ميزانية المملكة 2022 – (الجزء الأول) – (بين الاستدامة .. والتحوُّلات الهيكلية)


مع بداية كلِّ سنةٍ ماليةٍ، تَنْعَكِسُ الظروف المحلية الاقتصادية والمالية على أرقام ومخطَّطات الميزانيات العامة، ويَحْدُثُ نوعٌ من التجاذب مع الطموحات المرسومة خلال وضع الميزانية.

أي أنَّ عملية وضع الميزانية هي عبارةٌ عن فرض صيغة مالية واقعية على الطموحات النظرية.

وفي ظلِّ الظروف الصحية غير المُطَمْئِنَةِ عالمياً بسبب تحوُّر فيروس كوفيد-19، وتحذير منظمة الصحة العالمية عن انتشارٍ واسعٍ لموجةٍ جديدةٍ، قد تُؤثِّرُ سلباً في حركة التعاملات التجارية، وفي قوة المراكز المالية للمشاريع الاستثمارية حول العالم، في ظلِّ هذه الظروف، يبدو التفاؤل مَشُوبَاً بالحذر لدى واضع الميزانية العامة لأية دولةٍ.

وبشكلٍ خاصٍّ الدول المنتجة للنفط، والسبب أنَّ أسعار النفط تتأثَّر بشكلٍ مباشرٍ بتحرُّكات العرض والطلب، فإذا انتشرت موجةٌ واسعةٌ من الإصابات بالفيروس، سيؤدِّي هذا الأمر إلى فرض إجراءات الإغلاق على بعض الفعاليات الاقتصادية من جديد؛ وهكذا ستقلُّ دورة الإنتاج في المصانع، وتقلُّ حاجتها للنفط؛ فينخفض الطلب، وينخفض معه سعر البرميل، ثم يظهر التأثير السلبي في ميزانيات الدول النفطية على شكل انخفاضٍ في الإيرادات مع ثباتٍ في المصروفات.

أمَّا في المملكة، فالطموح كان منذ صدور رؤية 2030 هو التحوُّل نحو الإيرادات الاستثمارية التشغيلية التي تضخُّ السيولة بغضِّ النظر عن تقلُّبات أسعار النفط، وهذا سيمنح المملكة نوعاً من الاستدامة على صعيد الموارد.

ومع نهاية 2021، أصدرت وزارة المالية برنامج الاستدامة المالية بياناً عن الميزانية العامة للدولة 2022، وقد جاء في هذا البيان فقرةٌ مميزةٌ تحت عنوان: “الممكنات المالية والاقتصادية” (ص53).

تدلُّ هذه الممكنات على الركائز الأساسية للاقتصاد السعودي، وقد جاءت كما يلي (ص4):
“استكمال الإصلاحات المالية لضمان استدامة المالية العامة من خلال تنويع مصادر الإيرادات ورفع كفاءة النفقات”؛ وهنا نَعُودُ إلى فكرة التحوُّل نحو الاقتصاد الاستثماري غير الريعي، أي غير المُعْتَمِد على إيرادات النفط.

وفي الحقيقة، تبدو المملكة على أنَّها قد قطعتْ أشواطاً طويلةً في هذا المجال، حتى باتت قطاعاتٌ اقتصاديةٌ جديدةٌ تَظْهَرُ لم تكنْ موجودةً في السابق، مثل قطاع التكنولوجيا المالية السعودي مثلاً.

لكن المملكة تُعتَبَر من أكبر مُنتِجِي النفط في العالم، والتحوُّل نحو الاستدامة لا يَعنَي إهمال المورد المالي الضخم الآتي من العائدات النفطية، بل إنَّ الفوائض في الميزانية التي تُشكِّلها العائدات النفطية تَذهَبُ إلى الاستثمارات العامة؛ أي إلى الصندوق السيادي السعودي الذي يَحفَظُ توازن المركز المالي للدولة، ويَضمَنُ –بإذن الله- مستقبل الأجيال القادمة.

وعلى صعيد الأرقام، فإنَّ نسبة مساهمة العائدات غير النفطية في الميزانية العامة قد بلغت عام 2019 ما نِسبَتُهُ 36%، أي أنَّ نسبة العائدات النفطية لا تتجاوز 64% (ص54)؛ وهو رقمٌ جيِّدٌ بالنظر إلى عدد السنوات القليل التي احتاجها تحقيق هذه النسبة.

سينعكس هذا بالطبع على تضاؤل العجز في ميزانية المملكة، والذي بَلَغَ أقلَّ نسبةٍ في عام 2021 بما نِسبَتُهُ 2.7% من الناتج المحلي الإجمالي (ص55)، ويبقى الطموح هو العودة إلى الفائض في عام 2022 إن شاء الله، حيث تلعب الإيرادات غير النفطية دور البطولة في هذا الطموح.

