هذا المشهد الجديد يُعد نقيضاً كاملاً لما شهدناه في الأشهر الأخيرة، ويعود ذلك إلى رجحان الكفة العسكرية للحكومة المركزية نتيجة للعديد من العوامل أهمها استخدام أسلحة جديدة في القتال، إذ برزت أسماء العديد من الدول أسواقاً رئيسية للسلاح منها تركيا التي اشترت منها أديس أبابا أسلحة بقيمة تقترب من 95 مليون دولار من أغسطس/آب حتى نوفمبر/تشرين الثاني.

هذه التطورات الميدانية رافقتها إشارات سياسية من كل من أديس أبابا بالدعوة إلى حوار وطني شامل، ومن مقلي بإعلان انسحابها من عفر وأمهرة استجابة لمطالبات المجتمع الدولي وأن ذلك سيفتح نافذة للسلام، ما يستدعي النظر في إمكانية وصول الوساطة إلى حل مقبول من الطرفين مع تعذر التفاوض المباشر نتيجة عقبات قانونية مرتبطة بتصنيف الجبهة التيغراوية تنظيماً إرهابياً.

عوائق في وجه الوساطة

ورغم محاولات الوساطة المتكررة بين طرفي الصراع في إثيوبيا فيبدو أن السماح بدخول بعض المساعدات الإنسانية للمتضررين من الحرب الضروس كان الإنجاز الوحيد الذي استطاعت الوساطة النجاح فيه بعد عام كامل من الحرب، وهو نجاح لم يصادفها في معالجة الجانب السياسي الذي يمثل، للمفارقة، الجذر الرئيسي للكارثة الإنسانية.

هذه "الحصيلة اللافتة" تدفع المتابع إلى التأمل في عوامل إخفاق الوساطة، والنظر في إمكانية تغير القواعد بما يفتح باب الأمل في تحول ما في البلد الذي أنهكته الحرب، وفي هذا السياق يبدو أن أهم عوامل هذا الإخفاق تتمثل في الآتي:

حالة عدم الثقة العميقة بين الطرفين.

وهي نتيجة طبيعية لعداء مُركّّب يتداخل فيه الشخصي والسياسي، بدأ حتى قبل تولي آبي أحمد سدة رئاسة الوزراء في بلاده، فقد كانت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي من الأطراف غير المرحبة بترشيحه لهذا المنصب عام 2018، كما أن أحمد نفسه تحدث عن استهدافه شخصياً من طرفها في أحد خطاباته.

في المقابل شعرت الجبهة الشعبية بالاستهداف ومحاولة تحميلها كل أوزار المرحلة الماضية، وتصفية إرثها السياسي بعد الخلاف بين الطرفين على الإطار السياسي الناظم لحكم إثيوبيا بين الفيدرالية العرقية التي تدافع عنها تيغراي والمركزية التي تمثل العمود الفقري لرؤية أحمد لمستقبل بلاده.

عدم إيمان الطرفين الحقيقي بالحلول التفاوضية.

غلب على أداء أطراف الصراع الرئيسية في المرحلة السابقة الميل إلى استخدام السلاح كأداة وحيدة لفرض حل للأزمة عميقة الجذور في البلاد، ويستطيع المتتبع أن يرى أن التعامل الإيجابي مع أي حلول تفاوضية عبر وساطة كان مرتبطاً بشعور أحد الطرفين بتراجع وضعه الميداني، يلاحظ هذا في فترة ما قبل استرجاع السيطرة على مقلي من قبل الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والتي دعت إلى الحلول التفاوضية، وفي دعوة آبي أحمد إلى حل تفاوضي مع انسحاب جيشه من الإقليم بعد الهزيمة العسكرية التي لحقت به، وفي الحالتين كان الطرف الذي يشعر بتفوقه في أرض المعركة يتعامل مع الوساطة إما بالرفض وإما بشروط تعجيزية.

السقوف العالية للمطالب.

وهو نتيجة طبيعية لما سبق، وتعبير عن الرغبة في فرض حلول من كل طرف على الآخر، دون اللجوء إلى مطالب تشكِّل أرضية معقولة لبدء حوار سياسي وتأجيل القضايا الأكثر تعقيداً لمرحلة تالية، أو إبداء المرونة حولها، فقد وضع التيغراي على رأس مطالبهم، بعد دعوة رئيس الوزراء إلى الحل السلمي في يوليو/تموز الماضي، انسحاب قوات إقليم أمهرة من أراضي غرب تيغراي التي سيطرت عليها بعد اندلاع الحرب، وهو مطلب يعجز أحمد عن تنفيذه لأنه يعني عملياً تفكيك تحالفه مع الأمهرة أهم حلفائه. في المقابل طالب أحمد جبهة التيغراي بالانسحاب من إقليمي أمهرة وعفر لرفع الحصار عن إقليمهم، وهو يعلم مدى صعوبة تنفيذ هذا الشرط مع حالة عدم الثقة التي تحدثنا عنها سابقاً، وهذا ما يطرح أمام الوسيط دوماً معضلات من قبيل من يقوم بالخطوة الأولى؟ وما الضمانات؟

الانقسام الدولي حول الصراع الإثيوبي.

