لحظة ميلاد

لم تكن صفعة عادية، طريقها لم يكن فى الاتجاه الطبيعى للحياة، ناهيك عن قوتها. كانت هذه الصفعة موجهة من الابن لوالده. لم يتألم الوالد، هل هناك وقت للتألم؟! شرود.. ذهول.. هوس.. لم يدر الأب أى حال أدركته.. يتذكر تفاصيل سنوات عمره الطويل دفعة واحدة.. أول شىء أمكنه مشاهدته بوضوح، لحظة صراعه مع أخيه الأكبر. 

فى هذه اللحظة ابنه البكر يصفعه على خده الأيمن؟!! تمايلت به الأرض، تخور قواه، ألهذا الحد تنهار قوانين الطبيعة؟! لا.. لم تتهاو قوانين الطبيعة.. أليس قانونها البقاء للأقوى؟! 

الإخوة الصغار للابن البكر يتصايحون.. ينظرون فى فزع إلى أخيهم الأكبر، وبنظرات ملأتها الحسرة يُصَعد الأبناء والدهم.. تصرخ بداخله الأبوة، تنهش لحمه فيدمى داخله.. ثمة شرخ كبير.. يتزايد.. أوشك البناء أن يتداعى.

لم تكن حرارة ارتطام الكف بالخد قد تلاشت، لا من الكف ولا من الخد، لم تكن الآهة قد صعدت من بين جنبات الأب كى تهبط إلى أعماق الابن الذى ينظر إلى والده مشدوهًا متذكرًا كيف غلبته الأهواء وأطاحت بمكامن نفسه، زوجته استولت على خلاياه.. أين أمه الآن؟

لم يشعر قط بأنه يكره زوجته قدر شعوره فى هذه اللحظة، ها هو يكره نفسه وزوجته أقرب إليه من نفسه..!! خيط واهن ذلك الموجود بينه وبين والده.. سِنى الغربة وهَّنت العاطفة، اضطرمت بداخله نيران بدت حمرتها القانية على وجنتيه.. تمامًا كوجنة والده اليمنى.

يسقط الابن الأكبر على أقرب مقعد.. لم يصدق الأب أن اللحظة الماضية كانت حقيقة.. أراد أن يعود بالذاكرة إلى ما قبل اللحظة، تخونه ذاكرته كما تخونه الطبيعة، يعود إلى تصارعه مع أخيه الأكبر.. لا يدرى سبب ارتكاز فكره حول هذه الجزئية بالذات؟

يشاهد نفسه يقف لأخيه موقف الند.. لحظتها يسمع صرختها تنهرهما.. يعود إلى لحظته عندما تدق أذنيه صرخة صغيرته وهى تشق ستار الصمت، واضعة كفيها الصغيرتين، مثل ورقتى زهرة نرجس، كى توارى وجهها.. تُنكر ما تراه.. أو ربما تخشى أن يصيبها بعض ما يحدث.. تعلو وجهها إحدى معانى الطفولة البريئة.. معنى طاهر نقى.. أسمى ما كان يريده الابن الأكبر فى هذه اللحظة هو أن يسأل الصغيرة:

■ بماذا تشعرين؟

يريد أن يتعلق بأى شىء، يدرك خطأه.. يحملق فى يده كأنه يحصى عدد أصابعه..

ينظر أحد الصغار إلى خد والده الأيمن.. يميز آثار بعض أصابع أخيه الأكبر.. تسرى بداخله قشعريرة.. تذهب الدماء تاركة وجهًا شاحبًا.. يبهت لونه.. أسمى ما يريده الأب أن يسأل الصغير:

■ بماذا تشعر؟

يتمنى الأب لو يهرب من شفقة الصغار.. يخرج باحثًا فى ذاكرته عن أى لحظة قوة أو حتى لحظة سعادة يكون قد مر بها.. لكن ذاكرته ذهبت إلى لحظة صراعه مع أخيه الأكبر.. أمه جالسة هناك فى الركن غارقة فى ملابسها السوداء، يسمع صوتها المغموس فى دمع الهوان: 

■ الله يرحم أباكم. 

أبوه؟!.. يحاول أن يتذكر ماذا كان يعنى والده بالنسبة له.. أو لأخيه ؟ كان القدوة.. القيم.. المبادئ..؟!.. صراعه مع أخيه.. لِمَ؟!! 

يلحظ الابن البكر أنه يتداعى.. لم يشعر بهوان من قبل مثل هذه اللحظة.. ما هو الشىء الذى فُقِدَ اليوم؟! 

ينظر الصغار إلى بعضهم البعض.. أراد البكر أن يفعل شيئًا.. تراخت عضلات جسده.. 

يرتبك الأب.. تتقلص عضلات وجهه وهو يتذكر صراعه مع أخيه على ميراث والدهما.. يرفع يده على أخيه الأكبر.. اليوم لا يوجد إرث.. وهو ليس أخًا أكبر خاطئًا!!

يتألم الصغير، يصدر أنينًا متواصلًا.. يشعر البكر بأنه أكثر راحة عندما يغمره الشعور بالذنب.. فهو ليس متبلد الحس.. يبحث الأب عن أبوته فلم يجدها.. ضاعت تلك الرابطة الواهية بين الابن وأبيه. 

ما حدث اللحظة رد فعل طبيعى لسوء التربية وضياع الأخلاق.. ليست حرية تلك التى تركت بكرى يرتع فيها.. إنها الضياع.. ينظر إلى الصغار.. تهدأ خلاياه.. مُحيت تقلصات وجهه.. تعلو بسمة وجه أحدثهم عهدًا بالبشر.

يحاول الأب أن يفلت من واقع لحظته، لكنه يخشى أن يعود إلى صراعه مع أخيه.. يفلح فى أن ينفلت إلى المستقبل.. يركز نظراته على آخر بذوره.. تعلو وجهه علامات أسى وأمل.. أسى لكونه انهار.. أمل.. يتعلق بصغاره.. هم مستقبله.. أرض خصبة لإثبات كيانه. 

يقرر الأب أن يترك المكان لابنه البكر.. يلملم شجاعته وما بقى له من كيان.. يرتج جسده.. يخرج.. يتعلق الصغار بطرف ثيابه.

 

تاريخ الخبر: 2022-01-01 20:24:43
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 53%
الأهمية: 66%

آخر الأخبار حول العالم

تأجيل أولى جلسات محاكمة "مومو" استئنافيا بسبب إضراب كتاب الضبط

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 12:25:50
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 56%

رسميا.. فيفا يعلن استضافة قطر ثلاث نسخ من كأس العرب

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 12:25:56
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 60%

رسميا.. فيفا يعلن استضافة قطر ثلاث نسخ من كأس العرب

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-15 12:25:52
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 61%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية