هذا عنوانُ كتاب مهم جداً في بابه، وهو من أقدم الكتب المصنّفة في مجال اللحن، والأخطاء اللغوية، وما يحدث في الكلام من اضطراب وخلط، ألّفه العالم النحوي الفذ أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي (تـ189هـ)، أحد القراء السبعة المشهورين، وإمام أهل الكوفة في اللغة، وحامل لواء مدرستها النحوية، قال عنه بعض معاصريه: «كان أعلم الناس، وكان ضابطاً قارئاً، عالماً بالعربية صدوقاً»، وقد شهد عدد من علماء عصره بفضله، وعلو قدره في اللغة، والقراءات، وكان أكثر اللغويين، والأدباء يثنون عليه كثيراً، ويرون فيه سعة العلم، وارتفاع المنزلة، ودليل ذلك حظوته الكبيرة عند هارون الرشيد، حيث كان مؤدِّباً (معلماً) لبنيه.

وللكسائي مؤلفات لغوية، فُقِد بعضها، وبقي منها شيء نفيس، ويعد كتابه (ما تلحن فيه العامة)، أو (ما تلحن فيه العوام) من كتبه الرشيقة التي تصلح لكل زمان، وليس يعنينا ما وقع من سجال وجدال حول صحة نسبته إليه، فذلك شأن أهل اللغة المتخصصين في أبوابها، ومصنفاتها، وإن كان بعضهم قد أثبت صحة نسبته للكسائي، غير أن الذي يهمنا فيه هو أنه علاج لغوي لبعض الأعراض والأمراض التي تعتري كلام الناس، ولا سيما أن هذا الكتاب نضح بكثير من الفوائد اللغوية: النحوية، والصرفية، والصوتية، وكان أنموذجاً مبكراً لتصحيح مسار اللغة، وتنقيتها من عوالق الاستعمال، وتصفيتها من مزالق التركيب التي تجري على ألسنة العامة.

وقد صُدِّر الكتاب بهذا النص: «هذا كتاب (ما تلحن فيه العوام) مما وضعه علي بن حمزة الكسائي للرشيد هارون، ولا بد لأهل الفصاحة من معرفته..»، ثم تتابعت التصويبات فيه على صيغتي: (تقول)، (ولا تقول)، معضّداً ذلك التصويب ببعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأشعار أهل الاحتجاج، وجاء الكتاب متناولاً لكثير من التراكيب اللغوية التي سردها الكسائي في مواضع متنوعة وصلت إلى حدود مئة وسبعة تقريباً، كان الكسائي فيها متدفقاً بالمثال، والشاهد.

ولعلنا نقتطف من تلك المواضع ما يعزّز هذا المقال، فمن ذلك قول الكسائي: «تقول: حَرَصتُ بفلان، بفتح الراء، قال الله عز وجل: «وما أكثر الناس ولو حَرَصْتَ بمؤمنين»، ولا تقول: تَحْرَصُ، بفتح الراء، قال الله تعالى: «إن تَحْرِصْ على هداهم فإن اللهَ لا يهدي من يضل»، وفي موضع آخر يقول: «وتقول: دعه حتى يسكتَ من غضبه، بالتاء، ولا يقال: يسكن، بالنون، قال الله عز وجل: «ولما سكت عن موسى الغضَبُ».

ويقول في موضع آخر: «وتقول: شكرتُ لكَ، ونصحتُ لكَ، ولا يقال: شكرتُك ونصحتُك، وقد نصحَ فلانٌ لفلان، وشكر له، هذا كلام العرب، قال الله تعالى: «اشكر لي ولوالديك»، «واشكروا لي ولا تكفرون»، «ولا ينفعكم نصحي إن أردتُ أن أنصح لكم».

وفي موضع آخر يقول: «وتقول: قد وعَدْتُ فلاناً خيراً، ووعدته شَرَّاً، بغير ألف. قال الله تعالى: «إن الله وَعَدَكم وَعْدَ الحق وَوَعَدْتُكُم فأخلَفتُكم»، فإذا لم تُظهِر الخير والشر وأردت الوعيد قلت: قد أوعدته. قال كعب بن زهير بن أبي سلمى من قصيدة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أُنبئْتُ أنَّ رسولَ الله أوْعَدَني

والعفوُ عند رسولِ الله مأمُولُ.