تحولت الساحة الإثيوبية إلى حلبة صراع للقوى الدولية الكبرى، إذ يتسم موقف الولايات المتحدة والمعسكر الغربي عموماً بالضغط المباشر على الحكومة الإثيوبية بقطع المساعدات وإيقاع العقوبات لدفعها إلى تنفيذ مطالب معينة كفك الحصار على إقليم تيغراي واللجوء إلى الحل التفاوضي، في حين تدعم بكين حكومة أديس أبابا، تحت شعار رفض التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة، وهو ما ينعكس في عجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرارات إلزامية وصارمة بحق كل أطراف الصراع في الساحة الإثيوبية، ما يؤثر سلباً بالنتيجة على جهود الوساطة المختلفة.

الموقف من بعض الوسطاء.

إذ يبدو أن أحد أسباب رفض الحكومة للوساطة الأمريكية على سبيل المثال اتهامها واشنطن بالتعاطف مع مطالب التيغراي، ومحاولة فرض مطالبها على السياسة الإثيوبية، مستشهدة بالعديد من الدلائل ومنها تشكيل الاتحاد الفيدرالي الكونفدرالي الذي يضم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وثمانية من الفصائل الإثيوبية المعارضة (زاد العدد لاحقاً) في واشنطن إبان وجود الوسيط الأمريكي جيفري فيلتمان في أديس أبابا عارضاً الوساطة، وهو ما كان له تأثير مباشر في الموقف الإثيوبي وأدى إلى فشل الوساطة الأمريكية.

عجز الوسطاء عن التأثير على قرار أطراف الحرب.

تعد وساطة الاتحاد الإفريقي المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي أبرز الوساطات في الساحة الإثيوبية، لكن من الواضح أن الاتحاد الإفريقي لا يملك الأدوات الكافية للتأثير على طرفي الصراع ودفعهما إلى طاولة التفاوض، ولعل هذا من أسباب ترحيب أديس أبابا به.

الموقف الإرتري.

يبدو موقف أسمرة، أهم حلفاء رئيس الوزراء الإثيوبي، والمشاركة بفعالية في هذه الحرب، عاملاً هاماً في تشكيل مسارها، وفي هذا السياق يمكن وضع الرفض الجذري من إرتريا لأي حل سلمي تفاوضي مع التيغراي، لأسباب مختلفة، ضمن القوى الكابحة لأي توجه حكومي نحو التعامل الإيجابي مع الطروحات السياسية لأي محاولة للوساطة.

ضبابية المشهد الإثيوبي

بالنظر إلى كل ما سبق تبدو صورة الخطوة القادمة ضبابية، فمن الملاحظ خفوت الحديث عن الوساطة الإفريقية مؤخراً، ورغم أن الحكومة استطاعت تحقيق شرط انسحاب قوات التيغراي من إقليمي عفر وأمهرة بما يضعها في موقع مريح نسبياً، وأعلنت إطلاق حوار وطني، فقد صرح دينا مفتي المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية عن عدم مشاركة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في هذا الحوار.

غير أن هذا الإعلان يحمل وجهاً ثانياً متمثلاً في أن توضيح دينا مفتي أن المؤتمر مخصص للقوى الشعبية سيفتح الباب أمام مشاركة نخب تيغراوية قد تمثل قناة خلفية للتفاوض غير المباشر بين الحكومة والقوى التيغراوية، بما يتجاوز عقبة الوضع القانوني للجبهة الشعبية المتهمة بالإرهاب حكومياً، كما كان لافتاً إعلان الأخيرة عن إطلاق مشاورات مع سكان الإقليم لتحديد شروط المفاوضات في إطار دعوتها إلى التفاوض مع الحكومة برعاية دولية من أجل السلام.

بعد عام من الحرب المدمرة يؤمل أن تؤدي الدروس المستخلصة من مفاجآتها إلى إدراك الطرفين صعوبة قضاء أي منهما على الآخر عسكرياً، ما قد يفتح كوة الأمل نحو حل سياسي لن يكون الوصول إليه من السهولة بمكان.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي