وصفْو الودِّ هنا، بمعنى "أن يعيشَ له"، يسبِّحُ بحمده، ويمتهنُ التَّرقيع لكلِّ العوار الذي يحيطُ به، يتحدثُ عندما يُؤمر، ويصمتُ عندما يرومُ الحاكمُ صمته!

حينما يتوقفُ العالِم عن المداهنةِ في لحظةٍ فارقة، ويتحدثُ عندما يُرادُ له الصَّمت، ويبدأ الانحياز لقِيمه، ومبادئه، مشيحاً عن هوى الحاكم، رافعاً يديه بوضوحٍ في وجه التَّجاوز القِيمي، عندما يفعل كل ذلك، يجرُّ على نفسه أسباب الهلاك، ليقفَ الحاكمُ موقف الضَّائق المخنوق من عقوقِ غرٍّ صغير ما كان يحسن به الاقتراب ممن حقه الامتناع!

يستخدمُ الحاكمُ سُلَطَه في اغتيالِ حقه الشَّخصي في الحياة، فيسعى لإذلاله، وتلويث سيرته، وهدْم مسيرته، ليوضعَ في أذهانِ النَّاس في بقعةٍ محاطةٍ بالشُّبهة، فإن ارتدعَ فقد كفيَ منه. وإلا قذفه في البئر، تقييداً لحريته، وإسكاتاً لقلمه، وانتقاماً منه، لأنه وضعَ رأسه برأسِ من لا ينبغي أن تُرفعَ بحضرته الرؤوس!

تصل العلاقة بينهما إلى طريقٍ مسدود لا منفذَ إلى النُّورِ منه، وهنا يقول الحاكم كلمته الأخيرة، لتصل العلاقة بينهما إلى العدم، صمْت أحدهما إلى الأبد، إذ لم يُجدِ نفعاً، اغتيال حقِّه في الحياة، وتغييبه عنها خلف قضبانِ النِّسيان، كان لزاماً أن يغادرها غير مأسوفٍ عليه، وهنا يأتي إلصاقُ التهم، ورميه بكلِّ البوائق، ثمَّ يُحالُ إلى عَالِمٍ آخَر معمَّد بالذُّل، ليقضي بوجوبِ رحيله عن الحياةِ لتصفو الحياة لمولاه!

"إنَّ علاقتك بالحاكم تكونُ على وجوهٍ ثلاثة: إمَّا أن يدخل عليك وهذا أهونها، وإما أن تدخل عليه وهذا شرُّها، والوسط بين ذلك، أن تكون العلاقة حسب الحاجة"

الإمامِ أبي حامد الغزالي

العلماء جلساء السلطان

وردَ في "العقْد الفريد" لابن عبد رَبِّه، مما جرى على لسانِ الحكماء، قولهم: "من تَعرَّض للسُّلطانِ أرْدَاه، ومن تَطَامَنَ له تخطَّاه. وشبَّهوه في ذلكَ بالرِّيح العاصِفة التي لا تضرُّ بما لانَ من الشَّجر، ومالَ معها من الحشيش، وما استُهدِفَ لها من الدَّوحِ العظام قصفته". وهي عبارة موجزة تختصر الكثير من الحديثِ عن العلاقة بينَ الحاكمِ والمحكوم.

ومن مفارقاتِ ما يحدث أن يضرِبَ الحاكمُ عالِماً بآخر، إذ يعمد إلى تقويةِ المقرَّبِ منه، فيخلع عليه الألقاب، ويقربه من دائرةِ الضَّوء، لا لشيء إلا لاستخدامه بيْدَقاً يضرب به من لا يُؤْمَن جانبه، وفي أوقاتٍ أخرى يصل هذا البيْدق إلى مرحلةِ الاحتراق، مثل "نموذج حسُّون" في الحالةِ السورية المعاصرة، فيتحول إلى عبء ثقيل على الحاكمِ ذاته، فلا مناصَ من التَّخلص منه، عن طريقِ عزْله وإطفاء الأضواء الموجهة إليه وسحب البساط من بين يديه، وهكذا، يجمع الحاكم بين يديه من أراد، ويُبعِد عنه من شاء، ولا بقاء لأحدٍ عنده إذ يرى الجميع -مع بعضِ الاختلاف بينهم- في تباينٍ مع سَيْره الذي ارتضاه في طريقةِ الحكم وسياسة الدَّولة.

في سيرة القدِّيس بيكيت توماس (1118-1170) يُروَى أنه كانَ شابّاً مهذباً، وعالماً، وزعيماً دينياً، بدأ حياته المهنية موظفاً حكوميّاً، وقد أُعجِبَ ملك إنجلترا هنري الثَّاني بمهاراته فدعاه لأن يصبحَ رئيسَ أساقفة كانتربري. ولسنواتٍ عدة كان الملك هنري على خلافٍ مع البابا في روما، واستشاط الملك غضباً عندما انحاز بيكيت إلى جانبِ البابا، انتصاراً لفكره وقضيته، فهربَ إلى فرنسا.

سَمِعَ أربعة فرسانٍ الملكَ يقول: "أليس هناك من يخلّصني من هذا القسيس الحشري؟!"، فسارعوا للبحثِ عن بيكيت وقتلوه في كاتدرائية كانتربري، وقد أصاب الملك هنري الخزي والعار، أما بيكيت فأصبح قدِّيساً كما تقضي بذلك الأخبار.

يتكرَّر دوماً، منذ مبتدأ التَّاريخ، أن يُنسى الحاكم، تُهالُ عليه رمالُ النِّسيان، يستكثر التَّاريخ الحديثَ عنه ترفعاً، إن ذُكِرَ ذُكِرَ مجللاً بقالةِ السُّوء، وإن استُحْضِر كان عبرة لكلِّ ظالمٍ شقيٍّ ضاق بغيره في مسْرحِ الحياة، إذ كان ضعيفاً عندما لم يحتمل صوتاً يقول له "لا". فطمَرَه بالموت، ولم يعلم أنَّ الموتَ في سبيلِ قضية، حياة صيغت بحروفِ البقاء إلى يومِ الفناء!

ولو استدعينا الذَّاكرة المعاصرة، لتداعى أمامنا كثير من الأمثلة التي جمعت بينَ الحاكمِ والعالم، وما شابَ علاقتهما من ودٍّ ودم. إذ ليس هناك أعظم إثارةً للحاكم من قولِ "لا"، دون مواربة، لِأنَّ "لا" تعني له انتقاصاً لمن حقُّه الكمال، وما من حاكمٍ عُرِفَ بشيءٍ من الظلم والجوْر إلا وأحسَّ بشيءٍ من ذلك، وما ذلك إلا لنسيانِه حقيقته، ثمَّ الاستغناء المفضي إلى الطُّغيان.

مما لفتَ نظري في قالةِ هنري الثَّاني، وصف القِسِّيس بـ"الحشري"، وهذا يدفعنا إلى القول إنَّ كل حاكم في تكوينه الدَّاخلي يعتقد أنَّ العالِم -ومَن دونه من بابِ أولى- إذا خالفه فهو "حشري"، يتطلعُ إلى أمورٍ ليست من اختصاصه، ولا حلّ لهذا الحشري إلا الموت، وهكذا يظنُّ الحاكم أنه تَخلَّصَ منه، لكنه غَفل عن أنه منَحَه حياة مشبعة بالأسطورة، تتضخم دونما توقف، لأنَّ النَّفس مجبولة على الوقوفِ مع المظلوم، الشُّجاع، الذي وقفَ في وجه الطُّوفان، وقال: "لا".

تجمع علاقة أخرى بين العالمِ والحاكم، يشوبها التَّوجس، والابتسامة الصفراء، تسير وفق معادلة محكمة: يكفُّ الحاكم يده، ويكفُّ العالم قلمه ولسانه، وهكذا، حتى يأذنَ الله برحيلِ أحدهما رحيلاً قَدَريّاً.

