إجازة

 

انتهى اليوم الأخير من الامتحانات وانتهت فترة الدراسة للصف الثانى الإعدادى فى بداية الثمانينيات.. بعض زملائى يتحدثون فيما بينهم قائلين: من غدٍ نبدأ العمل فى الحقول بجمع «اللطعة» من القطن أو رش المبيد، وفى المقابل كلٌّ منا يحصل على مبلغ خمسة قروش فى اليوم.. أستمع لهم ونحن نمشى فى الطريق متمنيًا أن يوافق والدى هذا العام كى أذهب للجمعية الزراعية وأسجل اسمى مع زملائى، فها أنا قد كبرت ويستطيع أن يطمئن علىّ. فكلما طلبت منه العمل يقول لى: ما تطلبه من طلبات ألبيها لك أيًا كانت. أنت تلميذ مهمتك طلب العلم حتى تكبر، والإجازة هى من حقك أن تروح عن نفسك فيها.. إنما أن تذهب للعمل وترهقها فلا وألف لا، لأننى أخشى يا ولدى عليك، أنت ما زلت صغيرًا، ومهمتى أنا النفقة عليك.

وكما تربينا فى بيت جدك لا بد أن تسمع أنت الكلام فأولادنا لا يعملون عند أحد.. لا نسمح بذلك، حينما تكبر لك الحق فى تقرير مصيرك والاعتماد على ساعدك. أحاول إقناعه بأنها الجمعية الزراعية وليست شخصًا.. فهى ملك الحكومة، وأنا حقًا أريد الاعتماد على نفسى وأخوض تجربة العمل والكد والنفقة على نفسى.. كلمت والدتى فى الأمر لتقنعه، وعدتنى أن تقنعه هذه المرة.. بعد مرور يوم من الإجازة المدرسية بشرتنى والدتى بالموافقة من والدى نزولًا على رغبتى فى التجربة.. طرت من الفرح وذهبت لتسجيل اسمى بالجمعية، كان صديقى عمار يحاول إقناع أهله بالموافقة لكى يأتى معى، واتفقنا على أن نتقابل غدًا فى الجمعية إذا سمحوا له، وفى صباح اليوم توجهت لتسلم العمل مع الأطفال.. وكأن المدرسة كلها جاءت للعمل فى الجمعية.. استقبلونى بالتهليل والفرح لوجودى معهم فى العمل.. كنت سعيدًا وكأنه يوم العيد. جلست معهم فى الخارج لاستماع اسمى مع العاملين، ولم تمضِ لحظات حتى حضر صديقى عمار لتزداد سعادتى ويخبرنى بأنه جاء ليسجل اسمه ويعمل معى.. واشترط على كاتب الجمعية أن نعمل سويًا فى حقل واحد.. تبسم له وقال: لأجل إخلاصك لصديقك سوف تكونان أنتما الاثنان فى مكان عمل واحد.. ونادى على الأسماء لتوزيع العمل.. وكان نصيبى أنا وعمار وبعض من الزملاء أن نعمل فى حوض «الملك» القريب من القرية.. تسلمنا عربة رش المبيدات وقمنا بتقسيم بعضنا.. جزء يقوم بجرها من الأمام، وجزء آخر يدفعها من الخلف.. أرهقتنا طوال الطريق فهى عربة كبيرة بأربع عجلات مطاطية وكأنها سيارة ربع نقل.. كانت نظرات المزارعين لنا فى الطريق تسعدنى، فها هم يروننا رجالًا نستطيع العمل، فكلما قابلنا شخصٌ أو جماعة رددوا لنا مشجعين: «شدوا حيلكم يا رجالة» أو «عفارم عليكم» أو «مرحبًا رجال المستقبل».. إلى أن وصلنا للحقل بعد ثلاثة كيلومترات تقريبًا من الجمعية، وبدأت مرحلة الاستعداد للعمل وضعنا بها المبيد، وقمنا بملء المياه بالدلو من الترعة القريبة.. نتبادل حمل الدلو فى شكل طابور إلى أن نفرغ المياه بخزان العربة.. قال المهندس المشرف: إلى أن تصلوا لعدد مائة دلو مياه سوف نبدأ العمل.

أنهينا العدد ونادينا على المهندس المشرف، وهو جالس تحت النخلة يشرب الشاى مع بعض المزارعين.. قام وأعطانا الأوامر بتشغيل الماكينة الخاصة برش المبيد بالعربة وسحب خرطوم الرش الكبير لآخر الحقل، على أن نحمله على أكتافنا فى شكل طابور، حاولنا أكثر من عشرين مرة تشغيلها دون جدوى.. قال أحد زملائى: هذا حالها كل يوم لا تعمل.. قلت له: وما الحل؟ رد علىّ المهندس وقال: كل منكم يأخذ دلوًا معبأ بالمبيد ويقوم برشه يدويًا. وشرح لنا الطريقة بأن نضع ليفة من ليف النخيل فى المبيد ونسحبها بسرعة وهى محملة بالمبيد لنرش بها على الزرع، ونحن نمشى ذهابًا وإيابًا داخل الحقل حتى نُنهى الرش فى الحقل، وننتقل لحقل غيره.. وبدأنا العمل، وكان نصيب كل منا حمل عشرة دلاء ورشها بالحقل.. كنا سعداء رغم مشقة العمل، وأنهينا العمل بعد الساعة الواحدة ظهرًا، وعدنا للجمعية، وسلمنا العهدة، ووقعنا فى دفتر الانصراف، وكأننا موظفون كبار، ودعنا بعضنا للقاء الغد، وقال لى المهندس المشرف: أنت وصديقك عمار من أكفأ العمال معى اليوم، ولكما حافز يُصرف فى نهاية الشهر.. فرحنا لم نكن نتوقع أننا نتفوق فى العمل ونحوز إعجاب المشرف وتقديره .. اصطحبت صديقى وافترقنا على ناصية الشارع، ليذهب كل منا لمنزله.. سلمت على والدتى وأنا تغمرنى السعادة لإحساسى بأننى رجل أصبح يعمل ويكد، وها هو الآن عائد من عمله، وطمأنتها أن العمل سهل.. قمت بالاستحمام وتغيير ملابسى، وضعت لى الطعام بسرعة خشية منها على إرهاقى فى العمل.. لم أطعم سوى لقمة وصرخت: بطنى.. بطنى.. كانت بطنى تتلوى وكأن بها سكاكين تمزقها.. ارتميت على الأرض وأنا أصرخ وأتلوى يمينًا وشمالًا. تجمع الجيران والأهل على صراخى وصراخ أمى. لم يكن والدى قد حضر من عمله.. طلبوا الإسعاف.. حملونى للمشفى، قال الأطباء: حالة تسمم لا بد من عمل غسيل معدة على الفور.. بدأوا فى غسيل المعدة بعد أن أحضروا دلو مياه، وصبوا فيه كمية من الملح، وقاموا بتحريكه لإذابة الملح، وأحكم إمساكى اثنان من عمال المشفى، والثالث كان يفتح فمى ويسقينى من الشربة بالكوب بسرعة تباعًا، وأنا أتلوى تارة، وأشرب المحلول مرغمًا، ثم أتقيأ فأفرغ ما فى بطنى تارة.. حتى شعرت بتحسن حالتى، وزال الألم من معدتى، وضعونى على سرير.. سمعت صوت صراخ صديقى عمار فى الخارج فعلمت أنه تسمم أيضًا ويجرى له غسيل معدة.

وتتابع الزملاء واحدًا تلو الآخر إلى أن خرجنا من المشفى بعد غسيل المعدة فى نفس اليوم قبل غروب الشمس، ونحن نتساءل: هل نعود للعمل مرة أخرى أم نكتفى بهذا التسمم؟ وعلمت أن كل من يعمل فى رش المبيد دون كمامات أو عدم ارتداء زى الأمن الواقى يحدث له تسمم معوى، وإن لم تنظف أمعاؤه فى نفس اليوم قد يتوفى.. قال زملائى نحن تعودنا على هذا من حين لآخر، ومن سوء حظكما أن برنامج العمل هذا الأسبوع هو رش المبيد، والأسبوع المقبل العمل أسهل، سوف نجمع «اللطعة» من الحقل.. ضحك عمار ونظر إلىّ قائلًا: ونحن لم نتعود.. ابتسمت وقلت فى نفسى: ليتنى سمعت كلام أبى، فكيف لى الآن أن أواجه أبى؟!

تاريخ الخبر: 2021-12-25 19:24:31
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 52%
الأهمية: 54%

آخر الأخبار حول العالم

سمرقند تستضيف قرعة كأس العالم لكرة القدم داخل القاعة يوم 26 ماي

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:25:05
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 63%

تحديات الذكاء الإصطناعي.. وآليات التوجيه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:25:45
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 50%

فرنسا.. قتيل وجريح في حادث إطلاق نار في تولوز

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:25:08
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 61%

جلالة الملك يوجه خطابا إلى القمة الـ 15 لمنظمة التعاون الإسلامي

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:25:03
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 60%

تحديات الذكاء الإصطناعي.. وآليات التوجيه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 18:25:37
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية