هناك شيء لطيف وساحر وخفيف الأثر في الروايات التي يغزلها لنا الكاتب الياباني الشهير هاروكي موراكامي، مثل وقع حبات المطر في هطولها الناعم الهش، حينما تبدأ بالقراءة فأنت لا تستطيع التوقف، وكأن قوى مجهولة تملك جاذبيتها الخاصة قد سحبتك في أعماقها للأبد، أو على الأقل حتى تصل نهاية الرواية بين يديك.

غير أنني في كل مرة أقرأ لموراكامي لا أملك إلا أن أتعجب من سبب قراءتي له أصلًا! فالمغزى في قصصه تائه تمامًا، وسير الحكاية تشعب لمليار طريق، وبعد تخبط وتتبع ومسيرة طويلة جدًا في عشرمائة حارة وزقاق مختلف تصل أخيرًا.. إلى لا شيء!

لا لغز اتضح، ولا مقاصد قد انكشفت، ولا دوافع عرِفت منابتها! توهان كامل! يذكرني الأمر حرفيًا بكثير من الأنميات التي اعتدت مشاهدتها، حيث أشعر بالحيرة والتخبط الذي يصيب الشخصيات يكاد يصيبني بالخبال مما أدى لعزوفي الكلي عن متابعتها مجددًا.

أمر عجيب! أأنا أمتدح الكاتب أم أنتقده؟! حتى هذه لا أستطيع تحديدها.

شيء واحد أنا متيقنة منه، هو أنني عاجزة عن التوقف عن القراءة له، ثمة عالم جديد مدهش تنفتح لي بواباته بمجرد أن أقلب صفحة غلاف إحدى رواياته لتتكشف لي كعروس في ثوبها الأبيض الناصع الصفحة الأولى.

إن كلماته ناعمة سلسلة وعذبة تشل القلب من فورها وتدخله في توهان لذيذ، كلذة أحلام اليقظة عند غفوة العصر، وسلاسته تلك لا تنحصر في وصف مشهد طبيعي خلاب أو مشاعر رقراقة متدفقة، لا إنها في كل شيء، في كل صفحة وكل حرف، وخلال مشاهد الرواية جميعها! في روايته سبوتينك الحبيبة مثلًا يصف مشهدًا بسيطًا لصباح باكر وذهاب بطلا القصة لمقهى قريب فيقول: "سرنا جنبًا إلى جنب في شارع الجامعة الكبير وتوقفنا بمقهانا المفضل، طلبت سوماير قطعة الكعك المعتادة مع القهوة، كان سماء يوم أحد صافياً قبيل نهاية شهر نيسان، وكانت محلات بيع الزهور مكتظة بالزعفران والزنبق، هب نسيم ناعم بعث عبق الأشجار الصغيرة على مهل، عقدت يدي خلف رأسي وراقبتها تتناول كعكتها ببطء ولهفة " قد يكون مشهدًا لا معنى له لكنه يغرقني في تفاصيل جميلة للغاية.

من العوامل الجذابة في روايات هاروكي هي شخصية البطل حيث يكون دومًا مخفقًا في كثير من جوانب حياته لكنه يتحلى بشجاعة خلاقة وشهامة نادرة وقلب عطوف صادق، وفي معظم الحالات يكون قد سئم عمله وغالبًا يقرر أخذ إجازة طويلة يغربل فيها حياته وينظر فيم أنفق عمره حتى الآن وماذا مضي وماذا بقي وكيف سيكمل من الآن فصاعدًا؟ ويتخلل هذه الإجازة عادة عملية بحث متواصلة عن امرأة كانت ذات يوم في الماضي ويصيبه شجن وحنين بينما الذكريات تنساب من ذاكرته أثناء بحثه، في روايته الأشهر الغابة النروجية يفتش البطل وهو شاب جامعي ترك جامعته لأجل غير مسمى عن فتاة هو الآخر، وكانت الرواية قد بدأت بتصوير للغرف الجامعية التي تغص بالشباب الثائرين المتأثرين بشتى أنواع الروايات الأجنبية وبالحركات السياسية الدائرة في اليابان، ويترك البطل كل هذا لينطلق في رحلة طويلة عبر البلاد إلى مصحة نفسية عرف أن زميلته وصديقة طفولته ترتادها، وكانت أختها الكبيرة قد انتحرت وكذلك صديقهما المشترك، ولا أدري حقيقة ما حكاية اليابانيين مع حب الانتحار!

خلال الرحلة يكتشف البطل أموراً كثيرة عن نفسه وعمن حوله، قصصًا وحكايا تُسرد طوال الوقت، يكتشف خبايا عن الحياة، وعن صراع المرء كي يعيش ويُحِب ويُحَب، وعن كفاح كل منا كي يجد لنفسه موطئ قدم وبصمته الخاصة في خضم هذه الدنيا المزدحمة.

ثمة فكاهة كذلك مرحة في كل أعمال موراكامي فضلًا عن نكهة محببة من الغموض، حيث تحصل دومًا أمورًا عجائبية لأبطال قصصه ويظل غالبها معلقًا دون تفسير، مثل كافكا على الشاطئ، بطلها يهرب من منزله وينزل في مدينة غريبة عنه وتبدأ أمور غريبة تحصل له، فوالده يقتل وقاتل والده يهرب في حين تظهر دماء أبيه الميت على قميصه هو! هذه الرواية بالذات فيها من التخبط دون جدوى ما لم أستسغه مطلقًا!

رقص رقص رقص كانت رواية جميلة له، وفيها مسحة رعب ولغز من ماض بعيد زادتها جمالًا، كما أنها تلقي الضوء على حال كثير من فئات المجتمع الياباني، وفي روايته ما بعد الظلام يحولنا موراكامي إلى كاميرا ليلية تتنقل بحرية وترينا خفايا لا يمكن لسوانا أن يراها، في فكرة ساحرة راقت لي للغاية، ونرى ليل اليابان المدلهم عن قرب حقيقي.

إن هاروكي يصف اليابان بشوارعها وحاراتها ولياليها وصباحاتها، وبما خفي عنا من أناسها، أفكارهم وتصوراتهم ونتف من حياتهم وصراعهم مع أنفسهم والمجتمع من حولهم، ربما لهذا رواياته لها ذلك الرواج المدوي في أنحاء العالم، لصدقها في نقل حكاياتهم ودقتها في وصف تفاصيل بلاده، لأن الرواية ببساطة إن كانت من القلب فهي تمس قلوبًا كثيرة لا تحصى وتلجها بعفوية دونما عناء.