قالت الحكماء: إمام عادل، خير من مطر وابل. وإمام غشوم، خير من فتنة تدوم. ولما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن.

الحاكم يسيطر على العالِم بسلطته وماله وانحرافه

وقد بَدَتْ لي ثلاثية تجمع العلاقة بين السُّلطة والمال ورجل الدين، يحسنُ بي ذكرها في هذا المقام، ثلاثية "فرعون وقارون وبلعام بن باعورا"، ثلاثية متجدِّدة، تأخذُ أنماطاً مختلفةً تناسبُ العصرَ والمكانَ الذي تتخلقُ فيه! ثلاثية ترتصُّ في خندقٍ واحد، تجبر النَّاسَ على الإذعانِ والخضوعِ والتَّسليم.

فالأول: بسلطته، والثَّاني: بماله، والثَّالث: بانحرافه. والأخير خطره أشد، لأنه يُسهِم في التوثيق والتعميد، ويُخَدِّر النَّاس قائلاً: لا تهتموا، لا ترفعوا أصواتكم، كونوا خاضعينَ لولاةِ أموركم يرحمكمُ الله!

وإذا ما وُجِدَ الفرعونُ وحدَه، تراخى بطشه، وإذا ما التحمَ معه قارون بثرائه، اشتدت سطوةُ التَّسلط، ويبقى التسلط مفتقراً إلى الشرعيةِ، حتى يظهرَ بلعام بن باعورا كرجلِ الدِّينِ المنحرف، ليكملَ صورة الثُّلاثية التي ترزحُ تحتها الشعوب، وتُبادُ فيها الكرامة الإلهية الممنوحة للإنسان، فيفقدُ الإنسانُ إنسانيته، وأحلامه، ويظلُّ يلهجُ مسبِّحاً بحمدِ الفرعون ردحاً من الزَّمنِ في محرابِ الخانعين.

والحقّ الذي يتجلى للمتأمل أنَّ الصورة المثالية للعلاقة بين الحكام وعلماء الدِّين لا ينبغي أن تُوضع في قالبٍ واحد لا يجوز الخروج عنه، "فالعلماء يختلفون في قُدرَاتِهم ومواهبهم وقُوَّتهم وضعفهم، فمنهم الحكيم الحليم البليغ الذي يستطيع إيصال رسائله إلى الحكام بطريقة تؤهلها للتأثير في القرارات، ولديه صلابة في دينه، وقوة في رأيه تحجزانه عن ابتغاءِ رضا النَّاس بسخط الله، فالوضع المثالي لهؤلاء هو الاقتراب من الحكام وشدّ أزرهم والعمل على الإصلاحِ من خلالهم"، كما يقول السَّعيدي في وصفه للعلاقةِ بينَ الحكَّام والعلماء.

وأعظم العلاقة، تلكَ التي يترفَّع فيها العالِم عن اللهثِ وراءَ الحاكم إلا لمنفعةٍ عامَّة، دونَ اجترارٍ وراءَ معاداته، ولا افتراض المعاداة في الذِّهن كأنها قائمة منذُ الأزل لا مفرَّ منها. وتُؤثَر كلمة عظيمة عن الإمامِ أبي حامد الغزالي رحمه الله، يقول فيها: "إنَّ علاقتك بالحاكم تكونُ على وجوهٍ ثلاثة: إمَّا أن يدخل عليك وهذا أهونها، وإما أن تدخل عليه وهذا شرُّها، والوسط بين ذلك، أن تكون العلاقة حسب الحاجة". وعبارته الأخيرة شوكة ميزانٍ في تقييم العلاقة، ووضعها في قالبٍ مرن، يتشكَّلُ وفق مصلحة الأمة، بما يُعزِّز السِّلْم، والتَّعايش، وإعلاء القِيَم الكبرى.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي