ذلك «الجبرتية»، ولا يزال هذا الاسم لشعب كبير من المسلمين في الحبشة كما سيأتي. ولِمَا وهب الله قريشًا من الحزم والحكمة وعلوالهمة، ولأنهم أهل الشرف والسيادة أينما حلوا؛ قام هؤلاء الأبطال بإنشاء أول دولة إسلامية في الحبشة، وجعلوا قاعدتها «وفات» وهي «جبرت»، ونظموا إدارتها وأحكموا أمرها، فأطاعهم أهلها، وأخذ سلطانهم يقوى ونفوذهم يمتد وملكهم يتسع، وحدثا كوَّنوا مملكةً مهَّدوا السبيل لتكوين غيرها، حتى إذا ولج القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي تم لهم في الحبشة «سبع ممالك» زاهرة مزدهرة، وسميت «الطراز الإسلامي»؛ لأنها كانت كالطراز على سواحل الحبشة، وهي: (١)مملكة وفات. (٢)مملكة دوارو. (٣)مملكة أرابيني. (٤)مملكة هديا. (٥)مملكة شرحا. (٦)مملكة بالي. (٧)مملكة داره. وكانت هذه الممالك كلها ذات مساجد وجوامع تقام فيها الجمعة والجماعة، وكانت البلاد على جانب عظيم من الخير والرخاء، وجميعها متجاورة ما عدا «داره»، فإن أرضها داخلةٌ في نفس نواحي «أمحرا» التي كانت قاعدةَ مملكة الحبشة وقتئذٍ.

وقد ذكر العلامة «القلقشندي» في كتابه «صبح الأعشى» هذه الممالك، ووصف بعضها، وتكلَّمَ عن عدد عساكرها من فارس وراجل، ناقلًا عن «مسالك الأبصار» لمؤلفه «شهاب الدين العمري».

نطق عن «وفات» والعامة تسميها «أوفات»، وينطق لها أيضًا «جَبَرْت»، والنسبة إليها «جَبَرْتِيٌّ»، وهي أكبر مدن الحبشة على نشز من الأرض، وعمارتها متفرقة، ودار الملك فيها على «تل» والقلعة على «تل»، ولها وادٍ فيه نهر صغير، وتمطر في الليل غالبًا مطرًا كثيرًا.

وهي عامرة آهِلة بقرى متصلة، وهي أقرب أخواتها إلى الديار المصرية وإلى السواحل المسامتة لليمن.

وهي أوسع الممالك السبع أرضًا، وعسكرها ١٥ ألفًا من الفرسان، ويتبعهم ٢٠ ألفًا من الرَّجَّالة.٤ ا.ه. أقول: وفات واقعة شرقي هضبة «شوى»، وهي أول مملكة إسلامية قامت في الحبشة.

وقد ذكر العلامة «الشوكاني» في كتابه «البدر الطالع» ترجمةً لسلطانها محمد بن أبي البركات بن أحمد بن علي بن محمد بن عمر الجبرتي، ونعته بسلطان المسلمين بالحبشة، ونطق: إنه تولى ملكها سنة ٨٢٨ه/١٤٢٥م، ومات في سنة ٨٣٥ه/١٤٣٢م في إحدى غزواته.

ونطق: كان دَيِّنًا عاقلًا عادلًا خيِّرًا وقورًا مُهَابًا، ذا سطوة على الحبشة، أعز الله الإسلام في أيامه.

ثم نطق: وملك بعده أخوه، فاقتفى أثره في غزواته وشدته.

وكان يصحب الفقهاء والفهماء والصلحاء، وينشر العدل في أعماله، حتى في ولده وأهله، وأسلم على يديه خلائق من الحبشة.٥ ا.ه. ملخَّصًا. ونطق القلقشندي عن مملكة «دَوَارُو» إنها تلي «وفات»، وهي صغيرة وضيقة، ومع ضيقها فإنها ذات عسكر جَمٍّ نظير عسكر أوفات.٦ ا.ه. أقول: وتُسمَّى أيضًا «أدال»، وقد فاقت «وفات» قوةً وعظمةً، ومسقطها شرقي «هرر»، ولها قاعدة تُسمَّى «دكر».

ونطق القلقشندي عن «هديا»: هي جنوبي «وفات» وتلي «أرابيني»، وصاحبها أقوى إخوانه، من ملوك هذه الممالك السبعة، وأكثر خيلًا ورجالًا وأشد بأسًا، على ضيق بلاده عن مقدار «أوفات».٧ ا.ه. ونطق عن مملكة «بالي» التي تقع في جنوب «شوى»، ويقطنها الآن قبائل «غالا أروسي»: إنها مدينة تلي «شرحا»، ولكنها أكثر خصبًا، وأطيب سكنًا، وأبرد هواءً منها جميعًا.

ونطق عن «دارا»: إنها مدينة تلي «بالي»، وهي أضعف أخواتها حالًا، وأقلها خيلًا ورجالًا، وعسكرها لا يزيد عن ٢٠٠٠ فارس، ورَجَّالته كذلك.٨ ا.ه. أقول: إذا سبب ضعفها عن أخواتها هولتداخلها في أراضي «أمحرا» بين بلاد الحبشة.

ونطق القلقشندي أيضًا عن ذكر معاملات وأسعار الممالك الإسلامية بالحبشة ما يأتي ملخَّصًا: وليس بأوفات سكة تُضرَب، بل معاملاتهم بدنانير مصر ودراهمها الواصلة إليهم صحبة التجار.٩ ا.ه. فمن هذه الجملة القليلة نعهد مقدار الصلة التجارية في تلك الأيام بين مصر والممالك الإسلامية بالحبشة.

الرخاء في الممالك المذكورة وإذا أردتَ حتى تعهد ما بلغَتْه تلك الممالك من الرخاء، فانظر ما خطه «القلقشندي» عن ذلك حيث نطق ما ملخَّصه: وأما الأسعار فكلها رخيصة، ويباع بالدرهم الواحد عندهم من الحنطة حمل بغل، والشعير لا قيمة له، وعلى هذا فَقِسْ.١٠ نظام التوارث في عروش هذه الممالك نطق القلقشندي: والملك منهم في بيوت محفوظة، إلا «بالي» اليوم، فإن الملك فيها صار إلى رجل ليس من أهل بيت الملك، تقرَّبَ إلى سلطان «أمحرا» حتى ولَّاه مملكة «بالي»، فاستقل بملكها، على أنه قد وليها من أهل بيت الملك رجال أكفاء، ولكن الأرض لله يورثها مَن يشاء.

نطق في مسالك الأبصار: وجميع ملوك هذه الممالك، وإن توارثوها، لا يستقل منهم في ملك إلا مَن أقامه سلطان «أمحرا»، وإذا توفي منهم ملك ومن أهله رجال، قصدوا جميعهم سلطان «أمحرا» وتقربوا إليه جهد الطاقة، فيختار منهم رجلًا يولِّيه، فإذا ولَّاه سمع البقية له وأطاعوا، فهم كالنواب وأمرهم راجع إليه.

ولكن كلهم متفقون على تعظيم صاحب «أوفات» منقادون إليه.١١ غموض تاريخ الإسلام في الحبشة قبل القرن الثامن يسوءنا مع الأسف أننا لم نُوفَّق إلى العثور على وثائق نعتمد عليها، ونعهد منها ما كان يجري بين الحبشة والمسلمين قبل القرن الثامن، وما قاساه هؤلاء من المشاق في سبيل تكوين الممالك «السبع» التي أنشئوها، وما يدرينا، لعل هناك خطًا وآثارًا عن ذلك لم يسمح الدهر بظهورها من مكمنها بعدُ.

ولكن المُسَلَّم به حتى علاقة الحبشة بمصر لم تنبتر، وتلك العلاقة دينية مسيحية محضة؛ لأن تولية الأساقفة للكنيسة الحبشية تصدر من غبطة بطريرك الكرازة المرقسية بمصر، وذلك من وقت دخول الديانة المسيحية إلى بلاد الحبشة في أوائل القرن الرابع للميلاد على يد الأسقف «فرومنتيوس»، الذي عيَّنَه بطرك الإسكندرية أسقفًا على الحبشة.

وقد عثرنا على وثيقة قليلة الحدثات كبيرة المغزى، رواها الطبري وغيره، تدل على قسوة الحبشة، وسوء جوارهم للمسلمين، وهذا نصها نطق: لما قُتِل مروان بن محمد (آخِر الخلفاء الأمويين) ببلدة «بوصير» (من أعمال جيزة مصر) في سنة ١٣٢ه/٧٥٠م، هرب ولداه «عبد الله» و«عبيد الله» إلى أرض الحبشة، فلقوا من الحبشة بلاءً، قاتلهم الحبشة فقتلوا «عبد الله»، وأفلت «عبيد الله» في عدة ممَّن معه.١٢ فانظر إلى هذا الشعب الوحشي كيف من الممكن أن يقابل ضيوفًا دخلوا أرضه، يتخذون في جواره حمًى وأمنًا من عدوهم، فيقابلهم بالسيف، يقتل البعض ويشرِّد البعضَ الآخَر.

وقد وصل إلينا أيضًا عن طريق «المقتطف» كتابة طريفة، نقلًا عن كتاب «لباب الآداب» للأمير «أسامة بن منقذ» ننقلها بحروفها — وإن كانت لا تتعلق بموضوع كتابنا، إلا أنها تدل على شيء من جبروت ملوك الحبشة — نطق: وصل رسول ملك الحبشة وكتابه في سنة ٥٤٧ه/١١٥٢م إلى الملك العادل أبي الحسن بن علي بن السلار، فسأله حتى يأمر البطرك بمصر حتى يعزل بطرك الحبشة (وتلك البلاد كلها مردودة إلى نظر بطرك مصر).

فأمر الملك العادل بإحضار البطرك، فحضر وأنا عنده، فنطق له: ملك الحبشة قد شكا من البطرك الذي يتولى بلاده، وسألني في التقدم إليك بعزله.

فنطق: يا مولاي، ما وليته حتى اختبرته ورأيته يصلح للناموس الذي هوفيه، وما ظهر لي من أمره ما يوجب عزله، ولا يسعني في ديني حتى أعمل فيه بغير الواجب، ولا يجوز حتى أعزله.

فاغتاظ الملك العادل من قوله، وأمر باعتنطقه، فاعتُقِل يومين ثم أنفذ إليه، وأنا حاضر، يقول له: لا بد من عزل هذا البطرك لأجل سؤال ملك الحبشة في ذلك. فنطق: يا مولاي، ما عندي غير ما قلته لك، وحكمك وقدرتك إنما هي على الجسم الضعيف الذي بين يديك، وأما ديني فما لكَ عليه من سبيل. ثم نطق: «والله ما أعزله ولونالني جميع مكروه.»

فأطلقه العادل واعتذر إلى ملك الحبشة. ا.ه. مختصرًا.١٣ نقول: إذا شهادة بطرك مصر لبطرك الحبشة الذي عيَّنَه بنفسه، بأنه اختبره ووجده يصلح لما ولَّاه، شهادة لا يمكن حتى تُشَاب بشيء غير الحق، فيا تُرَى أي شيء ينقم ملك الحبشة منه، إلا حتىقد يكون الملك جبَّارًا يأتي المظالم المخالفة للتعليم المسيحي والبطرك ينهاه عنها، ويرشده إلى اتباع العدل، فتوسَّلَ ملك الحبشة إلى ملك مصر في الراتى إلى البطرك لعزله حتى يستريح من مضايقته، إذ لا سبيل له إلى مسِّه بسوء.

وقد عثرت في كتاب «الاعتبار» للأمير «ابن منقذ» أيضًا على وثيقة نفيسة، يُستدَل منها على حتى الحبشة كانت تشن الغارة على البلاد المصرية المجاورة لها، وتتعرض لأهلها بالسوء، وأن الملك الصالح «طلائع» أراد حتى يعيِّن «ابن منقذ» واليًا على «أسوان» ويمده بالمال والرجال؛ ليتقوى على حرب الحبشة، وكان ذلك في سنة ٥٥٠ه/١١٥٥م، وهذا نصها: … ثم اتصلتُ بخدمة الملك العادل «نور الدين»، وكاتَبَ الملك الصالح في تسيير أهلي وأولادي الذين تخلَّفُوا بمصر، وكان مُحسِنًا إليهم، فردَّ الرسول واعتذر بأنه يخاف عليهم من الإفرنج.

وخط إليَّ يقول: ترجع إلى مصر وأنتَ تعهد ما بيني وبينك، وإنْ كنتَ مستوحشًا من أهل القصر، فتصل إلى مكة، وأنفذ لك كتابًا بتسليم مدينة «أسوان» إليك، وأمدك بما تتقوى به على محاربة الحبشة، فأسوان ثغر من ثغور المسلمين، وأُسَيِّر إليك أهلك وأولادك.١٤ ماذا كانت تضمر الحبشة للمسلمين كانت ملوك الحبشة تنظر إلى هذه الدويلات المسالمة بعين الحسد والحقد، لارتقائها مدنيًّا واقتصاديًّا، فضلًا عما كانت تكنه من العداوة للمسلمين من قديم.

لذلك لم يَحْلُ لها ما بلغته البلاد التي احتلها المسلمون وأصلحوها من الرفاهية، كأنهم خافوا عاقبة رُقِيِّها، فأخذوا يتحيَّنون الفرص للفتك بالمسلمين وإبادتهم واحتلال ممالكهم، وظهر ذلك جليًّا بما خطه المؤرخون في القرن الثامن الهجري كما سنبيِّنه.

الإسلام والحبشة في القرن الثامن لما ولج القرن الثامن الهجري بدأ المؤرخون في تدوين أخبار الحبشة، وقد وضع المقريزي كتابه «الإلمام»،١٥ وذكر فيه «النجاشي إسحق بن داود» الذي تولَّى على الحبشة سنة ٨١٢ه/١٤٠٩م، فنطق: وهذا الملك قوي أمرُه بوفود قوم من الجراكسة إلى بلاده، أنشئوا فيها مصنعًا للسلاح كالسيوف والرماح والخناجر، بعد حتى كانت «الحراب والنشاب» عماد سلاحهم.

وكذلك انتظمت مالية دولته بوجود رجل قبطي من مصر ولَّاه أمر أموال المملكة، فأحسن ضبطها وأنماها، فعمَّها اليُسْر والرخاء.

فعند ذلك طغى «النجاشي» وبغى، واتفق مع رجال دولته على انتزاع ممالك المسلمين من أيديهم، وإجلائهم عن البلاد وإبادتهم.

نطق المقريزي: فلما تحضَّرَتْ دولته وقويت شوكته، سوَّلَتْ له شياطينه حتى يأخذ ممالك الإسلام، فأسقط بمَن تحت يده في مملكة الحبشة من المسلمين وقائع شنيعة طويلة، اغتال فيها وسبى واسترَقَّ عالَمًا لا يحصيه إلا خالقه سبحانه.

ثم خط إلى ملوك الإفرنج يحثهم على ملاقاته لإزالة دولة الإسلام، وواعدهم على ذلك، وأخذ في تمهيد١٦ ما بينه وبين البلاد الإسلامية، واستجلاب العربان إليه، فعاجله الله تعالى بنقمته سنة ٨٣٣ه/١٤٢٩-١٤٣٠م. ا.ه. فهذه شهادة مؤرِّخ معاصر للحوادث التي كانت تجري بين ملوك الحبشة والمسلمين، تُظهِر للقارئ ما جُبِلت عليه ملوك الحبشة وشعوبها من العداوة للمسلمين، فإنهم لم يرعَوْا حق جوارهم بعد حتى قضَوْا على الوثنية في بلادهم ومصَّروها، وأقاموا فيها شعائر الإسلام الحنيف.

لهذا لم يجد المسلمون بعد ذلك بدًّا من إعداد العدة لمقاومة أعدائهم.

ولا شك في حتى نهوض الإسلام في تلك البلاد كان كوسيلة لازمة لدفاع المسلمين عن أنفسهم وحريتهم، تلقاء طغيان الأحباش الذين يختلفون عنهم دينًا وجنسًا.


حدود الحبشة وقتئذٍ

حُصِرت المملكة الحبشية ذلك الوقت في الهضبة المرتفعة، ما بين «شوى» و«أمحره» و«تيجري»، وكان الشعب يعاني التعب والشقاء من الحكام وسوء إدارتهم.

وكان نفوذ دولة المماليك يمتد إلى شمالي الحبشة، فقام رجل اسمه «يكونه أملاك»، وأسَّس دولة حبشية وهي «الأسرة السليمانية»، وأخذ يشنُّ الغارات على المسلمين في الجنوب والجنوب الشرقي.

فنهض المسلمون لدفع تعدِّي الأحباش وحمي وطيس الحرب بينهم، ودامت هذه الحروب الفظيعة نحوثلاثة قرون، وبلغت أشدها في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، حين تولَّى النجاشي «لبنا دنقل» Denghel وولده «كلاوديوس Calâwdewos» من بعده. وقد عانى المسلمون في أيامهما شدة عظيمة، وضعفت دولتهم التي جعلوا عاصمتها «هرر» سنة ٩٢٦ه/١٥٢٠م، وكادت تنهار ويقضى عليها، لولا حتى قام من المسلمين شاب مقدام جسور اسمه «أحمد بن إبراهيم»، وجمع حدثة المسلمين وتولَّى أمرهم، حتى لقَّبوه «الإمام» و«الغازي» و«صاحب الفتح» لفتحه الحبشة والاستيلاء عليها.

وسمَّاه الأحباش «جراني Gragn» أي أعسر، فقد حمل على الحبشة حملات شديدة بمؤازرة الأتراك الذين كانت «جدة» و«اليمن» في قبضتهم. وتوغَّل في البلاد حتى انتهى إلى الأنطقيم الشمالية من «تيجري»، وبلغت حروبه مع الحبشة أقصى حد من الحماسة والإقدام؛ لأن المسلمين اعتبروها جهادًا، وغدوا يحاربون حرب المستميت باسم الدين حتى نفدت قواهم المادية والمعنوية.

وقد وُصِفت هذه الوقائع التي تشيب لهولها الأطفال، في كتاب العلَّامة الشهاب «أحمد بن عبد القادر الجيزاني» المدعو«عرب فقيه»، والذي سمَّاه «فتوح الحبشة».

ومَن يطالع هذا الكتاب يجد فيه من ذكر أعمال «الفروسية» و«البطولة» و«هول الوقائع» التي قام بها المسلمون، ما ليس له نظير في الأخبار المتداولة عن الفتوحات الإسلامية الأولى.

وانظر ما نطقه المؤلف في وصف واقعة «صمبر كوري» في بلاد شوى.

واقعة صمبر كوري هذه الواقعة حدثت في مستهل رجب من عام ٩٣٥ه، وهي إحدى سلسلة وقائع، استحرَّ فيها القتل في المسلمين، وكادت الحبشان تقضي عليهم، حتى إذا كثيرًا من الجَهَلَة الضعيفي الإيمان من المسلمين ارتدوا إلى الكفر، طلبًا للنجاة من القتل والاضطهاد.

واقعة بادقي وقد تجاوز واقعة «صمبر كوري» واقعة «بادقي»، كادت تمضى بجيش المسلمين لولا حتى تداركهم الله بنصرٍ من عنده، وكان المسلمون زاحفين إليها بقيادة الإمام «أحمد»، فأخلى أمامهم الجيش الحبشي الطريق، وكانوا حدثا سألوا واحدًا من الأهالي عن الجيش أنكر وجود أي قوة هناك، وكانت «بادقي» هذه موضع بيوت الملك وخزائنه، فسار المسلمون إليها من غير ترتيب ولا تعبئة، فلما اقتربوا منها صدمتهم عساكر الكفرة الذين أقبلوا كالجراد المنتشر، وصدوا المسلمين عن دخول القرية، وكان بين العسكرين نهر يُسمَّى «سمرما»، فبقي المسلمون في أمكانهم إلى الصباح، ثم عبر النهر منهم طائفة، والتقت بالحبشة واشتبكوا في معركة، فسقط الرعب في قلب رجلين من المسلمين، فانهزما وانهزمت بانهزامهما جميع الفرقة، وعبرت النهر على غير هدى، فغرق منها جماعة.

عند ذلك وقف الإمام في وجه الهاربين، وصاح قائلًا: «أين تفرون، أتفرون من الجنة،يا ترى؟ وما هوإلا أجل قد كُتِب.»

فنطق له أحد أعوانه: «اضرب خيمتك هنا، ونحن نقاتل دونك قتال العرب.»١٧ فضرب خيمته واجتمع المسلمون حوله، وثبتوا في أماكنهم، وقد خسروا بعض رجالهم.

ثم رأى الإمام «أحمد» حتى هذه البقعة ضيقة ولا تصلح للقتال، فرحل بعسكره متقهقرًا، وتبعتهم عساكر الحبشة حتى لحقوا بهم عند «صمبر كوري».

فلما رأى المسلمون حتى الكفار لاحقون بهم، استشار الإمام أصحاب الرأي في عسكره، فنطقوا: «أما نحن، فالقتال بغيتنا ومنانا، ولا نزال نصِرُّ لهم على الضرب والطعن والقتال، حتى يحكم الله بيننا وهوخير الحاكمين.»

ففرح بهم ونادى لهم، وباتوا يعدون العدة للصباح، فلما أصبحوا خطب فيهم الفقيه «أبوبكر» المكنى «بارشونه»، وبشَّرَهم بالجنة وحذَّرهم من النار، وتلى عليهم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.١٨ فعند ذلك عبأهم الإمام «أحمد» وصفهم ورتبهم، واصطَفَّتِ الحبشة، فكانوا سبعة صفوف، فهابهم المسلمون لكثرة عددهم، فأقبل الإمام يثبتهم بنادىئه، ويقول: «اللهم اجعل كلًّا منَّا صابرًا، ولدينك ناصرًا.»

ثم نطق لعسكره: «اذكروا الله ولا تنظروا إليهم، وانظروا إلى الأرض، واستعينوا بالله عليهم واصبروا، والله معكم وناصركم.»

فلما اقترب الكفار منهم، كانت سحابة من فوقهم تظلهم والمسلمون في حر الشمس، فتضرَّعَ الإمام ونادى ونطق في نادىئه: «هؤلاء أعداء نبيك وأعداء رُسُلك، يأكلون رزقك ويعبدون غيرك، فتظللهم ونحن المسلمون في حر الشمس.»

فما استتم الإمام كلامه، حتى زالت تلك السحابة عن رءوس الكفرة إلى رءوس المسلمين، وإلى تعبئتهم فكانت تظللهم.

ثم حمل الكفار على المسلمين فاقتتلوا، وحمي الوطيس بينهم إلى وقت العصر.

وخطب الفقيه «أبوبكر» فيهم، وقرأ عليهم قوله تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.١٩ فضجَّ المسلمون بالتهليل والتكبير، فألقى الله الرعب في قلوب الأحباش فولوا الأدبار، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، حتى اختلط الظلام وتمَّ النصر للإمام «أحمد» وجيشه. ا.ه.

نقول: مَن يتصفح هذا الكتاب النفيس، يدرك هول هذه الحروب التي كانت الحبشة تشنها على المسلمين في جميع وقت وناحية؛ ليخرجوهم من بلادهم، حتى إنهم استعانوا عليهم بالبرتغاليين الذين احتلوا جزءًا من «أفريقيا الشرقية»، فأمدوهم بمدافع وجنود مدرَّبين على استعمالها.

وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.٢٠ واتى في هذا الكتاب أيضًا حتى الإمام «أحمد» بقي يقاتل الحبشة بجيشه البالغ عدد رجاله عشرة آلاف مدة ١٢ سنة، من سنة ٩٣٧ إلى سنة ٩٥٠ه/١٥٣١–١٥٤٣م، ثم استشهد في إحدى المعارك.

وقد خلفه ابن أخته الأمير «نور بن مجاهد» على قيادة المجاهدين وسلطنة «هرر»، فكان من خيرة القواد، وسمَّاه المسلمون «صاحب الفتح الثاني»، وهوالذي اغتال النجاشي «كلاوديوس Galawdewos» سنة ٩٦٦ه/١٥٥٩م في إحدى المعارك. وما زال قائمًا بالأمر حتى لقي ربه سنة ٩٧٥ه/١٥٦٨م.

ضعف السلطنة الإسلامية بعد ذلك انتهى بموت الأمير «نور بن مجاهد» مجد سلطنة «هرر» الإسلامية، فعادت الحبشة إلى عنتها وإلحاق الأذى بالمسلمين، الذين عجزوا بعد تلك الحروب الطاحنة عن مقاومة تعدِّي الحبشة عليهم.

وزادت حالتهم تأخرًا في بدء القرن الحادي عشر الهجري، حينما اخترق حدود الحبشة من جنوب نهر «وابي» شعوبُ «غالا» الوثنيون، فإنهم كادوا يقضون على الإسلام في تلك البلاد.

وقد انتزعوا من أيدي المسلمين مملكتي «بَالي» و«هَدْيا»، وتوغلوا في هضبة الحبشة، وجعلوا مقرهم ما بين «هرر» و«شوى» و«أمحره»، وانتشروا في بلاد كثيرة من الهضبة.

أما مسلموشرقي الحبشة فتجمعوا في «أوْسَه»، واتخذوها مقرًّا للإمام عوضًا عن «هرر».

تحرُّش الدولة العثمانية بالحبشة

أما في الجهة الشمالية فبقيت نار الحرب مستعرة بين المسلمين والأحباش، حتى استولى العثمانيون على «مصوع» في سنة ٩٦٤ه/١٥٥٧م، وبدءوا يتدخلون في شئون الحبشة، ويشدون أزر المسلمين في المقاطعة التي تُسمَّى الآن «الإريترية».

فأثار ذلك ثائرة الحبشة، وانتهى الأمر بحرب عنيفة بينهم وبين العثمانيين سنة ٩٨٦ه/١٥٧٨م، كان الظفر فيها للحبشة، بقيادة النجاشي «ملاك صاجاد Malak Sagad» الذي قضى على مطامع العثمانيين بفتح الحبشة. تأثير الإسلام في الحبشة إن الحملة الإسلامية التي قام بها الإمام «أحمد بن إبراهيم» ومن بعده ابن أخته الأمير «نور بن مجاهد» لم تمضى سُدًى، فقد كانت سببًا في انتشار الإسلام في الهضبة حتى قلب الحبشة في «دَمْبِيَا» و«وَكَنُو».

ولما قدم سفراء إمام اليمن إلى الحبشة في سنة ١٠٥٨ه/١٦٤٨م، وجدوا بقرب «غندار» مدينة عامرة بالمسلمين؛ لأن قسمًا كبيرًا من قبائل «غالا» الوثنيين، الذين سكنوا الهضبة الحبشية، اعتنق الإسلام لِمَا وجدوا فيه من الفضائل.


النجاشي المسلم

وحوالي سنة ١١٩٥ه/١٧٨٠م استولت قبائل «غالَّا وُلُّو» و«إيجو» على «بغمدر» Beghemder، وعلى قسم من «أمحره»، فأصبح رئيس «إيجو» المسلم، وهوالرأس «كوكسا» يملي إرادته على نفس «النجاشي» الحبشي. ثم أصبح الرأس «علي» ابن أخيه ملكًا على الحبشة «نجاشيًّا»، فكان ذلك فاتحة عهد حديث للمسلمين.

نجاشي آخَر مسلم

نطق صاحب رحلة الحبشة في الصفحة ١٥٠: وقد غزا «محمد غراني» هذه البلاد وفتح القسم الكبير منها، وهجر حكومتها على وشك الانقراض، ولم تتخلص من وهدة الدمار إلا بمعاونة البرتغاليين الذين عقدوا عهدًا مع الحكومة الحبشية على إباحة دخول قسس الكاثوليك إلى الحبشة في نظير معاونتهم لها على المسلمين.

ونطق في الصفحة ١٨٦ عن «محمد غراني» هذا ما نصه: سألت آتوهيلا مريم عن محمد غراني المشهور بفتوحه هناك، فنطق: إذا هذا الرجل كان من قواد صاحب هرر قبل أربعة قرون، ثم تقوى فاستولى على جميع الحبشة مدة ١٥ سنة، انسحب النجاشي في أثنائها إلى «غوندار»، ثم أُخِذت البلاد منه وأُعِيدت إلى أصحابها بمساعدة البورتغاليين، وإن هؤلاء هم الذين أدخلوا من ذلك العهد الأسلحة النارية إلى بلاد الحبشة لأول مرة. ا.ه.

عدويمسي حبيبًا، وجار يظل عدوًّا يندهش المُطَّلِع على تاريخ الحبشة حين يفهم حتى المسلمين يجاورون الحبشة من القرن الأول للهجرة، ينشرون بينهم الفضيلة ويراعون ذمتهم.

والحبشة توالي عليهم الغارات، وتسعى بكل الوسائل لإبادتهم.

وأن قبائل «غالا» الذين هم على الوثنية بعد عداوتهم للمسلمين وشَنِّ الغارات عليهم، ينقلبون أصدقاء وأخلاء فيدخلون في الإسلام، ويحفظون الولاء للمسلمين.

بقية السيف أكثر عددًا إذا فحصنا عن الحقيقة وجدنا حتى جميع الحروب التي أقامتها الأحباش على المسلمين، بقصد إقصائهم عن الحبشة أوإبادتهم من الوجود، لم تكن تؤثر في تعداد المسلمين، بل بالعكس، أصبح المسلمون أكثرية عظيمة بعد حتى كانوا في البلاد أقلية ضعيفة.

وقد صدق عليهم القول المشهور: «بقية السيف أكثر عددًا.»

النهضة الإسلامية الفهمية في الحبشة

في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، الموافق للنصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، قامت نهضة إسلامية في البلاد الملحقة اليوم بالحبشة وما حولها من المقاطعات شرقًا وجنوبًا، بتأثير ما بلغته «هرر» من التقدم في العلوم الإسلامية، بفضل اتصالها باليمن والحجاز.

وقد تأثَّر بذلك أيضًا غرب الحبشة بعد حتى فتح السودان في أيام المغفور له عزيز مصر الأكبر «الحاج محمد علي باشا».

وقد بلغ التقدم الإسلامي أوج مجده أيام احتلال مصر لزيلع.٢١ و«هرر»٢٢ في حكم المغفور له الخديوإسماعيل باشا، ذلك الاحتلال القصير الأمد من سنة ١٢٩٢ إلى سنة ١٣٠٢ه/١٨٧٥–١٨٨٤م. وقد لحظ فهماء الإفرنج وكتَّابهم ذلك التقدُّم ونوَّهوا به، فقد لاحظ المحرر النمساوي «پولشكي Paulitschke» الذي زار «هرر» في سنة ١٣٠٢ه/١٨٨٥م حتى فيها عددًا كبيرًا من المبشرين المسلمين — يقصد المحرر بلفظة المبشرين فهماء الإسلام. ونطق حين زار «غالَّا» الواقعة غرب مدينة «هرر» ما ملخصه: «مما أدهشني في بلاد «غالَّا» كثرة النادىية الإسلامية الغيورة فيها، وقد لاحظت حتى الشافعية في «هرر» على اتصال دائم بالحرمين في جزيرة العرب، وأن المئات من الشبَّان يأتون «لزيلع» و«بربرة» جميع سنة للتبشير (أي لنشر الدين الإسلامي)، ويتسع نطاق أعمالهم الدينية، ويتقدَّم بسهولة بين قبائل الصومال — وإن لم توجد فيهم روح الإسلام السليم كثيرًا.

وقد وزعت الحكومة المصرية على المسلمين في «هرر» عندما احتلتها عددًا عظيمًا من المصاحف الشريفة الجميلة الطبع، أكثرها مطبوع في مطبعة بولاق الأميرية، حتى إذا مسلمي «شوى» حافظوا أشد المحافظة على قواعد دينهم، وكانت قوافل الحاج ترد منهم جميع عام إلى «تَغُرَّه» و«زيلع». ا.ه.»

وخط الماجور «هُنتر Hunter» في رجب سنة ١٣٠١ه/أبريل سنة ١٨٨٤م يقول: «إنه من المحتمل إسلام جميع القبائل، إذا دام الحكم الحاضر بضع سنوات أخرى.» محمد رءوف باشا حاكم «هرر» كان رءوف باشا الحاكم المصري «لهرر» قد أصلح الفاسد من أخلاق الصوماليين، واستمال قلوبهم إليه، فتعلَّقوا بمحبته؛ لأنه اغتال أمير «هرر» المسمَّى «محمد عبد الشكور»، الذي اشتهر بظلمه وسوء سيرته.

ونشر الدين في «هرر» والعدل والنظام.

ومما يُؤثَر عنه قوله للصوماليين: «أنتم تدعون بأنكم مسلمون، ولكن الشريعة الإسلامية تنهى عن القتل، فضعوا — إذا أحببتم — ريشة النعام البيضاء على رءوسكم، ولكن ضعوها بعد حتى تكونوا أتيتم عمل الجندي الباسل في قتال قانوني، لا بعد حتى تكونوا ارتكبتم جريمة القتل بالاغتيال والخديعة.»٢٣

تعدي الأحباش على «هرر» الإسلامية

بعد حتى أخلى المصريون إمارة «هرر»، وانسحبت منها حاميتهم المصرية في رجب سنة ١٢٩٢ه/أبريل سنة ١٨٧٥م، أُعِيد إلى عرش الإمارة «الأمير عبد الله بن علي»، فلم يَحْلُ ذلك للرأس «منليك» صاحب «شوى»، فأغار عليه بجيشه وقاتله في «جلنقو» في سنة ١٣٠٥ه/يناير سنة ١٨٨٧م وهزمه، ففر إلى بلاد «أوجادين».

وقام بعده ابن عمه «علي»، فلم تطل مدته مع حامية المدينة التي كانت من الجنود الأحباش، فقُبِض عليه بأمر حاكم «شوى» وأُرسِل إليه، فزجَّه في سجن «شوى».

أما المسلمون الذين كانوا يقطنون في الهضبة الحبشية، فقد لاقوا من العذاب والأذى والاضطهاد شيئًا كثيرًا.

حرق جامع غوندار واضطهاد المسلمين

أما في القسم الشمالي من بلاد الحبشة، فإن الرأس «كاسا» اغتال الرأس «علي» سنة ١٢٦٩ه/١٨٥٣م، ودعى نفسه «نجاشيًّا» على الحبشة في سنة ١٨٥٥م، وسمى نفسه «تيودوروس»، فجعل همه اضطهاد المسلمين وإلحاق الأذى بهم وتعطيل شعائرهم الدينية، حتى إنه أشعل النار في جامع عاصمة «غوندار».

وبعد حتى انتحر في حربه مع الإنكليز في سنة ١٨٦٨م، قام بعده النجاشي «يوحانس» فزاد في الإساءة إلى المسلمين؛ لأنه كان يرى حتى الإسلام خطر على مملكته بعد حتى توسعت الحكومة المصرية الإسلامية في فتوحاتها، واحتلت السودان ومصوع والهضبة الإريترية الشمالية، فضغطت على حدود الحبشة غربًا وشمالًا.

