شأنها شأن بقية الدول العربية التي اجتاحتها القوى الاستعمارية، خلال القرن التاسع عشر، أصبح الصومال ساحة للتنافس الغربي والتدخل الأجنبي، وذلك بسبب الأهمية الاستراتيجية الاستثنائية التي اكتسبتها بعد افتتاح قناة السويس والتي حولت القرن الإفريقي إلى ممر مهم لحركة التجارة العالمية عبر البحر.

واحتدمت الحروب والمعارك الدامية منذ ذلك الحين، على أرض الصومال لإخضاعه وإحكام السيطرة عليه، من طرف عدة قوى عالمية متنافسة، كبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا. حتى إنّ أطماع الاستعمار والطموحات التوسعية لم تستثن الجيران أيضاً، كمصر وإثيوبيا التي حاولت بدورها التدخل في المنطقة، فنشبت بينها معارك ومواجهات شديدة.

ومن بين الركام والأشلاء التي غمرت الصومال خلال تلك الحقبة السوداء، سطع نجم الملا محمد بن عبد الله بن حسن، الذي تمكن كرمز من رموز المقاومة من الانتفاض، فأنهك الاحتلال، وقاد ثورة أربكت حسابات جميع الأطراف الاستعمارية وتسببت لها آنذاك في خسائر بشرية ومادية لم تكن تتوقعها.

من منابر العلم إلى التحريض على الثورة

بين المساجد والزوايا الدينية التقليدية، نشأ محمد بن عبد الله بن حسن المولود في الصومال عام 1856. وتمكن في سن يافعة من إتمام حفظ القرآن، وتلقي العلوم الشرعية، وزار العديد من المنارات والمعاهد الإسلامية في عدة دول كفلسطين واليمن ومصر وغيرها. حتى أصبح من أبرز خطباء المساجد واشتهر في بلاده بالشيخ الشاب والفقيه البارع والمدرس غزير الثقافة والمعرفة، إذ أنه عمل أيضاً كمدرس في المدارس الصومالية لفترة من الزمن.

ورغم انشغاله بالعلم والتدريس والدعوة، لم يكن بإمكان الشيخ الصوفي الزاهد غض الطرف عما آلت إليه الأوضاع في بلاده، التي أردتها مدافع الاستعمار إلى رماد وشتات، وبدأت تظهر عليها ملامح تغريبة الهوية والتغيير الفكري، الذي خططت له القوى الاستعمارية للنجاح في إحكام قبضتها على الصومال.

وتذكر بعض المصادر التاريخية، أن فكرة الثورة على القوى الاستعمارية قد راودت الملا محمد، لأول مرة عام 1895، حين كان يؤدي فريضة الحج رفقة مجموعة من أصدقائه، وقرروا حينها جميعاً مقاومة الاستعمار، ووضع حد لهذه الاستباحة المستمرة منذ سنوات.

وبمجرد عودته إلى الصومال، اتخذت حياة الملا محمد مساراً آخر، وبدأ في إلقاء الخطب الحماسية لاستثارة همم الصوماليين وتحريضهم على الثورة على الاستعمار البريطاني آنذاك. وانتقد بشكل لاذع الشيوخ الموالين للاستعمار، وحارب المراكز التبشيرية التي كانت تسعى لنشر الدين المسيحي في الصومال.

الملا المجنون.. قائد ثورة الدراويش

بدأ الكثير من الصوماليون يلتفون حول الملا محمد الذي تمكن من إلهاب مشاعرهم، وأجّج بداخلهم الغضب على الاستعمار الذي استباح بلادهم.

ومن الخطط ومنابر المساجد، شكل الشيخ الصوفي فرقته العسكرية التي أطلق عليها اسم "الدراويش"، تجنباً لنسبها لأي فرقة قبلية أو عرقية. وتميزت "الدراويش" بمظهرها الديني الذي كان يبدو عليه مقاتلوها، من ارتداء للعمائم البيضاء وحمل السبحات، وتحكيمهم "الشريعة".

ومع إعلانه الثورة على الاستعمار والعمل على دحره، لقب البريطانيون الملا محمد بـ"الملا المجنون" سخرية منهم ومحاولة لتشويهه أمام بقية الصوماليين، للحول دون انضمامهم إلى فرقته العسكرية.

ولكن ذلك لم يُثْنِ الثائر الصوفي، الذي كان عازماً رفقة بقية رفاقه "الدراويش" على طرد الاستعمار. وفعلاً تفاجأت القوات البريطانية بحجم الخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها خلال معاركها مع الدراويش، ولم تكن ضمن مخططاتها.

وبحلول عام 1900، اجتمع في الصومال أكثر من 15 ألف جندي بريطاني وإثيوبي وإيطالي، للقضاء على حركة المقاومة الصومالية الوليدة "الدروايش" التي باتت حجر عثرة في طريقهم لبسط السيطرة على البلاد.

وعلى غير المتوقع، نجح الملا محمد في هزيمة هذا الحشد من الجيوش، وكسب بذلك تعاطف وتأييد الكثير من القبائل الصومالية التي التحق عدد كبير من أبنائها بصفوف "الدراويش" خلال معاركهم الطاحنة والتي استمرت تقريباً نحو عقدين من الزمن.

وسعت بريطانيا في الأثناء، بالتحالف مع عدة قوى محلية وأجنبية لضرب معاقل الدروايش وقصفهم بالطائرات للقضاء عليهم، إلا أن "الملا المجنون" كما شاءت أن تلقبه تسبب لهم بدوره في العديد من الضربات الموجعة وهزمهم في الكثير من المواجهات طوال عشرين عاماً دون أن يستسلم. حتى قُتل يوم 21 ديسمبر/كانون الأول 1920، وانتهت بوفاته ثورة الدروايش، التي مهدت لاحقاً الطريق، كما يشير مؤرخون ومحللون، نحو الحركة الوطنية الصومالية.

وبقي الملا محمد، إلى اليوم رمزاً وطنياً للمقاومة الصومالية وملهما للثورة والتحرر الوطني للصوماليون.

TRT عربي