“تمكين القطاع الخاص من خلال برامجٍ مُخصَّصةٍ لدعم نشاطه وتعزيز مُساهَمَتِهِ في الاقتصاد الوطني والمشاريع والبرامج التي تَقُومُ بها الصناديق التنموية”؛ وهي ركيزةٌ أساسيةٌ في أيِّ اقتصادٍ حديثٍ ومُتقدِّمٍ، فالقطاع الخاص يُمثِّل واحدةً من أساسات البناء الاقتصادي، فالقطاع العام أو المشترك لوحده لا يستطيع بناء اقتصادٍ ناجحٍ وحيويٍّ، لأنَّ عقلية القطاع الخاص هي الأقرب إلى رغبات المستهلكين، وهي التي تأتي بالاستثمارات الخارجية والفوائض من العملات الأجنبية.

“تنفيذ تحولاتٍ هيكليةٍ أوسع، ذات أبعادٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، تَدْعَمُ البُعْدَين الأوَّلَيْن وتُساهِمُ في تعزيز ديناميكية الاقتصاد ومُوَاكَبَتِهِ للمُتَغيِّرات العالمية المُتَسَارِعَة”؛ وهو بالضبط ما تحتاجه عملية التحوُّل نحو الاقتصاد الاستثماري التشغيلي.

حيث إنَّ التحوُّل في شكل الاقتصاد وطبيعته، يكون أحياناً أصعب من بناء اقتصادٍ جديدٍ؛ لأنَّ عملية التحوُّل يجب أن تكون مدروسةً وأن تُرَاعِي طبيعة الموارد والإمكانيات.

والخطر قد يكون أكبر في عملية التحوُّل الاقتصادي عنه في عملية البناء؛ لأنَّ عملية البناء ستظهر على شكل منجزاتٍ يمكن أن تُلَبِّي الطموح أو تكون أقلَّ منه، أمَّا عملية التحوُّل، فهي تتضمَّن تغييراً في اقتصادٍ قائمٍ له ركائزٌ قديمةٌ، ويعمل في دوائرٍ ومنظومةٍ موجودةٍ فعلاً؛ لذا يجب التعامل مع هذه المنظومة بحذرٍ وبخطواتٍ جراحيةٍ دقيقةٍ، حتى تؤدِّي إلى نقل الاقتصاد نحو صورةٍ مُتقدِّمةٍ ناجحةٍ.

بناءً عليه، مواكبة المتغيرات العالمية المُتَسَارِعَة، وهو من الهموم الاقتصادية التي تحتاج إلى مواكبةٍ لحظيةٍ، ومُتابَعَةٍ ليس على صعيد الاطِّلاع والتجربة فقط، بل الاستثمار والتمكين، حيث يوجد الكثير من الابتكارات المالية مثلاً التي تحتاج إلى صيغة نظامية حتى يتم استغلالها مثل العملات الرقمية المشفرة.

وفي الواقع، تُعتَبُر التحوُّلات الهيكلية التي نصَّت عليها ميزانية المملكة إحدى وسائل التحوُّل الاقتصادي، والتي تَطَالُ المنظومة المُجتَمَعِية وليس فقط الاقتصادية؛ فمثلاً يجب أن يكون المواطن على قَدْرِ المسؤولية، وأن تَظْهَرَ سياسات الادِّخار في مخطَّطات الأفراد، وأن يكون ضمن ميزانية كلِّ شخصٍ ما يَكفِي لسداد التزاماته الضريبية؛ كلُّ هذا يصبُّ في خانة نجاح عملية التحوُّل الاقتصادية وتغطية العجز، ثم الانطلاق نحو الفائض الآتي من الاقتصاد المتحوِّل المُستجد.

* نقلاً عن صحيفة "مال".

تاريخ الخبر: 2022-01-04 11:16:51
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 95%
الأهمية: 97%

آخر الأخبار حول العالم

أمطار مصحوبة برياح مثيرة للأتربة والغبار على 7 مناطق السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-05 06:23:35
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 55%

الرئيس الفرنسي: الحوار مع روسيا يجب أن يستمر

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-05 06:22:09
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 53%

هجوم إسرائيلي على الضفة الغربية.. واستشهاد 5 فلسطينيين

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-05 06:22:19
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 67%

دعمًا لفلطسين.. فصائل عراقية تستهدف ميناء حيفا في إسرائيل

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-05 06:22:15
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية