ولم يكن يُتوقع قبل الانتخابات أن يحقق الحزب الاشتراكي الديمقراطي نجاحاً كهذا. على الجهة الأخرى، حقق تحالف حزبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي (كانت ترأسه أنجيلا ميركل) والاتحاد الاجتماعي المسيحي، أسوأ نتائج انتخابات في تاريخهما بنسبة 24.1 بالمئة.

وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، اختُتمت بنجاح محادثات استمرت شهرين بين 3 أحزاب من أجل تشكيل حكومة ائتلافية جديدة، عُرفت باسم "ائتلاف إشارة المرور" في إشارة إلى ألوان الحزب الاشتراكي الديمقراطي (أحمر)، وحزب الخضر (أخضر)، والحزب الديمقراطي الحر (أصفر). ووُقّعت اتفاقية الائتلاف المكونة من 177 صفحة من قبل الأحزاب الثلاثة في 7 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وفي اليوم التالي انتخب البرلمان الألماني مرشح الحزب الاشتراكي الديمقراطي أولاف شولتس مستشاراً للبلاد، ليكون المستشار الاتحادي التاسع للبلاد.

وهكذا، انتهى عهد المستشارة أنجيلا ميركل الذي امتد 16 عاماً، وانتقل تحالف الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي لقيادة المعارضة بالبرلمان.

وتُسلَّط الأضواء حالياً على طبيعة أهداف السياسة الداخلية للحكومة الفيدرالية الجديدة، فيما تجري تقييمات سطحية حول ملف السياسة الخارجية. ويُقال إن للحكومة الألمانية الجديدة أهدافاً متواضعة في السياسة الخارجية بشكل عام. بيد أنه من الممكن الخروج ببعض الاستدلالات والتقييمات بشأن هذا الملف من اتفاقية الائتلاف والبرامج الانتخابية للأحزاب المشاركة به.

في البداية، يُلاحَظ أن الاتحاد الأوروبي وأهميته يأتيان في مقدمة أهداف السياسة الخارجية للحكومة الألمانية الجديدة. كما يأتي في مقدمة الأهداف مواصلة العلاقات مع الولايات المتحدة بصورة قوية وتطويرها وتعزيزها. ويلاحَظ استمرارية عامة في السياسة الخارجية الألمانية، إذ تم التعامل مع ملفات مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "ناتو" بخطابات لا تختلف كثيراً عن مثيلاتها في الماضي.

فمثلا يُشار إلى أن الناتو يحتل مكانة مركزية لا غنى عنها على صعيد الأمن. كما تُؤكَّد الرغبة بصفة عامة في العمل مع الكتلة الغربية بشأن السياسة الأمنية المتعلقة بالسياسة الخارجية.

عسكرياً، تطالب اتفاقية الائتلاف بتشديد الرقابة في الفترة المقبلة على صادرات الأسلحة لكن دون توضيح وسائل تطبيق ذلك. وفي هذا الصدد ينبغي عدم نسيان أن صادرات الأسلحة تمثل أهمية كبيرة للاقتصاد الألماني، وتم تحطيم أرقام قياسية في صادرات الأسلحة في عهد الحكومة السابقة.

كما أكدت الاتفاقية بصفة عامة التعاون مع فرنسا، فيما يُتوقع أن تبرز الاختلافات بين الجانبين في السنوات المقبلة حول استراتيجية إغلاق مفاعلات الطاقة النووية. لأنه بينما لا تزال فرنسا تتبع سياسة الاستفادة من الطاقة النووية، تواصل ألمانيا تنفيذ خطتها للتخلص من المفاعلات النووية.

ويظل التساؤل عن الدور المتوقع أن تلعبه ألمانيا في الأزمات الدولية، الذي طالما شغل الساحة الألمانية في عهد ميركل، هو الأمر الأهم على صعيد السياسة الخارجية للحكومة الجديدة. وفي هذا الإطار، أكدت اتفاقية الائتلاف أهمية بقاء العمليات العسكرية للجيش الألماني خارج البلاد كملاذ أخير يمكن اللجوء إليه. لكن الاتفاقية لم تشمل بوضوح ما روجع حزب الخضر في حملته الانتخابية في ما يتعلق بأنشطة الجيش خارج البلاد.

كما أبرزت الاتفاقية هدف تعزيز التنوع في السياسة الخارجية في الفترة المقبلة، لكن من الضروري إلقاء نظرة فاحصة على أهداف السياسة الخارجية إزاء بعض الدول والمناطق المحددة. فمثلاً تنصّ الاتفاقية على أنه في العلاقات مع الصين ينبغي أن يحتلّ التنسيق مع أوروبا أهمية كبيرة. فهناك رغبة في مواصلة العلاقات مع الصين كشريك ومنافس بالمعنى التنافسي والنظامي. كما تفيد الاتفاقية بأن سياسة الاتحاد الأوروبي والصين ستؤخذ كأساس للاستراتيجية الألمانية الشاملة المطلوب اتباعها مع بكين. كما أكدت الاتفاقية أيضاً ضرورة مناقشة انتهاكات حقوق الإنسان في الصين بشكل "علني"، ويُرجَّح أن يتعامل حزب الخضر مع هذه الأمور بلغة أكثر وضوحاً.

وعلى هذا النحو، يُتوقع أن يبرز بعض الاختلافات في المستقبل بالحكومة الألمانية الجديدة مقارنة مع حكومة ميركل، إلا أنه يُتوقع أيضاً مواصلة النهج العقلاني والبراغماتي لمستشار البلاد الحالي القادم من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، تماماً كما كانت تفعل ميركل.

وإلى جانب التعاون مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تبرز أهمية العلاقات مع روسيا على صعيد الأهداف المستقبلية للسياسة الخارجية الألمانية. وعلى الرغم من أن هذه القضية ترتبط غالباً بالسياسات الأمنية، فإنها تهمّ أيضاً سياسات الاقتصاد والطاقة.

وأكّدت اتفاقية الائتلاف سياسة الحوار مع روسيا، وأشارت أيضاً إلى نقاط الخلاف بين الجانبين. فمثلاً تمّت الإشارة إلى وحدة أراضي أوكرانيا، إضافة إلى القانون الدولي وحقوق الإنسان، فيما تجاهلت الاتفاقية أي إشارة إلى مشروع "نورد ستريم 2" المثير للجدل المشترك بين البلدين لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا. واكتفت بتوضيح أن "قانون الطاقة الأوروبي" سيكون سارياً في ألمانيا أيضاً، وذلك في قضايا الطاقة-السياسة فقط.

وهكذا يخيّم الغموض تجاه ما إذا كانت ستطرأ تغييرات على هذا المشروع في الأيام المقبلة وما إذا كان سيتمّ تشغيله أم لا رغم اكتماله وجاهزيته للعمل. وبينما يعارض حزب الخضر المشروع بشكل كامل، فإنه يرجّح أن يتبنى المستشار شولتز نهجاً عقلانياً في النهاية ويشغّل المشروع.

كما أشارت اتفاقية الائتلاف إلى ملفات سوريا واليمن وليبيا والعراق، ولفتت إلى الأزمات الإنسانية في هذه البلدان بشكل سطحي، وذكرت أنها تدعم بشكل عامّ محادثات السلام التي تُجريها الأمم المتحدة في هذا الشأن. وخَلَت الاتفاقية من أي أهداف ملموسة في هذا الإطار سوى تأكيد دعم "مؤتمرات برلين" حول الوضع في ليبيا.

وقضية أخرى من المحتمل أن تبرز في السنوات القادمة في ما يتعلق بالسياسات الخارجية والأمنية الألمانية، ألا وهي تسلُّح ألمانيا بالطائرات بلا طيار. فهذا الهدف لم يتحقق في الحكومات السابقة بسبب تردُّد الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فيما أكدت اتفاقية الائتلاف أنها تهدف إلى التسلح بالطائرات المسيرة، مع مراعاة الشؤون المتعلقة بالسياسات الأخلاقية والأمنية.

وحول العلاقات مع تركيا، رجحت الاتفاقية استخدام لغة انتقادية إزاء أنقرة مع تأكيد أنها ستظلّ شريكة مهمة لحلف الناتو وجارة للاتحاد الأوروبي، كما أوضحت أنه لن تُفتَح أو تُغلَق فصول جديدة حول مفاوضات حصول تركيا على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، لافتة إلى أن الحوار بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة سيستمر، بما يرجّح استمرار سياسة حكومة ميركل تجاه تركيا المتواصلة منذ عام 2018.

فيما لا يُعرف حالياً ما إذا كان الائتلاف الجديد سيُجري تغييرات بشأن التعاون مع تركيا بشأن قضية اللاجئين أو تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي، غير أن حصول حزب الخضر على حقيبة وزارة الخارجية يشير إلى أن بعض الاختلافات قد يطرأ على الخطابات الألمانية، لكن لا ينبغي نسيان أن المستشار الاشتراكي-الديموقراطي شولتز سيكون بصفة عامة الفاعل الرئيسي المحدد للسياسة الخارجية.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي