أبودلامة
كان أبودلامة مُهَرِّجًا كبيرًا في أول العصر العباسي، يضحك الناس بشكله وقوله وعمله وشعره، فكان أسود اللون، قبيح الوجه، سكيرًا معربدًا، وكان خفيف الروح، لطيف الشعر، حاضر البديهة، عارفًا بنفوس الناس وما يسرهم وما يغضبهم، وخاصة الولاة والحكام، خبيرًا بطرق اجتذاب المال منهم، وكان يقوم مقام (مضحك الملك)، كان مضحكًا للسفاح والمنصور والمهدي، وتشيع نوادره وشعره وأقواله في بغداد فيخفُّون لها ويضحكون منها، ويخشى جميع أمير أوكبير حتى يجعله أبودلامة موضعًا لنكتة أونادرة من نوادره، فيسبغ عليه عطاءه؛ حتى لاقد يكون موضع السخرية من الناس بما يتناقلونه فيه عن أبي دلامة.
من قصصة مع المهدي
أمر المهدي، إلى غير ذلك أرغم على القتال فتقدم إليه كارهًا ساخطًا خائفًا، فجمع جميع حيلته ودهائه للخروج من هذا المأزق، فماذا صنع؟
كانت عادة الخوارج حتى يبدأوا القتال بالمبارزة، فيبرز رجل ويطلب من يبارزه؛ حتى إذا حمي القتال كانت حرب الكر، فخرج خارجي يطلب المبارزة، وأُمِرَ أبودلامة حتى يخرج له، وهنا كان الموت لا محالة من نصيب أبي دلامة، فأنَّى له حتى يقف أمام الخارجي؟! نطق أبودلامة: أيها الأمير، إنه أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وأنا والله جائع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج، فأمر له برغيفين ودجاجة، فأخذ ذلك وبرز إلى الصف ووقف أمام الخارجي، وكانت عيناه تتقدان، وأسرع إلى أبي دلامة يقضي عليه، فنطق له أبودلامة: على رِسْلِكَ يا هذا. فوقف.
أبودلامة : هل كان بيننا عداوة قط؟ الخارجي : لا! أبودلامة : هل تفهم بين أهلي وأهلك وترًا؟ الخارجي : لا! أبودلامة : ولا أنا والله لك؛ إلا على جميل. أبودلامة : أتقتل رجلًا على دينك؟ الخارجي : لا! أبودلامة : إني والله أدين بدينك، وأريد الشر لمن أراده لك. الخارجي : جزاك الله خيرًا، (وأراد الانصراف). أبودلامة : قف، إذا معي زادًا وأريد حتى آكله، وأريد مواكلتك لتتأكد المودة بيننا ونُري أهل العسكرين هوانهم علينا. الخارجي : أعمل! فتقدم إليه أبودلامة حتى اختلفت أعناق دابتيهما، ووضعا أرجلهما على معهدتيهما، وجعلا يأكلان، فلما رأى العسكران ذلك جعلوا يضحكون، وعاد أبودلامة بعد الأكل، ونطق للقائد: أنا كفيتك قِرني فقل لغيري يكفيك قرنه.
•••
هذه هي حكمة أبي دلامة، وهي حكمة العالم كله، وهي الحكمة التي غابت عن الناس جميعًا في بداوتهم وحضارتهم، فكانت الحرب المزمنة، ولوعقل الناس لعملوا عمل أبي دلامة، لِمَ يقاتل الجيش الجيش،يا ترى؟ هل بينهما خصومة؟! لا. هل بينهما تِرَة،يا ترى؟ لا. لوسأل جميع جندي قرنه سؤال أبي دلامة لأجاب إجابة الخارجي، ولوسأل كلُّ جيشٍ الجيشَ الذي يقاتله هذا السؤال لأجابه هذا الجواب، بل هذه الحكمة هي التي غابت عن رؤساء الحكومات وقادة الحروب؛ فلوتساءلوا سؤال أبي دلامة، ما كان الجواب الحق إلا إجابة الخارجي.
والحق حتى ليس بين الجيوش عداء إلا عداء مصطنع تبثه الوطنية المصطنعة، والناس يحاربون اتباعًا لرأي القادة الذين يقعون تحت سيطرة الغفلة، وقد كان الناس قديمًا إذا نازع فرد فردًا تقاتل الفردان، وأخذ أحدهما حقه أوما يدعي أنه حقه بالقتال، فلما تحضروا حل العقل محل القتال وأنشئت المحاكم وأنشئ القضاء، ولكنْ عَقَلَ الأفراد ولم تعقل الحكومات، فلا تزال الحكومات تأخذ حقها أوما تدعي أنه حقها بالقوة والحروب، عمل الإنسان المتوحش الأول.
لماذا يتقاتل الناس،يا ترى؟ إنهم يتقاتلون لأن حكوماتهم ترغب القتال، ولماذا تتقاتل الحكومات،يا ترى؟ إنها تتقاتل لسبب من مسببات ثلاثة: أولها جميعًا: أنها تتقاتل؛ لأن مريدة القتال ترغب العظمة والسيطرة واتساع الرقعة، أوترغب زيادة المال لأمتها، واستغلال الغير لفائدتها، وإفقار الأمة المغلوبة لغنى الغالبة، وشرب دم المغلوب لري الغالب؛ أوترغب الفخفخة الكاذبة وحسن الصيت، والتبجح بأنها أعظم دولة، أوأقوى دولة، أوأنها لا تغرب الشمس عنها، أوأنها ذات الحدثة المسموعة في سياسة العالم وتوجيهه.
هذه هي الأسباب التي كانت من أجلها الحرب ولا شيء غيرها؛ فلننظر إليها بعين الحق، وإن شئت فقل بعين أبي دلامة؛ هل شيء منها أوهي كلها تستحق هذا الدمار في العالم، وهذه الدماء تجري أنهارًا، وهذا الفزع يملأ النفوس، وهذه الأسر تفقد أبناءها وتشقى بقتل عائلها، وهذا الخراب وهذا الدمار، وهذا النقص في الأنفس والأموال والثمرات،يا ترى؟ إذا القادة إنما يعملون ذلك؛ لأنهم فقدوا عقولهم وغلبت عليهم شهواتهم، ولوعَقَلُوا لرأوا حتى لا شيء في العالم يساوي إزهاق روح واحدة، وأن المادة مهما عظمت لا يمكن حتى تُقَوَّمَ بإنسانية مهما كانت جزئية.
أما بعد؛ فمن لقادة الأمم جميعًا بعقلية أبي دلامة؟!
مصادر
https://www.hindawi.org/books/40905031/26/