في مثل هذا الأسبوع قبل عام، شدّت البعثة البريطانية الرّحال من بروكسل بعدما أغلقت مكاتبها نهائياً في مقرّ الاتحاد الأوروبي. فتحرّكت الأمور عند مفترق الطرق بين القارّة والجزيرة بعد وئامٍ استمرّ ثمانية وأربعين عاماً. ويعتدّ جلّ القوميين في بريطانيا بأنّ بلادهم تمثّل "نصف القارة الأوروبية" بفعل التشبّع بتاريخهم الإمبراطوري في القرنين التاسع عشر والعشرين. لكنّ عدداً من مثقَّفي اليسار يجادلون بما يبدو انحباساً في الدور البريطاني في الاستراتيجية الدولية، ضمن سجال مفتوح منذ بداية الألفية الجديدة: هل بريطانيا دولة أوروبية من حيث الهوية والثقافة واستشراف المستقبل؟

في كتاب مثير بعنوان "تركيب بريطانيا الحديثة"، أعلن المؤرخ أندرو مار Andrew Marr "موت" بريطانيا. وجادل بيتر هيتشنز Peter Hitchens بأنّ بريطانيا "مُلغاة". ويتمسّك أنتوني بارنيت Anthony Barnett في كتابه "هذه المرة: ثورتنا الدستورية" بأن معارضة بريطانيا لأوروبا هي في الحقيقة "معارضة إنجليزية لأوروبا".

زواج مهدَّد بالطلاق

هي علاقةٌ غزل متقلبةٌ تعود إلى انضمام بريطانيا إلى المجموعة الأوروبية عام 1973، لكنها أجرت استفتاء حول مصير تلك العضوية في الخامس من يونيو/حزيران 1975، وأيّد أكثر من ثلثي البريطانيين استمرارها بنسبة 67.2 في المئة مقابل معارضة 32.8 في المئة. وعُزِيَت هذه النتيجة وقتها إلى تأييد حزب المحافظين وتعديل متوسّط الدخل في بريطانيا، فيما أظهرت المناطق الفقيرة التي كانت توالي حزب العمال تأييداً أقلّ لفحوى الاستفتاء.

استمرّ النقاش لعقود متتالية حول مدى الجدوى من "أَوْرَبة" بريطانيا. ويعتقد البعض أنه لا يمكن إنقاذها إلا بروابط أكبر مع أوروبا. لكنّ آخرين يقولون إنّه لا يمكن إنقاذها إلاّ بتقليص روابطها مع القارة. ويقول هوغو يونغ Hugo young في كتابه "هذه المؤامرة المباركة" This Blessed Plot، إنّ السّؤال الأساسي هو "هل يمكن لبريطانيا... أن تقبل حقّاً أن تكون دولة أوروبية ضمن مصيرها الحديث؟"، لكن ماذا يعني هذا؟ إذا كان الاسم "بريطانيا" صعب التحديد، فإن صفة "أوروبية" تكون أكثر فضفاضة.

وعد رئيس الوزراء البريطاني السّابق ديفيد كاميرون عام 2013 بإجراء استفتاء وطني جديد خلال فترة لا تتعدّى ثلاث سنوات للمفاضلة بين "البقاء" و"المغادرة" والانفصال عن الاتحاد الأوروبي. وكان مقتنعاً بأن أغلبية البريطانيين سيختارون "البقاء". لكن سياق الأحداث الدولية خصوصاً هجرة السوريين والعراقيين والأفغان كان على أشدِّه خلال عام 2015، مما جعلها مثار غضب سياسي في جميع أنحاء أوروبا. وألقت ظلالها أيضاً على النقاش العام في بريطانيا عشية التصويت على الاستفتاء الجديد في الثالث والعشرين من يونيو 2016. وأظهرت النتائج تأييد خيار الانسحاب بنسبة 52 في المئة من أصوات الناخبين.