الحملة المصرية على الحبشة

ولا يخفى حتى مصر كانت جهزت حملتين ضد الحبشة؛ الأولى كانت في سنة ١٢٩٢ه/١٨٧٥م بقيادة جنرال دانمركي، فقهرت وقتلت عساكرها في واقعة «غندات» أو«غودَّا غودي» على مرأى من النجاشي «يوحانس»، والثانية كانت بقيادة الأمير «حسن باشا» ابن الخديو«إسماعيل باشا»، فدحرها الأحباش أشد اندحار في مسقطة «قراع» سنة ١٢٨٨ه/١٨٧١م، وأسروا مَن نجا من القتل، وأجبروا ضبَّاطها المصريين على حتى يمروا أمام الجمهور وهم عراة استهزاءً بهم وسخرية.

إكراه خمسين ألفًا من العامة على التنصُّر

وذكر المؤرخ الشهير «أرنولد Arnold» في كتابه النفيس The Preaching of Islam المطبوع في Westminster عام ١٨٩٨، حتى خمسين ألفًا من المسلمين أُكرِهوا في سنة ١٨٨٠م على قبول العماد. ونشأ طبعًا عن هذا الضعف الديني اشتداد العداوة الدينية والجنسية بين الحبشة والمسلمين، وهاجر من المسلمين عدد عظيم عن طريق القلابات فرارًا بدينهم، وأصبح حي الإسلام في مدينة «غوندار» عام ١٣٠٠ه/١٨٨٣م خاويًا خاليًا من سكانه.

وهَبَّ سكان بلاد «وُلُّوغالا» في الجهة الشرقية من مقاطعة «أمحرا» إلى الثورة؛ تلقاء الاضطهاد الحبشي للإسلام.

فزحف إليهم النجاشي «يوحانس» «ومنليك» ملك «شوى» سنة ١٣٠٣ه/١٨٨٦م، وأمعنا في النفوس قتلًا وذبحًا، وفي البلاد تخريبًا وهدمًا.

الانتقام الإلهي من النجاشي يوحانس

وقد انتقم الله — سبحانه — من النجاشي «يوحانس»، فلقي حتفه في واقعة «القلابات» على يد الدراويش في مارس سنة ١٨٨٩م، الذين انتقموا للمسلمين من اضطهاد الحبشة لهم والتعرض لدينهم.

أنشودة حماسية ضد المسلمين

من جرَّاء هذه الحروب المتتابعة، ازداد الحبشة بغضًا على بغض المسلمين، وأخذوا ينشدون الأغاني بوجوب الفتك بهم.

وقد نقل الرواد أنشودة يتغنى بها أحباش «أمحره»، وترجمتها إلى العربية هكذا: لقد ولدت هذه البقرة في العام الماضي، وثدياها في هذه السنة لا يزالان ممتلئان، فكيف يطيب لنا العيش إذا لم تُذبَح هذه البقرة؟

والتورية في هذه الأنشودة محصورة في الحدثة الأمحرية «إجسلام»، فإذا نُطِق بها هكذا «إجس لام» Egges-lam كان معناها «هذه البقرة»، وإذا نُطِق بها «إج إسلام» Egg-eslam كان معناها هؤلاء المسلمون. فانظر إلى أي درجة بلغت عداوة الأحباش للمسلمين.

النجاشي منليك والإسلام

فلما تملَّك النجاشي «منليك» على الحبشة، آلى على نفسه حتى يُخضِع جميع الممالك الإسلامية والبلاد الوثنية المتاخمة للهضبة الحبشية، فبدأ بامتلاك «أوسة» الواقعة في السهل المنخفض للجهة الشرقية، وقد اتخذها المسلمون مقرًّا لهم بعد ذهاب «أمحرا» منهم.

ثم أخضع بلاد «الأوجادين» و«غالا أروسي» و«غالا بورانه»، وأنطقيم «لِمُّو» و«جِمَّا» و«لِياكة» و«ولَّاغة»، ومملكة «كفَّا» التي يقطنها شعب «سداما».

ولما سقطت «لمُّو» بيد الأحباش في سنة ١٣٠٩ه/١٨٩١م، كان جميع أهلها قد أسلموا منذ النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري/النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، تبعًا لحاكمهم «أبَّا باغيبو».

وكانت هذه المقاطعة في سنة ١٢٩٦ الهجرية/١٨٧٩م قد بلغ بها الإسلام أوج عزه، وقد اعتنقته الطبقات الفقيرة التي مزجت به كثيرًا من عقائدها القديمة.

وقد جاء إلى هذه المقاطعة طائفة من القرَّاء الفهماء لإرشاد أهلها، وغيَّر أكثر السكان أسماءهم بأسماء إسلامية «كمصطفى» و«علي» و«عمر»، إلا حتى الرؤساء حافظوا على أسمائهم الحربية بلغة «الغالا»، وما زال السواد الأعظم من أهل «لِمُّو» مسلمين.

وهذا مما يشير على استعداد تلك القبائل المتوحشة إلى اعتناق الإسلام والتمتع برفاهيته ومدينته، ولكن قلة المرشدين إلى الدين السليم تجعلهم يتحبطون في عقائده تخبُّطًا.

وإذا أضفنا إلى ذلك حرص ملوك الحبشة على اضطهاد المسلمين، والحيلولة بينهم وبين تقدُّمهم، أدركنا حتى الإسلام في الحبشة يمشي زاحفًا على أرض شائكة.

سلطنة جما الإسلامية

كانت «جما» سلطنة وثنية، وأسلم أهلها في النصف الأول من القرن الماضي بعناية تاجر مسلم مشهور باسم «نقادي شوى» و«بَغَمْدَر»، ومعنى «نقادي» أي «دليل القافية»، وأصبحت سلطنة إسلامية، وملكها السلطان محمود بن داود المشهور باسم «أبَّا جفار» أي صاحب الحصان الكميت، وهومن الألقاب التي يُلقَّب بها الأبطال عند قبائل الغالا.

وقد تولى حكمها في سنة ١٢٩٥ه/١٨٧٨م، وكان على علاقة حسنة مع الحكومة الحبشية، ومعينًا لها في إدارة البلاد الداخلة، وهوالمرجع الأعلى في المحاكمات، وإليه ترجع حماية الأجانب في الأسواق بإشراف «نقاد راس» أي رئيس التجار.

ومع جميع هذه المعونة التي كان يبذلها سلطان «جِمَّا» للحبشة، توجَّهت إلى سلطنته أطماع الحبشة، فاعتدت على استقلالها، وأدخلها «منليك» تحت حمايته في سنة ١٢٩٨ه/١٨٨١م تاركًا لها استقلالها الداخلي كباقي مقاطعات الحبشة المسيحية.

وقد أبرم معها النجاشي «منليك» معاهدةً نصَّ فيها بأنها تظل مملكة وراثية في سلالة «أبَّا جفار»، وعليها حتى تؤدي جزية سنوية إلى حكومة «أديس أبابا»، وكانت حكومة «أديس أبابا» تزيد في مقدار هذه الجزية سنة بعد سنة، قاصدةً إضعاف هذه السلطنة الإسلامية الوحيدة في الحبشة.

وكانت ترى حتى زيادة الضرائب تؤدي إلى الثورة ضد «أبَّا جفار» سلطانها، ولكن لتعلُّق الأهالي المسلمين بسلطانهم لم تنجح هذه التجربة.

كيف كانت سلطنة جِمَّا في نظر المسلمين

لما كانت سلطنة جِمَّا هي السلطنة الإسلامية الباقية في الحبشة، كانت الملجأ الوحيد لكثير من مسلمي الأحباش الذين يميلون إلى الأمن والدعة، باعتبارها السلطنة الإسلامية الوحيدة التي بقي لها استقلالها الداخلي.

ويجدر بنا في هذه النقطة حتى نذكر ما خطه «السير دارلي» H. Darley في كتابه الإنكليزي المعنون Slavs and Tvory المطبوع في لندرا سنة ١٩٢٦ ميلادية، في وصف أعمال السلطان «أبَّا جفار»، وهي شهادة لها قيمتها، حيث نطق ما ترجمته: «لم يكتفِ السلطان «أبَّا جفار» بأن خلَّصَ أمته من براثن الأحباش، بل قادها إلى حياة الرخاء والغنى، بتعزيزه التجارة في البلاد وحُسْن السياسة، حتى إني أعتقد أنها ستصير أغنى الدول الإفريقية وأسعدها. على أنني أخاف على مصير هذا الشعب الهادئ المحب للسلم والراحة، عند وفاة سلطانه «أبَّا جفار»؛ لأنه لا يمر في قطره حبشي إلا وينظر إليه بعين الطمع، ويسيل لعابه من فرط الشهوة على خيراته.

فلا شك حتى الحبشة سيقصدون الاستيلاء عليه، إذ من أمثالهم السائرة قولهم: «بعد السنغالا الغالا»، فلوقُدِّر وتحقَّق مبتغاهم، لأصبح هذا القطر بعد زمن قصير على الحالة التي عليها سائر أنطقيم الحبشة؛ لأن سعادة «جِمَّا» منوطة بنشاط شعبها وحُسْن حكم ملكها الحر المتساهل، الذي لا يألوجهدًا في تشجيع الصناعة والتجارة.»

هذا ما نطقه المحرر الإنكليزي الشهير «السير دارلي» في كتابه القيم، فأصاب برأيه السديد كبد الحقيقة؛ لأن ملوك الحبشة عزَّ عليهم حتى توجد في إمبراطوريتهم الواسعة سلطنة إسلامية، وقد تحقَّق ظنه بإلغاء هذه السلطنة.

إلغاء سلطنة «جِمَّا» الإسلامية وضمها للحبشة

لما توفي «أبَّا جفار» إلى رحمة الله تعالى سنة ١٣٥٣ه/سنة ١٩٣٤، وخلفه على عرش السلطنة ابنه «عبد الله»، أخذ النجاشي الحالي «هيلاسلاسي» يضيق الخناق على استقلال «جِمَّا»، وفرض عليها شروطًا لا تطاق.

ثم أعرب ضَمَّها إلى مملكته، أي نزع منها استقلالها الداخلي ضاربًا بالمعاهدة التي أبرمها معها النجاشي «منليك» سنة ١٢٩٨ه/١٨٨١م عرض الحائط.

وبسقوط هذه المملكة الإسلامية الزاهرة، لم يبقَ في الحبشة سلطنة إسلامية مستقلة بعد حتى كانت الممالك الإسلامية فيها سبعًا في عصر واحد، لكل واحدة منها جيش خاص وإدارة خاصة واستقلالها في داخليتها، كأنما ملوك الحبشة يعتقدون بأن قيام دولة إسلامية في الحبشة قوية، تكتسح جميع دين فيها وتجعلها «إمبراطورية إسلامية إفريقية».

ولكن أثبت التاريخ غير ما يظنون، فقد ذكر صاحب «مسالك الأبصار» بعد تعداد هذه الممالك ما نصه: وجميع ملوك هذه الممالك، وإن توارثوها، لا يستقل منهم بملك إلا مَن أقامه سلطان «أمحرا».

ثم نطق: وهذه الممالك ضعيفة البناء قليلة الغناء لضعف هجريب أهلها وقلة محصول بلادهم، وتسلُّط «الحطَّى» (أي النجاشي) سلطان «أمحرا» عليهم.

ثم نطق: وهم مع ذلك حدثتهم متفرقة وذات بينهم فاسدة، ولواتفقت حدثة هؤلاء الملوك السبعة، واجتمعت ذات بينهم، لقدروا على مدافعة «الحطى» أوالتماسك معه، ولكنهم مع ما هم عليه من الضعف وافتراق الحدثة، بينهم تنافس، وهم على ما هم عليه من الذلة والمسكنة للحطى، عليهم قطائع مقررة تُحمَل إليه في جميع سنة من القماش والحرير والكتان، مما يُجلَب إليهم من مصر واليمن والعراق. ا.ه.

والعاقل لا يشك في حتى ملوك الحبشة كانت تسقط العداوة بين هذه الممالك الإسلامية، وتنفرها من بعضها بالدسائس، حتى لا تجتمع حدثتها على القيام في وجهها.

زواج الرؤوس المسيحيين بالنساء المسلمات في الحبشة

إذا رأى أحد الرءوس الأحباش أوسواهم من الحكام امرأة مسلمة، فإنه يتزوجها وهوعلى النصرانية، ولا يستطيع المسلمون حتى يعارضوه، وإلا عرَّضوا أرواحهم للقتل وأموالهم للنهب.

وقد يتخذها خِدْنًا وهوأحد أنواع الزواج عندهم.

اتى في رحلة الحبشة ما خلاصته بتصرف: إذا الزواج عند الأحباش المسيحيين ثلاثة أنواع:

  • الأول: يُسمَّى «روموز»، ويتم بأن يطلب الرجل من المرأة حتى ترضاه بعلًا، فإن رضيت دخلت في عصمته، ويتفرقان متى أرادا.
  • الثاني: الزواج المدني، بتراضٍ من الطرفين وحضور الشهود.
  • الثالث: الزواج الديني على يد القسيس.

والنوع الأول هواتخاذ الأخدان، وأي امرأة مسلمة حبشية يطلب منها الحاكم المسيحي حتى تكون له خِدْنًا وتأبى،يا ترى؟ إنها إذا رفضت أمره اتىت لنفسها وأهلها بالطامَّة الكبرى.

وإليك ما خطه صاحب «صبح الأعشى» في الجزء الخامس بالصفحة ٣٢١، نطق: وكان الفقيه «عبد الله الزيلعي» سعى في الأبواب السلطانية، عند وصول رسول «أمحرا» إلى مصر في تنجيز كتاب «البطريرك» إليه بكف أذيته عمَّن في بلاده من المسلمين، وعن «أخذ حريمهم»، وبرزت المراسيم للبطريرك بكتابة ذلك.

فخط إليه عن نفسه كتابًا بليغًا شافيًا، بعبارات أجاد فيها.

ثم نطق المؤلف: «وفي هذا دلالة على الحال.» ا.ه. أي دلالة على حال المسلمين هناك والتعرض لنسائهم، وهي حال من أسوأ الحالات التي وصلت إليها أقلية مسلمة في دولة متمدنة أومتوحشة، وهذه مصيبة عظمى لم يُصَبْ بمثلها المسلمون في غير الحبشة.

تنصير المسلمين في الحبشة

الفوضى الدينية في الحبشة بالغة حدها، وملوك الحبشة يكرهون إقامة شعائر المسلمين الدينية، ويظهر ذلك جليًّا واضحًا من سيرة الرأس «ميخائيل»، وولده النجاشي «ليدج إياسو»، فقد كان الشاب «محمد علي» المسلم من رءوس قبيلة «ولوغالا»، فأعجب به النجاشي «منليك»، فحمله على التنصر فارتد بلا تردد، وتَسَمَّى بالرأس «ميخائيل»، وتزوَّج إحدى بنات «منليك»، فولدت له ولدًا تسمى «ليدج إياسو» فأحبه جده وقدَّمَه، وجعله وارث عرشه.

ولما توفي النجاشي «منليك» في سنة ١٣٣١ه/١٩١٣م، ارتقى عرش الحبشة «ليدج إياسو»، فأظهر ميلًا وعطفًا على المسلمين، كأنما عهد حتى أباه كان مسلمًا.

ويظن الكثيرون حتى «ليدج إياسو» قد أسلم، لما كان يُظهِره من المحبة والعطف على المسلمين، على عكس ما كان يعمله ملوك الحبشة.

ولما تأججت نيران الحرب الكبرى، وامتلأت ممالك الدنيا بالجواسيس، كان في الحبشة بعض الألمان والهجر، فشجعوا «ليدج إياسو» وحسَّنوا له تأسيس «إمبراطورية إسلامية في أفريقيا الشرقية»، وعملًا أخذ يهتم بتحقيق هذه الأمنية.

فلما فهم رجال الأكليروس والرؤساء الأقباط بذلك، اضطربوا وخافوا العاقبة.

فاتفقوا مع «المطران» والرأس «تفري»، وعقدوا اجتماعًا في «أديس أبابا»، وخلعوه وأنزلوه عن عرش «أثيوبيا» في سنة ١٣٣٤ه/٢٧ سبتمبر سنة ١٩١٦، ونادوا بالأميرة «زوديتو» ابنة «منليك» إمبراطورة على الحبشة، على حتى يخلفها الرأس «تفري» ابن الرأس «ماكونين» على العرش.

وفي سنة ١٣٤٩ه/سنة ١٩٣٠م توفيت الإمبراطورة «زوديتو»، فنودي بالرأس «تفري» إمبراطورًا على الحبشة وسُمِّي «هيلاسلاسي».

أما «ليدج إياسو» فقُبِض عليه وأُودِع السجن سنة ١٣٤٠ه/١٩٢١م، ثم تمكَّنَ من الفرار في سنة ١٣٥١ه/١٩٣٢م، ولكن قُبِض عليه ثانيةً، وألقي في إحدى قمم «هرر» في سجن منفرد، وأشيع بعد ذلك أنه مات.

وكان قد تزوَّجَ بامرأة مسلمة تسمى «دنكله»، ورُزِق منها بولد سماه «منليك» على اسم جده، يبلغ الآن نحو١٩ سنة، يعيش بائسًا في «تغره» في الصومال الفرنسي.

وذكر الأب «متاؤس» في رسالة نشرها بمناسبة خلع «ليدج إياسو» واعتنطقه، حمل فيها على «ليدج» المذكور حملات شديدة نطق فيها: «إن هذا النجاشي لم يَكْفِه أنه جحد إيمانه المسيحي (مما يشير على أنهم اعتقدوا أنه اعتنق الإسلام)، بل رضي حتى يشيد لهم (أي للمسلمين) جامعًا في «دير دواه».» ا.ه.

انظر كيف من الممكن أن عدُّوا رضاءه قبول بناء جامع للمسلمين، يقيمون فيه شعائر دينهم ويعبدون ربهم، جريمةً كبرى تبرِّر خلعه وزجَّه في أعماق السجون.

ففي هذه الحكاية القصيرة نرى حتى النجاشي نادى رجلًا مسلمًا إلى التنصر، فأجابه خوفًا وطمعًا.

وأن «ليدج إياسو» تزوَّج بامرأة مسلمة، وهوعلى دين النصرانية.

وإذا شئتَ حتى تعهد ما بلغه ظُلْم ملوك الحبشة للمسلمين الذين يرفضون الدخول في النصرانية، فاقرأ ما اتى في «رحلة الحبشة»، فقد وصف فيها مؤلفها تلك الوحشية التي تمثِّل أفظع جرائم الظلم، نطق: وكان عند المتمهدي رجل من أعيان الأحباش يُسمَّى «محمد جبريل»، وفد على المتمهدي واتبعه، فأوفده إلى الحبشة ليدعوجميع المسيحيين فيها إلى الإسلام، ويدعوسائر المسلمين إلى الإيمان بالمهدية والخضوع للمهدي.

فصدع «محمد جبريل» بأمر المتهدي.

فلما رأى النجاشي «يوحانس» سعي هؤلاء ودعوتهم، شغل هذا الأمر باله وبات في هَمٍّ عظيم، وأخذ من ذلك الوقت يضطهد المسلمين …

فأدى اضطهاده هذا إلى هجرة كثير منهم والتجائهم إلى شيعة المتمهدي، وأقاموا محلًّا لإقامتهم في المكان المسمى «عراديب» شمالي «القلابات» وسموه «تبارك الله».

ثم نطق: «ورأيت بعيني بعض المسلمين الذين كان «يوحانس» قد بتر أيديهم وأرجلهم.»

فانظر كيف من الممكن أن حتى النجاشي لم يجد عقابًا للمسلمين الذين لم يقبلوا الدخول في النصرانية سوى تقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما عمل «فرعون مصر» في السحرة الذين آمنوا بموسى — عليه السلام.

•••

فرغنا من ذكر حال المسلمين في الحبشة فيما مضى، وسنذكر أحوالهم ومواطنهم وعددهم في هذه الأيام، ونقارنها بحال إخوانهم الساكنين في البلاد المجاورة لمملكة «أثيوبيا»؛ ليفهم المسلمون في مختلف الأقطار حتى مسلمي الحبشة، مع ما تحملهم حكومة النجاشي من متاعب، هم عضلات سواعدها وشرايين حياتها ومنابع ثروتها ولحام قوتها.

ولوأنها قابلت إخلاصهم لها لقاءةَ الدول الأخرى لرعاياها المخلصين، لأصبحت من أرقى الممالك شأنًا وأعزها مكانًا.

مواطن الإسلام داخل حدود الحبشة أولًا: ينتشر المسلمون في جميع أرض الحبشة بين كثرة وقلة، ففي جنوب الحبشة وشرقها طائفة كبيرة من المسلمين يقيمون في «هرر» و«أوجادين»، ولهم ارتباط شديد بمسلمي «أروسي». وفي الغرب أكثرية المسلمين في جهات «غالة الغوما» و«غما» و«قيرة» «ولمواناريا» و«جما» و«جارو» و«شيمارو» و«البا» و«هديا» و«ضضَلَّه».

أما سكان «غوراغه» و«ننو» و«واليزو»، فهم خليط من المسلمين والمسيحيين.

ثانيًا: وفي غرب «أديس أبابا» توجد قبائل «وُرْجِي» و«لَتِّي» وهم مسلمون. وربما كانوا من سلالة طوائف إسلامية، كانت تقيم على طول الطريق التي كانت تربط مسلمي الشواطئ الإفريقية الممتدة على البحر الأحمر بالشعوب الإسلامية في غرب الحبشة.

وهذه الطريق مهملة الآن.

ثالثًا: ويقيم في «شوى» و«أمحره» و«التغرى» جماعات من المسلمين، وقد انتشروا في تلك النواحي، وربما كان بينهم قبائل منحدرة من أصل يمني. رابعًا: جميع سكان «أوسة» من بلاد «الدناكل» مسلمون. تعداد المسلمين في الحبشة لم يحصل في الحبشة إحصاء يوثق به، ولكن اختلف الإحصائيون في تعدادها تعدادًا بوجه التقريب، وأقربه حتى تعداد سكان الحبشة تسعة ملايين، منهم ثلاثة ملايين مسلمون، وثلاثة ملايين ونصف مليون مسيحيون، ومليونان ونصف مليون على الوثنية وأديان أخرى.

وقيل: إذا تعداد الحبشة ١٢ مليونًا منها ٨ ملايين مسلمين، وهذا وإن كان أكثر من الحقيقة على ما يظن، إلا أنه يشير إلى وجود أكثرية عظيمة للعنصر الإسلامي في الحبشة.

أسماء الشعوب الإسلامية في الحبشة

يُعرَف المسلمون في الحبشة بأسماء مختلفة كإسلام — وهم المسلمون من أصل حبشي.

ونقادي — وهم التجار — وهذه التسمية تدل على حتى التجارة في يد المسلمين.

وجبرتي، وهم بنوعقيل بن أبي طالب، الذين سكنوا جبرت في بدء دخول المسلمين إلى الحبشة، وأسسوا مملكة «وفات» وهي أول مملكة إسلامية في الحبشة كما قدمنا، ثم انتشروا في بقية البلاد.

أما مسلموالسهول الواطئة، فيسمون «نباده» أو«إسلام بحري»، أي المسلمين الذين اتىوا من البحر.

لغات المسلمين في الحبشة

يتحدث أكثر المسلمين في الحبشة اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن، وقد حافظوا عليها من عهد دخول أجدادهم من عرب اليمن والحجاز إلى البلاد.

وتتحدث جميع طائفة — عدا ذلك — بلغة المقاطعة التي تعيش فيها، وهذا طبيعي بداعي المعاملة، فمسلموشمال الحبشة يتحدثون اللغة «الأمحرية»، وسكان أراضي «هرر» لهم رطانة بربرية.

وفي غرب الحبشة وجنوبها تسيطر اللغتان «الگالا والصومالي».

المذاهب الإسلامية في الحبشة

أكثر مسلمي الحبشة يتعبدون على ممضى الإمام «محمد بن إدريس» الشافعي — رضي الله عنه.

ويوجد في بعض الأنحاء الشمالية «أحناف»، وقليل من الحبشة مَن هم على ممضى الإمام «مالك» — رضي الله عنه.

ولا يوجد في الحبشة «حنابلة» وهذا أمر طبيعي؛ لأن الحنابلة معروفون بشدة تمسكهم بالسنة المحمدية، وتصلبهم في دقة اتباعها تصلُّبًا حملهم في كثير من العصور على مقاتلة مخالفيهم.

ولوكان في الحبشة «حنابلة» لَأبادتهم الحروب، أويقيموا السنة بحذافيرها.

نشاط المسلمين الطبيعي في الحبشة

الرواد الذين جابوا بلاد الحبشة طولًا وعرضًا، ودرسوا طبائع سكانها واحتكوا بالأهالي زمنًا طويلًا، ووقفوا على سر حياتهم الاجتماعية ومبلغ مداركهم، شهدوا بأن مسلمي الحبشة عمومًا ذوونشاط، وعلى جانب عظيم من الذكاء، ولهم التفوق على غيرهم من السكان في حلبة تنازع البقاء.

وقد صدق أولئك الشهود العدول؛ إذ لولا ذلك لجرفهم سيل الطغيان الحبشي، وأبادهم بكثرة الحروب، وابتزاز الأموال، والضغط عليهم من ملوك الحبشة ورءوسها في جميع مرافق الحياة.

الصناعة والزراعة والتجارة

يتعاطى المسلمون في الحبشة مختلف الحِرَف والصناعات المفيدة، ولهم حظٌّ وافر في التجارة.

وقد ذكرت الجرائد في هذه الأيام حتى التجار في الحبشة قدموا للإمبراطور مساعدةً ماليةً كبيرة، قُدِّرَتْ بملايين الجنيهات والريالات، ووعدوه بمساعدات أخرى مثلها.

وقد مرَّ حتى أغلب تجَّار الحبشة مسلمون، ولئن كانت هذه المساعدة عن طيب خاطر، فهم أهل لها ولمثلها.

وإن كانت عن طلب وضغط شديد، فشيء احتملوه واعتادوه من قديم، فإنهم مهددون بالمصادرة في جميع نظرة، فما ظهرت على أحدهم آثار نعمة إلا طمع الرؤساء بسلبها منه.

وهنا نثبت ما خطه المرحوم صادق باشا العظم في رحلته للحبشة بالصفحة ١٥٩، وهوفي «أديس أبابا» نطق: «وأتى لزيارتنا «آتوبالا ينتخ» الرجل الذي كنَّا تعهدنا عليه في فترة «تاديجا مالكا»، وقد كان أكرمنا غاية الإكرام، وأراد حتى يهديني بغلًا، وكنت رأيته في «تاديجا مالكا» بملابس ثمينة، وعلى رأسه قبعة جميلة، وعليه ثوب من الجوخ الأسود مبطن بالحرير.

ولكن لما اتى لزيارتنا هنا، رأيته بعكس الهيئة المذكورة، إذ كان حافي القدمين مكشوف الرأس، وملابسه قميص ولباس مصنوعان من البفتة السمراء، وعليها ثوب من اللباد العريض.

وجلسنا نتحدث، وكان صاحب المنزل يترجم كلامنا.

فسألت المترجم عن سبب ذلك من غير حتى يشعر الرجل.

فنطق: إنه عندماقد يكون في العاصمة يضطر للقاءة كثير من الرؤساء والأمراء؛ فلذلك يرتدي بالملابس البسيطة إظهارًا للتواضع والخضوع والطاعة، حتى إذا بعض الأغنياء منهم يتظاهرون في بعض الأحيان بالفقر والفاقة أمام الرؤساء.

وهذا يُعَدُّ من جهة «تواضعًا»، ومن جهة أخرى بابًا للوصول إلى السلامة من طمع الطامعين.

وقد هجر زائري جميعَ خدمه وبغاله في «شولا»، وحضر وحده إلى «أديس أبابا». ا.ه.

وهذه الحكاية على قلة حدثاتها، قد ذكرها المؤلف ولم يعلِّق عليها بشيء، مع أنها ذات معنى كبير ومغزى خطير، يدلنا على ما عند رؤساء الحبشة وملوكها من الكبرياء والجبروت في معاملة المسلمين، إذ يعز عليهم حتى يروا في بلادهم مسلمًا يظهر عليه أثر النعمة والثراء، ويعدون ذلك منه امتهانًا لمقامهم.

«ولا يحلولهم إلا إذا كان فقيرًا ذليلًا.»

سهولة نشر الإسلام في الحبشة بين الشعوب الوثنية يجد نادىة الإسلام في الحبشة مرتعًا خصيبًا في الشعوب الوثنية لنشر الإسلام، لما يجدون في هذا الدين القويم من الفضائل التي تقوم على العدل والمساواة والصدق والأمانة والنظافة والبعد عن الفحشاء.

وقد لاحظوا ذلك طبعًا في معاملاتهم للمسلمين، فكان الرؤساء الوثنيون يدخلون في الدين الإسلامي فرحين مستبشرين، ويلحق بهم جميع متبعيهم، وسرعان ما يُنقَل هؤلاء من الخمول إلى النشاط، ويطرحون الكسل جانبًا، كما حصل في القرن الماضي.

وقد عانى المبشِّرون بالمذاهب المسيحية الشدةَ في إدخال الوثنيين في حظيرتهم، أوردِّ مسلميهم عن الإسلام، فلم يحصلوا على شيء من الفائدة.

ومما يليق ذكره هنا ما رواه الرحالة «شكي» عن الحاكم «جيره» المتوفى سنة ١٢٩٥ه/١٨٧٨م، أنه وصلت إليه نسخةٌ من الوصية التي نشرها خادم الحجرة النبوية الشريفة، ونطق فيها إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه، فأمره حتى يرشد المسلمين إلى العمل بشرعه وسنته.

فلما قُرِئت على الرأس «جيره» أسلم من فوره، وتبعه كثير ممَّنْ هم تحت سلطانه ودخلوا في الإسلام.

وعلى إثر ذلك تناقَلَ الناس نُسَخًا من هذه الوصية، وانتشرت في «أفريقيا الشرقية» حتى بلغت «تانجانيقا» سنة ١٣٢٦ه/١٩٠٨م، ولجأ إليها المسلمون في نشر الإسلام وتقوية نادىئمه.

تأثير الطرق الصوفية في نشر الإسلام

ومن الوسائط الفعالة، والتي كانت ولا تزال أكثر الوسائط نفعًا وأشدها تأثيرًا في نشر الإسلام، وتمكين روابطه بين المسلمين في الحبشة هي الطرق الصوفية، والقائمون بها هناك على جانب عظيم من التقوى والصلاح وحب الإصلاح.

فمن هذه الطرق «الشاذلية» و«القادرية» و«الختمية».

ونطق المرحوم صادق باشا العظم في رحلته بالصفحة ١٦٧ إنه سمع بعض المسلمين في الحبشة ينشدون قصائد فيها اسم الشيخ «عبد القادر الجيلاني»، صاحب الطريقة القادرية — رضي الله عنه.

ومشايخ هذه الطرق يجتهدون في حثِّ أتباعهم على المحافظة على إقامة الفرائض والسنن، وعلى نشر الدين المحمدي ما وجدوا لذلك سبيلًا، وأتباعهم ينقادون إلى أوامرهم ويعملون بها قدر المستطاع.

حسنات الطرق الصوفية في الحبشة

من حسنات هذه الطرق في الحبشة أنها تؤدي أعمال الجمعيات الخيرية الإسلامية، فتذكي نار الحماسة في صدور أتباعها، وتجعلهم قوة متحدة على نشر الفهم والفضيلة.

وقد فتحوا الممحرر والمدارس المجانية في جميع البلاد والقرى التي لهم فيها أتباع ومريدون.

لذلك نجد الأهالي يتفانون في حب مشايخهم، فيجعلون قبورهم بعد موتهم «مزارًا» يقصدونه للزيارة والتبرُّك.

ومن أشهر قبور الأولياء هناك قبر الشيخ الصالح «نور حسين» من شيوخ الطرق الأحمدية، التي أسَّسَها السيد «أحمد بن إدريس الأسيري»، فهومحطُّ الرِّحَال في مقاطعة «أروسي».

وقد تُرجِمت حياة هذا الشيخ الجليل ومناقبه في ثلاث مجلدات، وطُبِعت باللغة العربية في القاهرة سنة ١٣٤٦ه/١٩٢٧م، ووُزِّعت على المسلمين القاطنين في جنوب الحبشة وغربها.

علاقة مسلمي الحبشة بالممالك الإسلامية

لقد استطاع المسلمون في الحبشة حتى يجعلوا بينهم وبين الممالك الإسلامية المجاورة لهم روابط ثقافية واقتصادية متينة، كمصر التي فيها «الجامع الأزهر» المعمور، وقد أَمَّه فيما مضى طلاب كثيرون لأخذ الفهم، ولهم في الأزهر الشريف «رواق» شهير يُسمَّى «رواق الجبرتية»، نبغ منه كثير من جهابذة الفهماء، كالشيخ الإمام الزيلعي فخر الدين عثمان بن علي، شارح الكنز، المتوفى سنة ٧٤٣ه/١٣٤٢م، والمحدِّث الكبير الزيلعي جمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد المتوفى سنة ٧٦٢ه/١٣٦١م، والعارف بالله الشيخ على الجبرتي الذي كان يعتقده السلطان قايتباي، وقد توفي سنة ٨٩٩ه/١٤٩٣م، كما نصَّ عليه ابن إياس، والشيخ حسن بن برهان الدين الجبرتي، وولده المؤرخ الشهير الشيخ عبد الرحمن الجبرتي صاحب التاريخ المشهور المسمى: «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، والشيخ أحمد بن محمد الجبرتي، والذي كان شيخًا على الرواق في أوائل القرن الرابع عشر الهجري.

ومما يستحق الذكر هنا أنه لما توفي الشيخ «بشري» شيخ هذا الرواق، وهومن إقليم «تغرى»، سقط نزاع بين الطلاب؛ لأن أهالي «تغرى» — وهم الجبرتية — كانوا أكثرية فيه، وطلبوا من مشيخة الأزهر الشريف حتى يُعيَّن الشيخ من بينهم لزعمهم حتى الرواق إنما هووقف عليهم، وأن ليس لمسلمي أنطقيم «أمحره» و«شوى» و«هرر» نصيب في تعيين المشايخ منهم.

ولما اشتد بينهم النزاع، رأت المشيخة حتى الرواق، وإن كان يسمى «رواق الجبرتية» للتغليب، إلا أنه في الحقيقة رواق لجميع مسلمي الحبشة.

وعلى هذا الرأي تعيَّن الشيخ «أحمد محمد» من «مصوع» شيخًا للرواق المذكور.

البعثة الأزهرية للحبشة

وفي سنة ١٩٣٤م أوفدت مشيخة الأزهر الشريف بعثة إسلامية دينية إلى الحبشة لترشد الأهالي المسلمين إلى الدين القويم، وهي مؤلَّفة من صاحبي الفضيلة «الشيخ محمود النشوي» و«الشيخ يوسف علي يوسف».

وقد استبشر مسلموالحبشة بهذه البعثة المباركة، وقد ورد منها للمشيخة تقرير طريف عن وصف مهمتها، وهذا نصه نقلًا عن كتاب «المسألة الحبشة»: لما كان الجامع الأزهر الشريف مبعث الهداية الإسلامية ومشرق نورها في جميع أنحاء الدنيا، اتجه إليه المسلمون من جميع الأقطار يطلبون منه في إلحاح حتى يبعث إليهم من صفوة خريجيه مَن يرشدهم ويفقههم في أمور دينهم، وينشر بينهم الثقافة الإسلامية واللغة العربية.

وكان من بين البلدان التي تقدَّمَتْ إليه بهذا المطلب «جنوبي أفريقيا» و«أمريكا» و«اليابان» وبلاد «الحبشة».

وقد سارعت مشيخة الأزهر الجليلة إلى دعوة خريجي قسم المجال، واختبرتهم اختبارًا عامًّا، بعد حتى ألَّفَتْ لجنة عليا لهذا الغرض، وكان من حسن حظنا حتى ندبتنا مشيخة الأزهر للذهاب إلى بلاد الحبشة لنشر الثقافة الإسلامية فيها.

وقد سافرنا من «بورسعيد» في يوم ٣١ يناير سنة ١٩٣٥، وقد وصلنا إلى «أديس أبابا» عاصمة «أثيوبيا» يوم ٦ فبراير، وكانت رحلتنا إليها جميلة وسارة، وقد فرح المسلمون بقدومنا، وأقبلوا علينا مرحِّبين مهنئين شاكرين لمصر وللجامع الأزهر فضله عليهم وتلبية طلبهم، وقد وجدنا في العرب ومسلمي الحبشة أهلًا بأهل وإخوانًا بإخوان.

ولا يفوتنا شكر رجال القنصلية المصرية، وفي مقدمتهم حضرة القنصل الكريم، فهم ما فتئوا يساعدوننا بمعلوماتهم واختباراتهم.

وبعد أسبوع من وصولنا، أعني بعد حتى خفت الزيارات وقلَّتْ وفود المرحبين، بدأنا عملنا في مدرسة «نادي الاتفاق الإسلامي»، واتخذنا من المسجد ميدانًا لإلقاء العظات التي رأينا أنها تنفع مسلمي هذه البلاد.

أما المدرسة فإن العمل فيها شاقٌّ إلى أقصى حدٍّ؛ نظرًا لاختلاف أسنان الطلبة فيها، وتباين بيئاتهم وتعدُّد لغاتهم، ففيها أحباش وعرب يمنيون وحضرميون، وهنود وأتراك وصومال، والطلبة الأحباش أنفسهم من مقاطعات مختلفة، مما يجعل الدرس الواحد يعادل خمسة دروس في مصر على الأقل، ولكننا في الوقت نفسه نجد سرورًا في العمل بها للتقدم الحسن الذي نشاهده في طلبتها، وقد أصبح سهلًا عليهم — وخصوصًا طلبة الفِرَق المتقدمة — حتى يفهموا العربية السليمة.

ونحن نقوم الآن بتدريس أبرز المواد وأشقها، كالتوحيد وفقه الشافعي والتاريخ والأخلاق الدينية، وتحفيظ القرآن الكريم بكيفية تجعلهم يدركون المعنى الإجمالي لكتاب الله.

وقد وجدنا في استعداد أبناء المدرسة الفطري، وذكائهم الطبيعي خير معوان لنا على حتى نتقدم بالأولاد في هذه المدة الوجيزة التي قضيناها بينهم في المقررات الموضوعة، رغم أنها في حاجة إلى تهذيب، فهي بوجه عام فوق مستوى الأولاد، ونرجوفي المستقبل حتى نُوفَّق لأقناع القائمين بإدارة المدرسة بذلك حتى نعمل على تعديلها بما يناسب مدارك الطلبة، وتحقيق الأمل المنشود في هؤلاء التلاميذ، الذين لا ريب في أنهم ستتغير بهم حالة مسلمي الحبشة متى صاروا رجالًا.

وأما الوعظ، فإننا نرى حتى الحبشي مفطور على حب الدين وإجلال رجاله، والعقل الحبشي من أخصب العقول لتلقي العظات والانتفاع بها، فهم قوم قلوبهم طاهرة نقية، فحينما يلقي أحدنا العظة يترامى الناس — وخصوصًا الأحباش — على يديه وكتفيه بل رجليه، لثمًا وتقبيلًا.

ومما يشير على حتى احترام الأحباش لرجال الدين عامة، حتى المسيحيين منهم حينما يقابلوننا يحيوننا بالانحناء الشديد، وبحمل قبعاتهم إجلالًا، وتلك هي التحية الحبشية.

ونحن نرجوحتى نصل بالمسلمين منهم إلى الاكتفاء بالتحايا التي يجيزها «الإسلام» فحسب.

وقد تخيَّرْنا من موضوعات الوعظ «التعليم» والحث عليه، ومما لاحظناه أنه يندر حتى تجد مسلمًا لا يعلِّق التمائم والأحجبة المتعددة الكثيرة على صدره، وهذا يشير على أنهم يعتقدون في الدجالين والمشعوذين، ويقدمون إليهم نفسهم ونفيسهم على فقرهم وحاجتهم.

وكذلك وعظناهم في «البغاء وضرورة الابتعاد عنه»، وخاصة لما يترتب عليه من الأمراض الخبيثة المنتشرة عملًا بينهم، والتي لا يهتمون بعلاجها، كما نهيناهم عن كثير مما يعملونه في أعراسهم ومآتمهم، والإسلام لا يجيزه، وإنه ليسرنا حتى نجد نصائحنا وعظاتنا تنفذ إلى قلوبهم، ويعملون بها.

وإنا لَجادُّون الآن في دراسة عادات البلاد، وأحوالها الاجتماعية دراسةً جدية، مع النظر فيها من الوجهة الإسلامية، حتى تكون عظاتنا مبنية على أساس متين، ولا يفوتنا حتى نذكر حتى من طرق الوعظ والتعليم في هذه البلاد افتتاح المنازل وإلقاء دروس بها، وإفتاء مَن يحضر للاستفتاء بها، ونحن مجاراة للعُرْف نستقبل الناس يوميًّا بعد أداء أعمالنا الأخرى.

وقد عُرِض علينا كثير من الفتاوى، فأجبنا بما كان موضع الثقة والقبول.

ومما تحسن الإشارة إليه حتى الفُتْيَا والقضاء في هذه البلاد على ممضى إمامنا الشافعي — رضي الله عنه — وهوالممضى الذي يعتنقه معظم مسلمي الحبشة، والذي يقوم بالقضاء بينهم قاضٍ واحد «بأديس أبابا» وحكمه نافذ، إلا إذا استؤنف أمام هيئة أخرى من الفهماء، وكثيرًا ما قمنا نحن بمهمة النظر في القضايا المستأنفة، وهوما يستلزم منا مراجعة وبحثًا طويلين.

ومما استفتينا فيه أخيرًا، حتى شابًّا تزوَّج بفتاة بكر، وفي اليوم التالي لزقابل بها طلب استرداد المهر مدَّعِيًا أنه وجدها ثَيِّبًا، فحمل والد الفتاة دعوى أمام القاضي طالبًا حد المتهم حدَّ القذفِ … وأشباهُ ذلك مما يعرض علينا كثيرٌ.

وفي البلاد هيئات متعددة، منها «نادي الاتفاق الإسلامي» و«الجمعية الوطنية» و«جمعية التعاون»، وصلتنا بنادي «الاتفاق الإسلامي» وثيقة بحكم عملنا الرسمي، وهوأبرز هذه الهيئات وأغناها وأنفعها وأوسعها نفوذًا، ونحن نرجوحتى توجد في المستقبل القريب في هذه البلاد شبيبة حبشية مسلمة، تقوم على أكتافها نهضة تتقدم بها هذه البلاد النبيلة. ا.ه.

وبمناسبة هذه البعثة نقول: لوحتى مشيخة الأزهر الموقَّرَة تُعِدُّ لهذه المأمورية المهمة طلابًا من الحبشة من «رواق الجبرتية»، فتخصهم بعنايتها ثم ترسلهم بعد ذلك إلى بلادهم بمرتبات قليلة، فيكونوا رُسُلَ فهمٍ ودينٍ من هذا المعهد العالمي، وهم أدرى بلغة بلادهم وطبائع أهلها، وتكون النتيجة أكثر فائدة؛ لأن المسلمين متفرقون في بلاد الحبشة المترامية الأطراف، وفي حاجة إلى عدد كبير من الفهماء والمرشدين، ولا يتأتى إيجاد العدد المطلوب إلا من أبناء الحبشة أنفسهم.

وكذلك تربط مسلمي الحبشة بالسودان المصري روابطُ القرابة والثقافة، التي نشأت عن طريق «المتمة» و«الرصيرص» من المسلمين الذين هاجروا من الحبشة، هربًا من ظلم النجاشي «يوحنا» الذي كان يحملهم على الارتداد إلى الكفر بعد الإيمان.

أما ارتباطهم بمسلمي اليمن، فيرجع إلى علاقات قديمة العهد، نشأت عن تبادل التجارة، ولقرب ما بين القطرين، وقد أدخل اليمانيون إلى الحبشة زراعة البُنِّ وغيرها.

أما علاقة مسلمي الحبشة بالحجاز، فقد نشأت عن المجاورة والتجارة من جهة، وعن الحج من جهة أخرى.

وقد كانت مكة تغصُّ بالحجَّاج الأحباش فيما مضى، ولكن قَلَّ عددهم في هذه السنين لأسباب جمَّة.

وقد كان عدد مَن حج منهم في سنة ١٣٥٢ه/١٩٣٢م ٤٩ حاجًّا، وفي سنة ١٣٥٣ كان ٢٩ حاجًّا فقط.

ولا يبعد حتى المعاهدات التي تمت بين الحبشة وحكومة الحجاز تسهل السبيل للمسلمين الأحباش، فيكثر عدد الحجاج منهم في الأعوام المقبلة، إذا لم تكن الأسباب المانعة من ذلك من نفس حكومة الحبشة.

درجة الثقافة الدينية والفهمية عند مسلمي الحبشة إن المسلمين في الحبشة في هذه الأيام ليسوا سواء في درجة الثقافة الدينية والفهمية، وما ذاك إلا من كثرة ما سقط عليهم من الأذى، والضغط منذ القرون الماضية.

وقد كان منهم قبل ذلك الفهماء الأعلام، كالزيلعي العلَّامة فخر الدين عثمان بن علي شارح متن الكنز، وإسماعيل بن إبراهيم الجبرتي، وعبد الله بن يوسف الزيلعي، وغيرهم ممَّن ذكرناهم من قبلُ.

ولكن أنَّى لهم التقدم في الفهم والدين، وسوط الظلم والاضطهاد مشرع فوق رءوسهم.

وهذا صاحب «صبح الأعشى»، يخبرنا عن شيء من أنواع ذلك الاضطهاد الواقع في زمانه، فقد نطق بعد ذكر «الممالك الإسلامية» ما نصه: وقد أتى «الحطى» ملك الحبشة النصارى على معظم هذه الممالك، بعد الثمانمائة، وخرَّبها وقتل أهلها «وحرق ما بها من المصاحف»، وأكره الكثير منهم على الدخول في دين النصرانية، ولم يَبْقَ من ملوكها سوى ابن مسمار، اللقاءة بلاده لجزيرة «دهلك» تحت طاعة «الحطى»، وله عليه إتاوة مقرَّرة.

والسلطان «سعد الدين» صاحب «زيلع» وما معها، وهوعاصٍ عليه، خارج عن طاعته، بينهما حروب لا تنبتر.

وللسلطان «سعد الدين» في كثير من الأوقات النصرة عليه والغلبة.٢٤ ا.ه. وإذا فهمت حتى المسلمين في عاصمة الحبشة لم تسمح لهم الحكومة الحبشية ببناء مسجد لإقامة الشعائر الدينية، ولا بإنشاء مقبرة لدفن موتاهم، عهدت مبلغ ذلك الضغط على مسلمي الحبشة الضعاف من حكومة الأسد الخارج من سبط يهوذا.

وإليك ما نطقه صاحب الرحلة في الصفحة ١٤٣: وعند الصباح ورد قبل جميع الناسِ التجارُ الهنود المسلمون، ومعهم صحف الورد والزهور والمياه المعطرة والمناديل ذات الروائح الطيبة.

وبينما كنَّا نشرب القهوة كنا نتجاذب أطراف الكلام، فانتقل حديثنا إلى صلاة الجمعة، وفهمنا منهم أنه لا يوجد في «أديس أبابا» مسجد، وأن المسلمين يؤدون صلاة العيد في الفضاء.

وقد قيل لي إذا المسيحيين في «أديس أبابا» من غير الأحباش، مثل الكاثوليك والروم والأرمن، أرادوا حتى يبنوا كنائس خاصة بهم، فعرضوا ذلك للحكومة الحبشية فأجابتهم بقولها: «إنكم وإيانا مسيحيون، فيمكنكم حتى تصلوا في كنائسنا، فلا لزوم لبناء كنائس أخرى.»

فلذلك لم يقدم المسلمون لإنشاء جامع؛ خوفًا من حتى تمنعهم الحكومة كما منعت الطوائف الأخرى.

وقد فهمت منهم أيضًا حتى المسلمين الذين يبلغ عددهم زهاء ألفين في «أديس أبابا» ليس لهم مقبرة خاصة بهم، بل هم يدفنون موتاهم في منازلهم وحدائقهم. ا.ه.

ثم أتدري أيها القارئ المحترم ماذا تَمَّ بعد ذلك؟

إن صادق باشا سأل الإمبراطور «منليك» حتى يأذن للمسلمين ببناء جامع ومقبرة فأذن له، وفرح المسلمون بذلك، واقترح عليهم حتى يُسمَّى الجامع «حميدية» تيمُّنًا باسم السلطان «عبد الحميد» الذي أوفده إلى الحبشة.

وبعد سفر الباشا نكث «النجاشي» عهده، وبقيت «أديس أبابا» بدون جامع، حتى نقلت إلينا الجرائد في هذه الأيام حتى الإمبراطور «هيلاسلاسي» جاز للمسلمين ببناء جامع في عاصمة بلاده «أديس أبابا».

وبما حتى النجاشي «منليك» جاز ببناء هذا الجامع في سنة ١٣٢٢ه/١٩٠٤م إكرامًا لرغبة ضيفه مندوب سلطان «هجريا»، فيكون أمر هذا الجامع أهمل مدة ٣٣ سنة، حتى وافق النجاشي «هيلاسلاسي» على هذه المكرمة.

فهل عين رأت، أوأذن سمعت بأفكه من هذه المكرمة؟

يا لها منحة عظيمة من دولة شرقية عريقة في القِدَم، لرعاياها المسلمين الذين يماثلونها في العدد، ويجاورونها منذ ١٣ قرنًا، وضيوفها الذين هم روح الاقتصاد وبيدهم تجارة البلاد.

كأن رجال هذه المملكة لم يبلغهم حتى مساجد المسلمين شيدت في أكثر عواصم أوروبا كلندن وباريس.

وعلى جميع حال، فنحن نشكر لجلالة الإمبراطور «هيلاسلاسي» معروفه الكبير، ونتمنى حتى لا يحول بين أمره ببناء الجامع وبين تطبيق هذا الأمر مانعٌ جديدٌ.

هذا ولنا آمال عظيمة نعلقها على همة حضرات أعضاء البعثة الأزهرية المحترمين، راجين بأن تكون بعثتهم فاتحة نهضة فهمية دينية إسلامية في الحبشة، يبقى لها الأثر الصالح ما بقيت الأيام.

حالة مسلمي الحبشة بالنسبة لشعبها المسيحي الشعب المسيحي في الحبشة يعيد لنا ذكرى الشعوب القديمة التي كان جميع شعب منها يظن أنه هووحده من سلالة الأبرار، وأن جميع الشعوب الأخرى أحطُّ منه في الإنسانية، ودونه في الحقوق.

لذلك، فهويعامل مواطنيه المسلمين على هذه القاعدة البائدة.

وقد فهمت فيما تقدَّم حتى مدينة «أديس أبابا» من عهد نشأتها إلى الآن، لم يُسمَح فيها للمسلمين بإقامة مسجد ولا مقبرة إسلامية، وأن المسلم لا يستطيع حتى يظهر أمام الرءوس الأحباش بمظهر الثراء والنعمة حتى لا يُعَدُّ عاصيًا وقليلَ الطاعة لسادته.

الشريطة الزرقاء

وقد حدثنا صاحب الرحلة الحبشية في الصفحة ١٦٠ بأن المسيحي الحبشي لا يأكل مع المسلم على مائدة واحدة، ويميز نفسه بشريطة زرقاء حول عنقه، ويعلِّق «صليبًا» صغيرًا من الفضة أوغيرها من المعادن، وتُسمَّى عندهم «ماتب». ا.ه.

وإذا أردت حتى تعهد قيمة هذه الشريطة، فاسمع ما نطقه عنها أحد الرواد الفرنسيين، وهوما يأتي: إن أفضل جواز للسفر يعطاه السائح الغريب في الحبشة هوشريطة من الحرير الأزرق يلبسها في عنقه فوق ملابسه، وبها يعهدون أنه من أبناء ملكة «سبأ»، ويبالغون في الحفاوة به ويفتحون في وجهه جميع الأبواب، ويدرءون عنه جميع المخاطر.

شهادة أجنبي خال من الغرض

وقد عثرنا في كتاب طُبِع في «روما» سنة ١٣٤٥ه/١٩٢٦م عنوانه: «الدولة الحبشية وكنيستها»، فنقلنا منه النبذة الآتية، وهي: «إن مزاولة المهام العسكرية هي وقف على الأحباش المسيحيين، ويحظر أشد الحظر على غيرهم القيام بها، بدعوى أنهم أحطُّ عنصرًا ودمًا منهم.»

المسيحي والمسلم أمام القضاء

ثم نطق المؤلف: «ويكفي للدلالة على ذلك حتى نأتي ببرهانين واضحين، فإذا ما مضى المسلم والمسيحي ليتقاضيا أمام قاضٍ نصراني، قَلَّ حتى يُعامَل المسلم في تلك الظروف بما يُعامَل به خصمه المسيحي، أوبحدثة أصح، ندر حتى يُعامَل المسلم بما يقتضيه العدل والإنصاف؛ وما ذاك إلا لأنه قد رسخ في أذهان الجميع الاعتقاد بأن المسلم هوأبعد عن تلك الجبلة التي تبيح له حتىقد يكون هووخصمه على قدم المساواة أمام القانون.

أما ذلك القاضي الذي بيده الحل والربط، فلا يشير مظهره في تلك القضية إلا على اقتناعه بوجوب إدانة المسلم قبل استماع ما يقوله دفاعًا عن نفسه.»

ولائم الرؤساء والحكَّام في المواسم

ثم نطق: «وهناك برهان آخَر يتجلى فيه التعصب الطائفي الممقوت بأجلى مظاهره، وهوأنه في الأعياد الكبيرة السنوية قد جرت العادة حتى يقيم حاكم جميع إقليم الولائم الفخمة التي تُذبَح فيها العجول السمينة، وتُقدَّم لحومها للأهالي والجنود، إنما يختص بها المسيحيون فقط، فيؤثرهم الحاكم ويختصهم بجزيل العطاء وجليل النِّعَم.

أما نصيب المسلمين من هذا كله فهوالضن بالخير، والإمساك عن المعروف بكل معانيهما.» إلى حتى نطق: «ومجمل القول حتى مسلمي الحبشة عمومًا، وبنوع خاص مَن كان منهم يقيم في أوساط مسيحية، هم في درجة من الاضطهاد والظلم والاستبداد، بحيث لم يَبْقَ لهم إلا النذر القليل من الحقوق المدنية، وخصوصًا ما كان منها متعلِّقًا بامتلاك الأراضي، أووظائف الحكومة.» ا.ه.

هذه شهادة أجنبي نسجِّلها عن حال المسلمين الذين يعيشون في الأنطقيم الحبشية البحتة، والذين هم فيها أقلية وطنية.

أما في المقاطعات الواقعة على أطراف الحبشة والآهلة بمسلمي أوجادين الصوماليين و«دناكل أوسه»، فإن حال المسلمين فيها تكاد تكون أسوأ وأتعس بكثير مما تقدَّمَ.

تحصيل الضرائب من المسلمين

نعم، إذا هؤلاء المسلمين بعيدون عن الاحتكاك بالحكام المسيحيين وعن السلطات المركزية.

ولكن ينالهم العسف بشكله المريع عندما تصول الحكومة في تلك المقاطعات، فتطلق الأَعِنَّة لجنودها، يعبثون بمرافق سكانها المسلمين المسالمين، ويصبون عليهم أنواع الجور في تحصيل الضرائب وفرض المغارم الشاذة.

الممالك التي اغتصبتها الحبشة من المسلمين

أما تلك المقاطعات التي أخذتها الحبشة من المسلمين، فهي تحت رحمة الجنود الأحباش الموكول إليهم أمر حراستها، وهي ذات نظام جائر يُسمَّى «الجبَّار»، ومعناه تحصيل الضرائب المسماة «جبر».

فالأُسَر التي تقطن المقاطعات المشار إليها، قد دُوِّنَتْ أسماؤها في سجلات خاصة، ووُزِّعَتْ على الجنود الأحباش لتقوم بخدمتهم.

هذه الأُسَر المنكودة الحظ ملزمة بأن تقوم بكل ما يحتاج إليه هؤلاء الجنود في حياتهم، هم ومَن يعولون، أي إنها تقوم بحرث الأراضي وغرسها وتربية المواشي لحساب أسيادها الجنود، ولا يجوز لها حتى تزاول من الأعمال إلا ما يوافق رغبتهم، كما أنه محظور بتريًّا على أفراد هذه الأسر البائسة حتى يفروا من الأماكن التي يعيشون فيها، أوحتى يهجروا خدمة مَن كُلِّفوا بخدمته من الجنود، وإذا فَرَّ أحدهم ولم يُعثَر عليه، وجب على أهله حتى يأتوا بمَن يقوم مقامه في الخدمة الملزم بها.

الجيوش الخاصة ضمن الجيش العام

اتى في جريدة «الأهرام» الغراء في العدد الصادر في يوم الإثنين ٨ شعبان سنة ١٣٥٤ه/٤ نوفمبر سنة ١٩٣٥، بهذا العنوان تلغراف من مراسلها الخاص في «أديس أبابا» هذا نصه: وهناك ظاهرة أخرى مدهشة، وهي الجيوش الخاصة ضمن الجيش العام، مثال ذلك: بين الخمسة والعشرين ألف مقاتل من رجال القبائل المعسكرة خارج «أديس أبابا» مئاتٌ من زعماء الإقطاعيات، ولكلٍّ منهم جيشه الخاص وأتباعه وعبيده.

هذا التلغراف يبيِّن لنا حقيقة الحال، وهي حتى الأسر الموزَّعَة هي وأراضيها على الجنود تقوم معهم عند نشوب القتال بصفتها جنود خاصة، لحماية سيدها. مثال ذلك: مسلمو«لمو» يلتحقون بفرقة تُسمَّى «الورواري» أي رماة الأسهم، ومسلمو«جالا أروسي» يلتحقون بحملة البنادق وهم «ألاي طابنجه أياج»، وقِسْ على ذلك.

ومما تقدم نستخلص حتى سكان الأنطقيم التي انتزعتها الحبشة من المسلمين، والذين يبلغ عددهم أكثر من نصف السكان في هذه الأيام، هم في حالة يُرثَى لها من الظلم، تعيد لنا ذكرى حالة عبيد السخرة في القرون الوسطى، إذا لم تكن أسوأ منها.

تقسيم سكان الحبشة في نظر رحَّالة سويسري

لقد قسَّم سكانَ الحبشة الرحَّالةُ السويسري «الدكتور جورج مونتندن Gorge Montndon» في بحثه القيم حول النخاسة في الحبشة، الذي قدَّمَه إلى جامعة الأمم عام ١٣٤٢ه/١٩٢٣م، فقد نطق في الصفحة ١٤ منه ما يأتي تعريبه: إن موظفي الحكومة الكُسَالى وغيرهم من الجنود، هم عالة على الصوماليين والدناكل وأهل «هرر»، وخصوصًا على أهالي «جالَّا»، فإنهم يستخدمون العبيد المقيمين في «كفَّا» و«جِمَّا» و«ميجي»، وهم من الفصيلة الزنجية.

ثم قسَّم في الصفحة ٢٨ من بحثه المذكور سكانَ الحبشة إلى ٤ أقسام كما يأتي: أولًا: الأحرار «وهم الأحباش والأمحريون». ثانيًا: أهل الغرامة «وهم الدناكل والصوماليون». ثالثًا: المقهورين أوخدَّام السخرة، وهم «الجالا» والشعوب الأخرى. رابعًا: العبيد، وهم زنوج سانغلا. فهل رأيت أوسمعت بأعجب من هذا التقسيم العجيب؟!

نقص السكان في المدن الإسلامية

من البديهي حتى البلاد التي تكون غاصَّة بسكانها بسبب الرخاء والدعة، يتناقص عدد أهلها إذا دهموا بأي نوع من أنواع الجور.

وقد استطاع أحد الأطباء الغربيين حتى يزور بلاد الحبشة، ويقيم في غربيها مدة ثلاث سنوات.

هذا الرجل تمكَّنَ في سنة ١٣٥٢ه/١٩٣٣م من كتابة نبذة مدهشة عن أحوال تلك البلاد، فبعد حتى تكلَّم بإسهاب عن ثروتها الطبيعية وخيرها العميم نطق: «إن بلادًا كالحبشة أفاضت عليها الطبيعة من خيراتها الغذائية الوفيرة، كان يجب حتى تكون آهلة بالسكان ورافلة في أثواب الغنى والرخاء؛ إذ من المعلوم حتى كثرة السكان مرشد على جودة المكان، إلا أننا مع مزيد الأسف نجد كثيرًا من المناطق المشهورة بجودة جوها ووفرة خيرها وغنائها، تكاد تكون مقفرة من آثار العمران.

أما الإقليم الوحيد الذي كان يتباهى بعدد سكانه، فهوإقليم «جما أبا جفار»، لكنه سرعان ما امتدت إليه أيدي الظالمين وعصابات الغزومن أهالي «أمحرا»، وسوف لا تحمل أيديها عنه حتى يصيبه من الدمار ما أصاب سائر الأنطقيم التي أمست أثرًا بعد عين.»

ثم نطق: «أجل، إذا ألقينا نظرة إلى الفترة التي تبتدئ بدخول المبشر «مساوي» إلى تلك الأنطقيم، ونشره تعاليم «الإنجيل» فيها، وارتياد الرحالة «بوتيغوBottego» لتلك المناطق لَتأكَّدَ لدينا صحة مسألة نقص السكان في تلك الأنطقيم.» ثم نطق: «وهناك في الحبشة إقليم واسع الأراتى تكسوه الخضرة الدائمة لما هوعليه من خصب التربة، وسرعة النماء، فلا تجد فيه بقعة إلا وهي آهلة بالسكان، ولقد كان سكان المنطقة الواقعة بين بحيرة الملكة «مرغريتا» ونهر «أدموبوتاغو» في الكثرة، بحيث لم يكن من السهل على بعثة «بوتاغو» حتى تجتاز تلك المنطقة المكتظة بالمساكن المنتشرة فيها.

هذا وقد أحصى «مسايا Messiya» سكان إقليم «كفا» وحده، فوجدها لا تقل عن «المليون» من الأنفس، بينما لا يزيد عدد سكانه في أيامنا الحاضرة عن ٥٠ ألفًا. وعلى هذه النسبة نقيس مقاطعات «قيرة» و«غما» و«غوما» و«أناريا» وغيرها، التي كانت آهلة بالعدد الكثير من السكان.» ا.ه.

ومحال حتى يعزى هذا النقص العظيم في السكان إلى عوامل أخرى غير الحروب والغزوات التي كان يثيرها ملوك الحبشة على المسلمين، فهم كالذين نطق الله فيهم: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ؛٢٥ لأنهم لوهجروا هذه البلاد الممتلئة من كنوز الخير لأهلها المسلمين، لبقيت عامرةً تفيض بالخيرات والبركات، ولكنهم لشدة تعصُّبهم لم يَحْلُ لهم إلا خرابها. ويمكنا حتى نقول: إذا هذه البلاد ظلت عامرةً إلى حتى بدأ «منليك» يشن الغارة عليها منذ أربعين سنة بجنوده، يقتلون مَن يعارضهم ويغنمون ما يجدونه من خير، ويسوقون النساء والرجال والأطفال عبيدًا.

وقد قلَّده أكثر الرءوس الأحباش الذين كانوا يأتون حكَّامًا على تلك المقاطعات الجنوبية في شنِّ الغارة عليها، وسلب أهلها، يذيقونهم أمَرَّ العذاب، ويكلفونهم فوق ما يطيقون من ابتزاز الأموال، حتى لم يَبْقَ من هؤلاء السكان التعساء إلا جماعات عَمَّها البؤس بعد حتى نجت من الغزاة الظالمين أهالي «شوى»، واتخذت مساكنها في كهوف الجبال والغابات تلجأ إليها متى شعرت بأدنى خطر.

وقد انتهى الحال في تلك المقاطعات إلى القضاء على الحياة الزراعية تمامًا، فتقلَّصَ ظلها عن تلك الأنطقيم الخصبة، وتحوَّلَتْ أرضها إلى أحراج وغابات.

شهادة حبشي وثني

ومما هوجدير بالذكر ما نطقه محرر حبشي يُدعَى «ج. ف. أفيرك Afework»، في كتابه المسمى «دليل السائح في الحبشة»، وضعه باللغة الفرنسية، وطبعه سنة ١٩٠٨ في «روما»، وجعله على طريقة السؤال والجواب، ونحن ننقل بعض شذرات تتعلق بمعاملة الأحباش للفلاحين المسيحيين، ذكرها المؤلف ليدل على سوء المعاملة التي يُعامَل بها قومه الوثنيون، نطق: س: قُلْ لي أخيرًا، هل الرعايا «جبار» في الحبشة هم حقيقةً عبيد «باريا»؟ ج: إذا حالة هؤلاء الأقوام لأسوأ بكثير من حالة العبيد؛ لإن هؤلاء يشتغلون لحساب أسيادهم الذين يعطفون عليهم، ويقدمون لهم الطعام والكسوة، بينما الرعايا «جبار» محرمون من هذا كله، فهم يعملون ليلًا ونهارًا لحساب أسيادهم، ويقدمون لهم الغذاء من عرق جباههم.

س: كيف من الممكن أن يعامل الحكام المسيحيون الأحباش سكان أنطقيم «غالا»؟ ج: إذا كان الرعايا من المسيحيين يُعامَلون تلك المعاملة القاسية البربرية، وهم إخوان الأحباش بالدين، فكيف تكون معاملتهم للوثنيين التعيسين،يا ترى؟ ا.ه.

نقول: إذا حالة «غالا» المسلمين لا تمتاز بشيء عن حالة وثنيِّ «غالا» التي ذكرها المحرر المذكور.

ويظهر لنا، من جميع ما قدمناه، حتى الحقد على المسلمين لا يزال كامنًا في صدور الأحباش في هذه الأيام، كما كان في الأيام السالفة، حتى إنهم لا يأكلون من ذبيحة المسلم، ويجتهدون في حتى تكون حالتهم وهيئاتهم ممتازة عن المسلمين، كما مرَّ لنا في ذكر «الشريطة الزرقاء».

ومن مسببات التباعد والجفاء بين المسيحيين والمسلمين حتى المسيحيين يحرصون الحرص كله على حتىقد يكون في أعمالهم وحركاتهم ما يميزهم عن المسلمين، كأنْ يعلقون مثلًا في أعناقهم «عقدًا» خاصًّا يُسمَّى في لغتهم الأمحرية «ماتب».

نعم، إذا نفور الحبشي المسيحي من معاشرة الحبشي المسلم وابتعاده عنه يُعَدُّ خيرًا عظيمًا للمسلمين، لوأنه كان خاليًا من الظلم والتعسف؛ لأن حالة الأحباش المسيحيين ومعيشتهم مصحوبة بشيء من القذارة والخطرات الصحية.

فقد ذكر صاحب «الرحلة الحبشية» في الصفحة ١٨٢ عبارةً تدل على ذلك، ننقلها بحروفها، نطق: الأحباش المسيحيون — ما عدا أكابرهم — لا يغسلون أجسامهم ولا ملابسهم؛ فلذلك لا يصعب على الإنسان بعد مخالطتهم برهة قليلة حتى يفرِّق بين المسيحي والمسلم؛ لأن المسلم يجدِّد وضوءه جميع يوم جملة مرات، فتظهر آثار ذلك عليه.

والأمراض المعدية القتالة، مثل «الزهري» وغيره منتشرة بين عوام «الأمحريين» المسيحيين؛ لكثرة اختلاط النساء بالرجال.

وأما المسلمون فقلما تنشر فيهم هذه الأمراض. ا.ه.

الجمعيات الخيرية الإسلامية بالحبشة

أسَّسَ المسلمون في الحبشة كثيرًا من الجمعيات الخيرية «الإسلامية» لتعليم أبناء المسلمين وتثقيفهم، ومع حتى الحكومة لا تمدها بأي عناية أوإعانة، فإنها اتىت بأعمال عظيمة، وهي السبب في إرسال «البعثة الأزهرية» إلى الحبشة، كنادي الاتفاق الإسلامي، والجمعية الوطنية، وجمعية التعاون، وجمعية الشبان المسلمين.

وقد خط رئيسها إلى جريدة «روز اليوسف» الغراء ثناءً على أعضاء البعثة الأزهرية، درج في عددها المؤرخ ٢١ أكتوبر سنة ١٩٣٥، وينتظر حتى تكون هذه الجمعيات المؤلَّفَة من خيار المسلمين في الحبشة سببًا في سعادة أولئك المخلصين في الآتي إذا شاء الله تعالى.

مرتبات قضاة الإسلام وأئمة المساجد في الحبشة أما مرتبات خَدَمَة المساجد وأئمتها في الحبشة وكذلك القضاة، فيقوم بها الأهلون من أموالهم الخاصة بدون حتى تمدهم الحكومة بشيء ما.

المسلمون في المناطق المتاخمة للحبشة

يليق بنا، وقد انتهينا من ذكر حال المسلمين في المملكة الحبشية، حتى نذكر بصفة عامة حال المسلمين المقيمين في المناطق المتاخمة للحبشة وفاءً للموضوع، فنقول: أولًا: الإريترة؛ إذا المسلمين في شمال الإريترة الإيطالية وشرقيها يؤلفون نصف سكان تلك المناطق على وجه التقريب. وقد دلَّ إحصاء سنة ١٣٥٠ه/١٩٣١م على حتى عدد المسلمين هناك يبلغ ٣٠٠٠٠٠ نسمة من مجموع السكان البالغ عددهم ٦١٧٠٠٠ نفس.

وهؤلاء المسلمون كلهم سنيون، بين أحناف وشافعية ومالكية، ولهم محاكم شرعية، وعلى رأسها القضاة الشرعيون، يفصلون فيما يعرض عليهم من القضايا الدينية والأحوال الشخصية، كما حتى لهم الحق أيضًا في الفصل في القضايا «المدنية»، حتى إذا بعضهم تنسم فيها المناصب العالية.

وكذلك نجد في «تسناي» مركزًا للطريقة المرغنية، التي هي فرع من الطريقة المرغنية السودانية المصرية.

ولا يخفى حتى لهذه الطريقة وغيرها، القِدْح المُعَلَّى في جمع حدثة المسلمين، وتخلُّقهم بالفضائل النفيسة.

وإذا أمعنا النظر في الأمر وجدنا حتى المسلمين في هذه المستعمرة الإيطالية قد أحرزوا حظًّا وافرًا من التقدم عمَّا كانوا عليه في الجيل الماضي.

وقد قارن المستشرق الألماني المشهور «لتمان» في منطق له، نشرته مجلة «در إسلام» Der Islam عام ١٣٣٨ه/١٩٢٠م، قابَلَ فيه بين حالة المسلمين وتعدادهم سنة ١٢٨١ه/١٨٦٤م بموجب إحصاء «مونزنجر» Munzinger وحالتهم وعددهم سنة ١٣٢٣ه/١٩٠٥م بموجب الإحصاء الإيطالي، فثبت لديه من هذه المقارنة حتى هناك زيادة محسوسة في عددهم، وتقدُّمًا عظيمًا في شئونهم الاجتماعية، جميع هذا كان في تلك الفترة القصيرة. فإذا قيل: إذا هذا الفرق لم ينتج من كثرة المواليد لقرب ما بين التعدادين. نقول: إذا الأمن والدعة من أكبر دواعي إقبال الناس على سكنى البلاد التي يوجدان فيها، كما نطق شاعرنا «المتنبي»:

وَكُلُّ مَكَانٍ يُنْبِتُ العِزَّ طَيِّبُ وهناك نجد أيضًا عدة قبائل تتحدث اللغة الأمحرية، مثل «الماديا» و«منسا»، وبعض من قبيلة «بوغس» قد اعتنقت الإسلام بعد حتى كانت على النصرانية.

وما ذاك إلا لاحتلال المصريين للسودان، ورسوخ أقدامهم فيه، حيث قامت مدينة «كسلا» سنة ١٢٥٦ه/١٨٤٠م، ثم احتلالهم لمدينة «مصوع»، وإقامتهم هناك حوالي عشرين سنة، أي من سنة ١٢٨١ إلى سنة ١٣٠١ه/١٨٦٤–١٨٨٤م.

ولا نزال نرى إلى الآن حركة متواصلة بين أهالي «باريا» و«كنامة» الوثنيين للدخول في الإسلام أفواجًا.

•••

وقد خط المستر «يوناس يارسون Yonas Ywarson» السويدي منطقًا قيمًا في مجلة «العالم الإسلامي» التي تصدر في «نيويورك»، وذلك عام ١٣٤٧ه/١٩٢٨م، نقتطف منه ما يأتي: ما كادت بلاد «الإريترة» تقع في يدي الطليان، وتنفصل عن أجزاء الحبشة، حتى تنفَّسَ سكانها المسلمون الصعداء، وتمتعوا بكامل حريتهم الدينية، وهم يؤلفون أكثر من نصف مجموع السكان، ومحاطون بعناية خاصة من قِبَل الحكومة الإيطالية هناك، وتكرم رجال الدين، وتقدم لهم الإعانات لبناء المساجد وإقامة المدارس والملاجئ، وهم والمسيحيون في الحقوق الاجتماعية على أتم المساواة. ا.ه.

وفي صيف السنة الماضية زار أحد المسلمين البارزين مدينتي «أسمره» و«مصوع»، ونشر في مجلة «الفتح» التي تصدر في القاهرة في عددها الصادر بتاريخ ١٠ ذي القعدة سنة ١٣٥٣ه/١٩٣٨م، منطقًا مهمًّا أظهر فيه إعجابه، مما شاهده في تلك الأصقاع من نظام وحسن إدارة، وملأه من الثناء على الحكومة لما تبذله من العناية وحسن الكياسة مع السكان المسلمين، الذين يتمتعون بكامل حريتهم «الدينية».

ثانيًا: يعيش في السودان «المصري الإنكليزي» عدد عظيم جدًّا من مسلمي تلك المناطق، وخصوصًا في الناحية الغربية من الحبشة. وقد أشرنا فيما تجاوز إلى ما كان للسودان المصري من التأثير في النادىية الإسلامية، ونشر الإسلام، حتى بين الأحباش أنفسهم.

ولا يخفى حتى مجموع سكان السودان يبلغ ستة ملايين، بينهم ما يزيد عن النصف «مسلمون سُنِّيُّون» بين مالكية وشافعية.

وهناك طرائق الصوفية المتعددة من «تيجانية» و«قادرية» و«سمانية» و«خلوتية» و«شاذلية» و«مرغنية»، وهي تؤلف جيشًا جرارًا من أهل الصلاح والتقوى، لمحاربة الجهل والإجرام.

وهناك الفهماء الأعلام والأدباء والشعراء.

وللمسلمين «المحاكم الشرعية» المنتشرة في جميع أنحاء السودان، وقاضي قضاتهم يُعيَّن من مصر، ويقضي في شئونهم الدينية وأحوالهم الشخصية بأوسع معاني العدل.

والمدارس الإسلامية مزدحمة بالطلاب، ومنهم في «الجامع الأزهر الشريف» كثيرون يقصدونه لإتمام الدروس الدينية العالية.

وفي القلابات، وهوإقليم قديم من «متمه» على حدود الحبشة، نجد أُسَرًا عديدة من أصل حبشي هاجرت من وطنها هربًا من الاضطهادات التي أثارها «النجاشيَّان تاودروس ويوحانس».

ثالثًا: وفي بلاد «كنيا» المتاخمة للحبشة الغربية لمسافة بعيدة، يعيش أكثر من مليون مسلم سني، أي نصف مجموع السكان، وهم على ممضى الإمام محمد بن إدريس الشافعي — رضي الله عنه. وأهم مراكز المسلمين فيها مدينة «ممبازا» التي نالت شهرةً واسعةً في تلك الأنحاء؛ لأنها كانت من أبرز العوامل في نشر الإسلام وبثه في جميع «أفريقيا الشرقية»، وكانت ذات صلة متينة مع سكان جنوبي «جزيرة العرب» و«الخليج الفارسي» و«الهند».

رابعًا: المسلمون في «الصومال الإيطالي» يؤلفون الأكثرية الساحقة من سكانه، وبلغ عددهم في إحصاء سنة ١٩٣١م ١٠٠٩١٥٧ نفسًا، وكلهم سُنِّيُّون يتعبدون على ممضى «الإمام الشافعي»، ولهم محكمة شرعية يرأسها قضاة عادلون، والطرق الصوفية فيها منتشرة، ويسمونها «الجماعة»، أهمها «القادرية» و«الأحمدية» و«الصالحية» و«الرافعية»، ولهذه الطرق اليد الطولى في نشر الإسلام، وتحسين الشئون الاجتماعية بين الشعب. خامسًا: ونجد الصومال الإنكليزي الذي استولت عليه «بريطانيا العظمى» سنة ١٣٠١ه/١٨٨٤م، حتى فيه من المسلمين ٣٠٠٠٠٠ ألف نسمة، وكلهم سنيون يتعبدون أيضًا على ممضى «ابن إدريس الشافعي»، وهم متمتعون بإقامة الشعائر الدينية، ولهم محاكم شرعية وقضاة عادلون. والطريقتان «القادرية» و«الخلوتية» منتشرتان بينهم، وعلى جانب عظيم من الازدهار، وحقوقهم مع الطوائف الأخرى قائمة على المساواة، والحكومة الإنكليزية تحترم شعائرهم الدينية كما قدَّمنا، وتساعدهم على نشر الفهم والدين؛ لأنها وجدت في تقدُّمهم الفهمي وإطلاق حريتهم الدينية خير معوان لها على رفاهية البلاد، ونشر أجنحة الأمان.

ولا ننسَ حتى مدينة «زيلع» كانت من أبرز المراكز الحربية للمسلمين ضد طغيان الحبشة.

وكلٌّ مِنَّا يذكر الثورة الشديدة التي دار رحاها في تلك الأصقاع من سنة ١٣١٧–١٣٣٨ه/سنة ١٨٩٩–١٩٢٠م، وكان القائم بزعامتها محمد بن عبد الله حسان المهدي، المنحدر من إحدى القبائل الصومالية في «أوجادين» الحبشية.

سادسًا: وفي تلك الأرض المحيطة بمدينة «جيبوتي» التي هي الصومال الفرنسي، نجد ٢٠٠١٠٠ نفس من المسلمين، وكلهم سُنِّيُّون، وعلى ممضى الإمام الشافعي. والطريقة القادرية هناك تفوق غيرها من الطرق الصوفية، ولها نفوذ يُذكَر في نفس أبناء الشعب «الصومالي» الذين تربطهم باليمن ومسلمي سلطنة «أوسة» و«جلاولو» روابطُ الصداقة المتينة والعلاقات الحسنة.

ومن مدينة «جيبوتي» يمتد خط السكة الحديد إلى داخل الحبشة؛ حتى يصل إلى عاصمتها «أديس أبابا»، مارًّا في «ديرة داوه».

هذه هي البلاد المجاورة للحبشة، والتي تحيط بها من جميع نواحيها، ويقيم فيها المسلمون تحت نفوذ «الإنكليز والفرنساوين والإيطاليين»، بلغت فيها الطوائف الإسلامية منتهى حريتها الدينية، وأصبحت تعيش مع باقي السكان على أتم قواعد العدل والمساواة.

ولاء المسلمين لحكومة الحبشة وإخلاصهم

ليس في العالم طائفة تتناسى ما يقع عليها من الجور، وتغض الطرف عن الإساءة مثل مسلمي الحبشة، فإنهم مع ما يلاقونه من عسف الحكَّام الأحباش وجور الأحكام، يقفون إلى جانب الحكومة عند شدتها، ناسين ما عملته معهم وما زالت تعمله.

والدليل على ذلك ما ورد في «جريدة المقطم» الغراء في العدد الصادر في ٨ نوفمبر سنة ١٩٣٥، من حتى ١٢٠ زعيمًا من زعماء المسلمين حملوا للإمبراطور «هيلاسلاسي» عريضة، يعربون فيها عن ولائهم له، قاطعين على أنفسهم عهدًا بأن ينصروا القضية الحبشية، ويدافعوا عنها بحياتهم وأموالهم.

واتى في مجلة «المصور» في ملحق الحرب الصادر في ١٧ نوفمبر سنة ١٩٣٥ ما يأتي: «وكان المسلمون والمسيحيون في الحبشة يعيشون مفترقين عن بعضهم، لم تكن بينهم عداوة ولا حزازات،٢٦ ولكنَّهم كانوا يُؤثِرون عدم الاندماج في بعضهم البعض، حتى قامت «إيطاليا» تهدِّد الحبشة بالغزووالفناء، فأسرع زعماء القبائل الإسلامية وكبار تجار المسلمين، وأعيان «الأوجادين» و«هرر» و«الصومال» يبايعون الإمبراطور بالطاعة، والتفاني في الدفاع عن البلاد. وكان يوم الأحد ١٨ أغسطس سنة ١٩٣٥ يومًا مشهودًا في تاريخ الحبشة، فإن أئمة المسلمين في يوم الجمعة السابق لذلك اليوم، بعد حتى صلوا بالناس صلاة الجمعة، ألَحُّوا عليهم بأن يمضىوا إلى «كاتدرائية مار جرجس»، وأن يحضروا قداس الشفاعة في يوم ١٨ أغسطس.

وأُقِيم القداس، وإذا بالمسلمون يفدون على الكنيسة من جميع مكان، ويشهجرون في «القداس»، ويظهرون القومية التي اكتسحت جميع الفوارق الدينية في ساعة الخطر.» ا.ه.

أقول: انظر إلى شمم هذه الطائفة المباركة وفضلها، وكيف نسيت إساءات ١٣٠٠ سنة تقريبًا احتملتها من الحبشة وحكومتها المسيطرة على البلاد، وتكاتفت معهم للدفاع عنهم، تبذل في معونتهم النفوس والأموال، فيا تُرَى هل تحفظ لهم حكومة الحبشة هذا الجميل وتساوي بينهم وبين شعبها في العدل والإنصاف، من الآن وفيما بعدُ؟

المسلمون هم سور المملكة الحبشية

إن الشعب الحبشي المسيطر على الهضبة، لوحتى لديه شيئًا من الإنصاف لمنح المسلمين الأوج الأعلى في المملكة الحبشية؛ لأن المسلمين هم السور الأعظم المنيع للبلاد، وعليهم تقع الصدمة الأولى من جميع مُغِير وفاتح.

فالدناكل من جهة الشمال الشرقي — وهم من أقوى المقاتلين في الحبشة — كلهم مسلمون، وصومال «الأوجادين» في الشرق والجنوب الشرقي كلهم مسلمون، و«بوران» و«سداما» و«كافا» في الجنوب والجنوب الغربي كلهم مسلمون، و«هرر» كلهم مسلمون، وقبائل بني عامر على حدود السودان كلهم مسلمون.

وجميع هؤلاء المسلمين الأقوياء الأشداء يحيطون بالحبشة إحاطة السوار بالمعصم، ويطوقونها بقوتهم من جميع جهاتها، فلولمقد يكونوا من أشد الناس ولاءً وإخلاصًا لها لتألَّبوا عليها مع جميع عدويغزوها تشفيًا وانتقامًا مما تعمله معهم، ولكنهم لمقد يكونوا يومًا ما خائنين، بل نراهم يقابلون دونها الصدمة الأولى بنفوس مطمئنة وقلوب سليمة.

أقوال الجرائد الإسلامية عن مسلمي الحبشة من الناس مَن لا يعهد حياة المسلمين في الحبشة، بل قد لا يتصوَّر واحد من عالم هذا العصر ما يلاقونه من الجور وسوء المعاملة في بلاد هم فيها أكثرية عظيمة، ولهم فيها الأحقاب الطويلة، وهم عماد سعادتها الاقتصادية.

لهذا حينما شبَّتِ الحرب بين الحبشة والطليان، قامت الصحف العربية — لا سيما — الإسلامية تنادي: «أن أعينوا الحبشة.»

أما الصحف غير الإسلامية فإننا ندعها وشأنها، ونهجر لها حرية الرأي؛ لأنها لها نيتها الحسنة في الدعوى لمساعدة شعب معتدى عليه، ونشاركها في ندائها؛ ولأنها تؤدي هذه المهمة عينها، فيما لوكانت الحبشة قامت بخيلها ورجلها تحارب دولة تجاورها أضعف منها.

وأما الصحف الإسلامية فإننا وإن كنَّا لا ننكر عليها مثل هذا النداء الإنساني، إلا أننا نكلِّفها أمرًا واحدًا نكتفي به عن إطالة الأخذ والرد والبحث فيما لا طائل تحته.

والأمر الذي نطلبه منها هوحتى تأتي بنُسَخ من القوانين السارية في جميع ممالك العالم، ثم نرجومن صاحب الجلالة «هيلاسلاسي» إمبراطور الحبشة حتى يختار قانونًا منها، ويصدر أمره بمعاملة رعيته على ما يقتضيه، وأن لا يفرِّق بين المسلمين وغير المسلمين في تطبيقه.

نقول ذلك لأن جميع القوانين السارية في ممالك العالم تشتمل على ما يكفل حقوق الأفراد بين مختلف رعاياها.

ولكن المملكة الحبشية ليس فيها مثل هذا القانون، وإرشادها إلى عمل كهذا يُعَدُّ من أعظم المساعدات التي تُقدَّم إليها؛ لأنها تصير باتِّبَاعها دولةً ذات شأن وشوكة.

أقوال جريدة فلسطينية

وقد شذَّ عن زملائه في هذا الموضوع صاحب جريدة «الجامعة العربية»، التي تصدر في «القدس»، وخط منطقًا نفيسًا يندب فيه حظ بلاده، ويعجب من طلب الجرائد العربية الفوز للقضية الحبشية، ننقله بحروفه، لما ورَدَ فيه خاصًّا بشأن المسلمين في الحبشة.

نطق في العدد الصادر في ٣١ مارس سنة ١٩٣٥ ما نصه: لم يوجد غير مسلمي الأندلس، مَن أصابهم العذاب الذي انصب مدة مئات من السنين على مسلمي الحبشة، وليس ذلك شيئًا مضى وغاب في ظلمات التاريخ، بل في زمان قريب من هذا الزمن، أي منذ ٦٠ أو٧٠ سنة، صدرت أوامر الملك «يوحنا» نجاشي الحبشة بإكراه المسلمين أجمع على التنصُّر، وتنصَّروا قاطبة في الظاهر، ورحل منهم قسم كبير، وثار الذين قدروا على الثورة، ولم تنتهِ هذه الفظائع إلا بموت «يوحنا»، فعندها عاد المسلمون إلى الإسلام، ولكن بقي منهم جانب عظيم على النصرانية.

والذي عندي من المعلومات عن الحبشة، بقلم أناس من الثقاة الأحباش، حتى مقاطعة «يلو» التي هي مركز الإسلام هناك، أصبح بها عشرة في المائة مسيحيين، بعد حتى كانوا مسلمين بأجمعهم، وهذا بضغط الحكومة.

وعدا ذلك فمن المعلوم حتى مسلمي الحبشة وهم ستة ملايين لا تعدهم حكومة الحبشة كأنهم موجودون، ولا يوجد في الحكومة الحبشية مسلمون إلا ما ندر، وفي وظائف تافهة جدًّا.

فالدولة التي تعامل المسلمين، وهم نصف رعاياها، بهذه المعاملة، لا تستحق جميع هذا الاندفاع في الدفاع عنها من جانب أناس من المسلمين. ا.ه.

وخط أيضًا في العدد الصادر في ٤ أبريل سنة ١٩٣٥ ما نصه: إن الحبشة أبعد جدًّا عن خطر الابتلاع منَّا نحن الذين في أفواه الحيتان.

إن العاقل ينبغي حتى يتبصَّر بنفسه حينماقد يكون السيف في رقبته، فلا يتعرَّض لما لا يعنيه، وهوعاجز جد العجز عما يعنيه.

إننا نحن على جميع الأحوال، وبدون مواربة، لا نرضى بإزالة استقلال مملكة مستقلة كالحبشة، ولا نوافق على مبدأ استعباد شعب لشعب؛ لأننا نحن واقعون في هذه المصيبة، فإذا كنَّا ننكر هذا المبدأ من أصله، فليس من المعقول ولا من المقبول حتى نكون ممَّن يروج سياسة استيلاء «إيطاليا» على الحبشة، ولكنَّا في الوقت نفسه نرى فرضًا علينا تذكير قومنا بالأمور الآتية؛ لأنها حقائق، والحق يعلوولا يُعلَى عليه: الأول: إننا من الضعف ومن الاحتياج إلى عضد الدول الكبري، بحيث لا نقدر حتى نعادي دولة كدولة «إيطاليا»، وإننا لوكنَّا نقدر حتى نستعطف دولتَيْ «فرنسا» و«إنجلترا» لَكان ذلك من أعظم الأماني، ولكن مع الأسف منذ وضعت الحرب العامة أوزارها نحاول استعطاف هاتين الدولتين، حتى تكُفَّا عن أذى الأمة العربية، ولا تريدان حتى تسمعا لنا كلامًا، فنحن في العداوة معهما من قبيل «مُكرَه أخاك لا بطل»، وفي أي وقت فهمنا حتى «إنجلترا» ترغب حتى تقف في وجه المهاجرة الصهيونية، وتمنعها منعًا أكيدًا باتًّا — لا المنع المصنَّع الحالي — فإننا نمضى بأنفسنا إلى «لندن» ونأخذ معنا وفدًا من جميع العرب، حتى نقدِّم الشكر للحكومة البريطانية. الثاني: إذا الذيقد يكون في موقفنا من خطر الابتلاع الأجنبي، لا يجوز له حتى يوزِّع مجهودات على الغير، وأن ينتصر لأناس هم أبعد ألف مرة عن خطر الهلاك منه. الثالث: ليست الحكومة الحبشية هي التي يجب حتى نغضب لأجلها جميع هذا الغضب، وهي التي منذ قرون تضطهد المسلمين الذين في بلادها، وتذيقهم ألوان العذاب وتُجبِرهم على التنصُّر. ا.ه. ما نطقته مجلة الفتح إن مجلة الفتح التي تصدر في القاهرة، تُعَدُّ من أجَلِّ المجلات الإسلامية، وإنها تخط عن روية وبُعْد نظر.

لذلك نرى حتى لقولها قيمته العظيمة، وإليك ما ورد في عددها الصادر في ٢٤ ذي القعدة سنة ١٣٥٣ه/٢٩ يناير سنة ١٩٣٥م، ما نصه: «في الحبشة ثلاثة ملايين من المسلمين أويزيدون، ولكن لا نسمع لهم صوتًا ولا نرى لهم أثرًا في الحكومة الحبشية، مع أنهم كانوا فيها ملوكًا منذ قرون، وقد قيل لنا إنهم أغنى الأحباش.

إذن، فما لهم لا يجمعون ضمهم ويوحِّدون جبهتهم، ويقومون بعمل يجعل الحكومة تعطيهم من الحقوق ما يتناسب مع عددهم وعملهم.» ا.ه.

كيف كان الأجدر بالحبشة حتى تكون خط المستر «درلي Darly» في كتابه المسمى «العبيد وتجارة العاج» المطبوع في لندن سنة ١٩٢٦م، حدثةً أبدى فيها رأيه في المملكة الحبشية، وكيف أنها لم تضع نفسها في المركز اللائق لدولة لها مثل شعوبها وأراضيها، نقتطف منها ما يأتي، نطق: كان من اللائق بالحبشة حتى تكون قلبًا لأفريقيا الشمالية الشرقية، ولكن أنَّى يتأتى لها ذلك إذا كانت الشرايين المعول عليها في تغذية سائر أعضاء الجسم خالية من عوامل الحياة، فاترة منحلة، فكيف تكون حال تلك الأعضاء التي أنهكتها سياسة الحكومة الحبشية القائمة في إرهاق السكان، وإبادة العناصر العربية من الحبشة، يقذف بهم في ظلمات الجهل والتأخر. ا.ه.

أقول: إنما يقصد بالشرايين المسلمين المنتشرين في الحبشة انتشار الشرايين في الجسم؛ لأن المسلمين هم أهل الكد والعمل في الزراعة والصناعة والتجارة، وهم الوسيلة الفعَّالة لإيصال التغذية إلى كافة أعضاء جسم الحبشة، فاستنزف دم هذه الشرايين ينتهي بها إلى الضعف الذي يعقبه الموت.

الخلاصة

نستخلص مما خطناه ما يأتي:

أولًا: إذا العلاقات التاريخية بين المسلمين والأحباش، كانت ولم تزل علاقات غير محمودة؛ لأنها كناية عن سلسلة من الخصام محكمة الحلقات.

فمن بزوغ فجر القرن الثامن الهجري إلى عهد قريب، ونار الشقاق مستعرة بين الطرفين، وقد سقط على المسلمين فيها شيء كثير من أنواع الظلم والاضطهاد لا يحسن الصبر عليه، فقد انتزعت منهم ممالكهم التي أسَّسوها بحزم سادتهم، ودافعوا عنها بعزم قادتهم، فقوَّضَتْ عروشهم منها، وسلبتهم حقوقها الشرعية الموروثة بعد حتى خربتها بأيدي جيوشها.

ثانيًا: إذا أكثر عدد من المسلمين يقيم في مناطق تُعَدُّ خارجة عن حدود الحبشة التاريخية، فكان يجب حتى يتمتع هذا الشعب بكامل حريته في الدين والاقتصاد والإدارة، فيكون جارة شقيقة لها مثل حقوق جارتها وشقيقتها، لا حتى تعاملها معاملة المستعمرات المحتلة قوة واقتدارًا.
ثالثًا: إذا الأكثرية الساحقة من مسلمي الحبشة، ليس لها بالأحباش الأصليين صلة ما، فالمسلمون الذين يختلفون عن الأحباش من حيث الدين، يختلفون عنهم أيضًا في اللغة والعنصر والعادات، وفيهم مَن أصبح على درجة جليلة من المدنية والثقافة، مما لا يزال الشعب المسيطر عليهم محرومًا منه.
رابعًا: إذا مسلمي الحبشة يقاسون الأمَرَّيْن على يد أسيادهم الأحباش، وهم مكلَّفون بإعالة جنود شوى وأمحرا وخدمتهم، بدون حتى تمدهم الحكومة بالمساعدات التي تحمل عنهم الظلم والأذى وفداحة الضرائب.

الإمبراطور هيلاسلاسي للمسلمين بارقة أمل في جلالة الإمبراطور «هيلاسلاسي» في حتىقد يكون النجاشي الثاني، الذي يضمهم بالعدل ويحميهم من جور شعبه، ويكون ذا عطف عليهم كما عمل النجاشي الأول «أصحمة — رضي الله عنه» مع آبائهم المهاجرين الكرام في بدء الإسلام.

أقول ذلك لما أُشِيع من أنه على إثر زيارة جلالته لمقاطعة «هرر» أبدى استعداده لتحسين حال سكانها المسلمين المساكين، بتخفيف الضرائب التي أثقلت كواهلهم، مع أخذهم بالعطف والرفق، ووعدهم بتحسين حالتهم المادية والمعنوية، وقد ظهر بهذه العاطفة بعد تنكُّره لهم فيما مضى، وصرَّحَتْ حكومته بأنه لا فرق بين الرعايا المسلمين والمسيحيين الأحباش أمام قوانين البلاد، التي لا تنظر إلى ما بينهم من الفوارق الدينية.

على حتى المقاصد الشريفة العادلة، وهوجدير بمثلها، قد لا تتم إلا في «أديس أبابا» مركز الحكومة، ويصعب جدًّا حتى تثمر أي فائدة في غيرها من الأنطقيم؛ إذ من الصعب محاولة تطبيق عقلية الشعب الحبشي بمجرد الأمر، أوحتى يقبل أي حبشي مسيحي حتى يتنازل من عليائه إلى المساواة بينه وبين المسلم، الذي هوفي نظره أحد عبيده.

وقد فهمنا من مصادر يُوثَق بها حتى جميع رأس من رءوس الحبشة له التصرف المطلق في أحكامه على أهالي إقليمه، وليس للإمبراطور عليه في إدارة شئونها شيء من السيطرة، لا قليل ولا كثير، ولا تربطه بإمبراطوره إلا دعوة الحرب ودفع القدر المعلوم من المال.

والذي استنتجه من حال الحكومة الحبشية المسيحية مع رعاياها المسلمين، حتى الأحباش الذين تعوَّدوا حتى يعيشوا على كدِّ كواهل سواهم، يخافون من المسلمين الذين يماثلونهم عددًا ويفوقونهم ذكاءً ونشاطًا، إذا تمت بينهم وبينهم المساواة في الحرية والمعاملة، لا يمضي زمن طويل حتى يتفوَّق العنصر الإسلامي من جميع مرافقه، ويتلاشى الشعب الحبشي الأصلي بين يديه ويصبح محكومًا في جميع شيء، بعد حتىقد يكون هوالحاكم المسيطر.

وهذا الرأي يسود الأمة الحبشية من قديم، ومحال حتى يُنزَع من عقيدتها.

على حتى التاريخ أوضح لنا بأجلى المظاهر، حتى هذه الحكومة قد عجزت الأجيال التي مرت عليها، عن حتى تجعلها في الدرجة التي يستحقها سكان هذه البلاد الخصبة من الرقي والعمران، ولكن لنا من الآمال العظيمة التي يشاركنا فيها جميع مسلمي العالم في حكمة جلالة الإمبراطور الحالي وحُسْن رأيه، حتى يرد للمسلمين جميع حقوقهم وأن يقابل جميلهم، وقد هبوا لمساعدته بالأرواح والأموال في هذه الأزمة الضروس بما يستحقون من الرعاية والعطف، والله يجزي الشاكرين.

واجب اللجنة العامة للدفاع عن «القضية الحبشية» نحوالإسلام

مما يجب علينا حتى نستبشر به، ونعده واسطة ذات أثر مفيد في تحسين حال المسلمين في الحبشة، هذه اللجنة المباركة التي قامت في مصر للدفاع عن «القضية الحبشية»، وعلى رأسها الأمير الجليل فخر الأسرة المحمدية العلوية، صاحب السمو«عمر طوسون باشا»، ويمده برعايتها صاحب الغبطة «الأنبا يؤنس» بطريرك الأقباط الأرثوذكس المصلح القدير، وصاحب العزة الدكتور «عبد الحميد سعيد» رئيس جمعية الشبان المسلمين بمصر ونائب اللجنة، ومَن معهم من كبار الأمة المصرية — مسلمين وأقباط — حتى تجعل مهمتها بعد ذهاب هذه المحنة المدلهمة، إقناع جلالة الإمبراطور «هيلاسلاسي» بان مصر القائمة على عنصري المسلمين والأقباط تتمنى من صميم أفئدة أبنائها — حكومةً وشعبًا — في حتى يمد للمسلمين في الحبشة يد المعونة والمساعدة في ترقية شئونهم، ويحافظ على تطبيق شعائرهم الدينية كما تقتضيها شريعتهم الغراء، ويسوي بينهم بالعدل أمام القانون، ويسهِّل لهم جميع سبيل يرون لهم فيها مصلحة نافعة، وأن يتخذ من رجالهم «الأكفاء» لحكومته كما يتخذ من الأحباش المسيحيين، وأن يساعد جمعياتهم الفهمية والدينية، ويحميها من عبث الجاهلين.

بذلكقد يكون قابَلَ جميل اللجنة بمثله، بل وبأحسن منه.

المصادر

١ ابن الأثير، ص٢٨٠، ج٢.
٢ «مصوع» ثغر على شاطئ البحر الأحمر من سواحل «الإريتريا»، و«دهلك» جزيرة بجوارها. و«زيلع» ثغر في الصومال البريطاني على ساحل خليج عدن.
٣ «جبرت» هي «وفات» أيضًا، ومن أكبر مدن الحبشة، ومن زيلع إليها ٢٠ فترة — راجع تقويم البلدان ص١٦١.
٤ صبح الأعشى ٣٢٥، ج٥.
٥ البدر الطالع ١٤٢، ج٢.
٦ صبح الأعشى ٣٢٦، ج٥.
٧ صبح الأعشى ٣٢٨، ج٥.
٨ صبح الأعشى ٣٢٩، ج٥.
٩ صبح الأعشى ٣٣١، ج٥.
١٠ صبح الأعشى ٣٣١، ج٥.
١١ صبح الأعشى ٣٢٢، ج٥.
١٢ الطبري ١٣٤، ج٩. أما ابن الأثير وابن الوردي فذكرا حتى الحبشة قتلوا «عبيد الله»، ونجا «عبد الله» بمَن معه.
١٣ المقتطف، مجلد ٦٥، سنة ١٩٢٤.
١٤ ص٢٥، الاعتبار، طبع ليدن في سنة ١٨٨٤م.
١٥ الإلمام عما بأرض الحبشة من ملوك الإسلام، طبع مصر سنة ١٩٠٨م، ص٥، وقد ألَّفه سنة ٨٣٩ه/١٤١٥م.
١٦ لعله يريد تعبيد الطرق وإصلاحها.
١٧ يشير بذلك إلى واقعة أحد.
١٨ سورة آل عمران، آية ٢٠٠.
١٩ سورة التوبة، آية ١١١.
٢٠ سورة البروج، آية ٨.
٢١ في جمادى الأولى سنة ١٢٩٢ه/يونيو١٨٧٥م أوفدت الدولة العلية للخديوإسماعيل ما يفيد إحالة منية زيلع وملحقاتها على الحكومة المصرية، لقاء ١٥ ألف جنيه عثماني تعلى على الجزية (٦٤٦ التوفيقات الإلهامية).

وفي ربيع الأول من سنة ١٣٠٢ه/ديسمبر ١٨٨٤، صرحت إنجلترا لإيطاليا باحتلال زيلع ومصوع.

٢٢ هرر فتحها العساكر المصرية تحت قيادة محمد رءوف باشا في سنة ١٢٩٢ه، ثم انسحبت العساكر منها في سنة ١٣٠٣ه/١٨٨٥م راجع التوفيقات الإلهامية.
٢٣ قبائل الصومال تميل إلى القتل، فإذا اغتال أحدهم واحدًا من الناس كان له الحق في حتى يضع فوق رأسه ريشة بيضاء من ريش النعام، ويُعرَف عدد ضحاياه بعدد ما على رأسه من الريش. وعندهم حتى الشاب الذي ليس على رأسه ريشة نعام بيضاء لا يُعدُّ صالحًا للزواج؛ لذلك تلقاهم إذا شرع واحد منهم في الزواج، أخذ يبحث أولًا على ضحية من القبائل المجاورة أوالأجانب الروَّاد، يبرِّر بقتله أخذ يد خطيبته. ا.ه. رحلة الحبشة ص٤٨ و٤٩.
٢٤ صبح الأعشى، ٣٣٥، ج٥.
٢٥ سورة الحشر.
٢٦ لعل المحرر يريد أنه لم يصل إلى فهمه شيء من ذلك، وإلا فالواقع ينكر ما يقوله.

وصلات خارجية

تاريخ النشر: 2020-06-09 09:58:03
التصنيفات: الإسلام في إثيوپيا

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

إسكان الشيوخ: إنجازات مبادرة «ابدأ» تخدم خطي التحول لمركز صناعي إقليمي

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:24:51
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 50%

“مشمس مستقر”.. تعرف على طقس الإسكندرية اليوم

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:24:48
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 66%

غادة عبد الرازق...لو عندي تصوير في رمضان مش بصوم

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:25:07
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 67%

خالد يوسف يعلن اعتزاله "الدراما التلفزيونية"

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:25:16
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 63%

«الإفتاء» توضح مواضع سجود التلاوة في القرآن الكريم

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:24:55
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 69%

"منسف بالأقساط" يثير الجدل في الأردن

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:25:32
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 58%

شراشيب زمان تزين شوارع بورسعيد في شهر رمضان

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:24:38
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 67%

مان سيتي ضد ليفربول.. دى بروين يضيف الهدف الثانى لـ السيتيزنز "فيديو"

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:25:55
مستوى الصحة: 35% الأهمية: 44%

بسبب الحرب والضغط الإقتصادي.. روسيا تبحث عن منافذ لها بالمغرب

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:25:08
مستوى الصحة: 69% الأهمية: 78%

وزير التنمية المحلية يجمع مع المحافظين لمناقشة توفير السلع الغذائية

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:24:40
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 59%

مغاربة وجزائريون في فرنسا ينظمون مسيرة “الأخوة” بباريس

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:25:15
مستوى الصحة: 71% الأهمية: 80%

مرتضى منصور: تم حسم ملف المدير الفني الجديد والاعلان خلال أيام

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:24:59
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 51%

القوات المسلحة تحتفل بذكرى انتصارات العاشر من رمضان 1444 هـ

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:24:46
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 57%

ماذا قال البابا كيرلس علي هذا الحدث الفريد قبل 45 عامًا من الآن

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:24:43
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 65%

أنقرة تستدعي سفير الدنمارك بسبب حرق القرآن والعلم التركي

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:25:26
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 63%

سعر الدولار اليوم السبت في البنوك

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:24:55
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 69%

إطلاق أول اختبار مغربي صرف لتشخيص سرطان الدم

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:25:21
مستوى الصحة: 74% الأهمية: 83%

أزمة بين زينة وصناع "جعفر العمدة"....تفاصيل

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:25:38
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 53%

جوندوجان يحرز الهدف الثالث لـ مان سيتى فى مرمى ليفربول.. فيديو

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:25:49
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 45%

وفاة طبيب داخل محبسه....تفاصيل

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-04-01 15:24:51
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 64%

تحميل تطبيق المنصة العربية