واليوم يلوّح رئيس الوزراء بوريس جونسون بشعار "بريطانيا عالمية" Global Britain، لتكون أكثر مرونة وتتمتع بعلاقات أقوى مع الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى مثل أستراليا والهند وكوريا الجنوبية، وهي عبارة لا تبتعد في فحواها عن شعار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب "لنجعل أمريكا عظيمة من جديد". ويصبو جونسون أيضاً إلى تعزيز العلاقات البريطانية-الأمريكية ضمن تكتل أوكوس AUKUS الذي يطمح إلى احتواء الصين على حساب العلاقات التاريخية بين ضفّتَي الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة. بيد أنّ تحديات اقتصادية تنال من الأهمية الدولية لبريطانيا، وتعيد السؤال عن مدى الوجاهة والحسّ الاستراتيجي في خيار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في المقام الأوّل.

لعنةٌ.. خلف القومية البريطانية

كانت أوروبا أهمّ سوق للتصدير وأكبر مصدر للاستثمار الأجنبي بالنسبة إلى بريطانيا، بل وساعدت عضوية الاتحاد الأوروبي العاصمة لندن على ترسيخ مكانتها كمركز مالي عالمي. وبين 1973 و2021، حظيت الشركات البريطانية بحرية نقل البضائع من الدول السبع والعشرين وإليها ضمن الاتحاد الأوروبي، دون تسديد ضرائب أو تعريفات جمركية، فضلاً عن حرية تنقُّل الأشخاص بين الجزيرة والقارة.

تَجنَّب الاتفاق الذي توصلت إليه لندن وبروكسل أواخر 2020 الخوض في التعريفات الجمركية أو محاصصة البضائع المنقولة. لكن التجار البريطانيين يواجهون حاليّاً صعوبات إدارية وتأخيرات غير متوقعة، مما يؤدي إلى تعفُّن المنتجات والبضائع على ظهر الشاحنات. ووفقاً لوكالة إحصاءات الاتحاد الأوروبي Eurostat، انخفضت صادرات بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي بنحو 15% في الأشهر العشرة الأولى من العام الماضي، فيما انخفضت صادراتها من الأغذية الزراعية بأكثر من الربع. وتزداد تحديات كثير من المرافق الإنتاجية، بما فيها شركات السيارات البريطانية، التي تعتمد على الموردين في جميع أنحاء أوروبا. أما قطاع الخدمات الذي يمثل نحو 80 في المئة أو أكثر من النشاط الاقتصادي البريطاني ولا يشمل فقط الصناعة المالية فحسب، بل وأيضاً المحامين والمهندسين المعماريين والاستشاريين وغيرهم، فيبقى تحت رحمة القرارات البيروقراطية من قبل المنظمين الأوروبيين.

لا تتوقف لعنة الاقتصاد السياسي عند هذا الحد بعد عام من استكمال بريكست، فقد تَوصَّل مكتب مسؤولية الميزانية، وهو هيئة رسمية مستقلة في بريطانيا، إلى أن التجارة مع الاتحاد الأوروبي تعرضت لضربة حادَّة حتى مع استئناف الحركة التجارية مع الدول الأخرى والتعافي من آثار جائحة كورونا، وأن الاقتصاد البريطاني سيكون أقلّ إنتاجية بنسبة 4 في المئة منه لو استمرت عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. ويتعين الانتظار ثماني سنوات أخرى لمعرفة ما إذا كان الدخل الفردي للبريطانيين سيتقلص بمبلغ 4300 جنيه إسترليني (5780 دولاراً) بحلول عام 2030.

لكن رئيس الوزراء جونسون وبقية المدافعين عن جدوى بريكست يواصلون احتفاءهم بفكرة التغيير والنفخ في سردية "بريطانيا العالمية" كمتخيَّل قومي. لكنّه مفهومٌ يظلّ مجرّد خطاب نظري في أعين المنتقدين. ويخلص مكتب مسؤولية الميزانية إلى أن هذا الشعار ليس له بالكاد تأثير في إبرام صفقات تجارية جديدة لصالح بريطانيا. وتزداد الخلافات بين باريس ولندن حول حقوق الصيد البحري، بعد أن احتجزت فرنسا سفينة صيد بريطانية في أكتوبر الماضي بسبب نزاع حول تراخيص لعشرات السفن الفرنسية. في المقابل أرسلت بريطانيا سفناً تابعة للبحرية الملكية ردّاً على حصار احتجاجي فرضته قوارب الصيد الفرنسية قبالة جزيرة جيرسي في مايو/أيار الماضي.

بريق بريكست اليوم.. وعودة جروح الأمس

تتسبّب لعنة الانكماش الاقتصادي في تأجُّج لعنة أخرى بتجدُّد السّجال حول السيادة والنزاع القديم بين حكومة لندن وأيرلندا الشمالية، إذ يوقظ تنفيذ بريكست بعض المواجع القديمة بفعل تضارب التوجهات السياسية داخل مكوّنات المملكة المتحدة. وتتمتع أيرلندا الشمالية بحدودها البرية الوحيدة مع الاتحاد الأوروبي من خلال الحدود الحساسة سياسياً بطول 310 أميال مع جمهورية أيرلندا. فقبل اتفاق "الجمعة العظيمة" الذي تَوسَّط فيه السيناتور الأمريكي جورج ميتشل عام 1998، كان الآلاف من الأيرلنديين قد لقوا حتفهم بسبب الصراع الطائفي بين البروتستانت والكاثوليك وتقلُّب العلاقة من حكومة لندن.

قبل عام تفادت محادثات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إعادة فرض عمليات التفتيش على الحدود، بل تمّ الاتفاق على أن تواصل المنطقة اتباع عدد من القواعد الأوروبية التي تضمن عبور الشاحنات الحدود الأيرلندية بحرِّية، مع اعتماد أوراق جديدة لنقل البضائع بين أيرلندا الشمالية وبقية المملكة المتحدة. ودفع التغير في الإجراءات الإدارية الشركات البريطانية إلى الحدّ من التوزيع في أيرلندا الشمالية. وأجّلت بريطانيا بعض عمليات التحقق إلى أجل غير مسمى، ضمن مدّ وجزر سياسي أدَّى إلى بدء بروكسل تنفيذ إجراءات قانونية، ثم تعليقها لاحقاً.

يساهم الوضع الجديد في تصاعد التوتر الطائفي واندلاع أعمال شغب في الربيع الماضي، وهي مسألة أثارت نقاشات حادَّة بين رئيس الوزارء جونسون والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قمة الدول السبع الصناعية في يونيو/حزيران الماضي. وتَردَّد وقتها أن الرئيس الأمريكي بايدن، الأيرلندي الأصل، أثارها هو الآخر على انفراد مع الجانب البريطاني. ويكمن الخلاف الراهن في أن الموقف البريطاني يقول إنه يتعيّن التخلِّي عن الجزء المعروف باسم "بروتوكول أيرلندا الشمالية" من اتفاقية بريكست، إذا تعذّرت إعادة صياغته. لكن المسؤولين الأوروبيين يسعون للتوصُّل إلى حلول إبداعية، لكنهم لن يعيدوا التفاوض على البروتوكول.

سكوتلاندا.. خيارُ أوروبا وإنْ كرهت لندن

عارض الناخبون في سكوتلاندا عملية بريكست بنسبة 60 في المئة من الأصوات في استفتاء عام 2016، بعد عامين من استفتاء آخر أظهر تمسُّك الأغلبية بعدم الانفصال عن المملكة المتحدة. وما يزيد أرق حكومة جونسون حاليا مستوى شعبية الحزب الوطني الاسكتلندي المؤيد لفكرة الانفصال ودوره المركزي في السياسة المحلية، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الحصول على الأغلبية بفارق مقعد واحد في برلمان غلاسكو في الانتخابات العامة في سكوتلاندا في مايو/أيار الماضي، فضلاً عن مستوى تأييده القويّ من قبل الأحزاب الصغيرة. وهذا يُبقي تحدياً آخر للندن بعد بريكست.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي