في تطور أخير للتوتر بين الحكومة الفرنسية والمجلس العسكري المالي، قرَّر الأخير طرد سفير باريس من باماكو. وقال بيان بثه التلفزيون المالي: "أبلغت حكومة جمهورية مالي الرأي العام المحلي والدولي أن (...) سعادة السفير الفرنسي في باماكو جويل ميير استدعي من طرف وزير الخارجية والتعاون الدولي وأنه أُخطِر بقرار الحكومة دعوته لمغادرة الأراضي الوطنية خلال 72 ساعة".

ويأتي هذا القرار بعد مسار من تدهور العلاقات بين الطرفين منذ استحواذ الكولونيل عاصمي غويتة على السلطة في البلد الإفريقي، بعد الانقلاب الثاني الذي قاده في مايو/أيار الماضي. إضافة إلى تمديد المجلس العسكري المالي فترة حكمه لخمس سنوات إضافية أخرى، ورفضه تسليمها للمدنيين. كما تعاقد السلطات المالية مع مرتزقة فاغنر الروس من أجل تدريب جيوشها وحماية المواقع الحساسة للدولة.

فيما أمام هذا التقهقر في النفوذ الفرنسي التاريخي في المنطقة، انتقل خطاب خارجية باريس من التهديد بسحب قواتها من هناك وإيقاف حربها ضد الجماعات الإرهابية التي تزعزع أمن تلك البلدان، كما التلويح بعقوبات اقتصادية وحصار سياسي لسلطاتها، إلى خطاب المظلومية والتذمر من "استعمار روسي جديد" يقلق الاستعمار الفرنسي القديم.

إنهم ينهبون مالي

تحول في خطاب الخارجية الفرنسية، كشفه وزيرها جان إيف لودريان، باتهامه مجموعة فاغنر العسكرية الروسية بنهب مالي، وأنها في المقابل "لا تسعى للحلول محلّ فرنسا والدول الأوروبية التي تنشر قوات في منطقة الساحل".

وأردف لودريان، في مقابلة له يوم الأحد في أسبوعية لو جورنال دو ديمانش: "فاغنر مؤلفة من عسكريين روس سابقين تسلحهم روسيا وتساندهم لوجستياً. وصل بهم الأمر في إفريقيا الوسطى إلى حدّ الضراوة، إذ يقايضون أمن السلطات بالحق في استغلال موارد المناجم دون أي محاسبة".

"وفي مالي الأمر مماثل" حسب الوزير، فهم "باشروا منذ الآن استخدام موارد البلد لقاء حماية المجلس العسكري، إنهم ينهبون مالي!". وأكد: "فاغنر تستغل ضعف بعض الدول لترسخ وجودها، بل وأبعد من ذلك، لتعزيز نفوذ روسيا في إفريقيا"، معتبراً أن هدف التحرك الروسي هو بوضوح ضمان استمرارية المجلس العسكري في السلطة.

وسبق أن اتهم لودريان مجموعة فاغنر في منتصف كانون الثاني/يناير بـ"دعم الطغمة العسكرية التي تسعى للاستحواذ على السلطة" في مالي بذريعة مكافحة الجهاديين. فيما لم يفصح بأي حسم في مصير قوات تاكوبا الأوروبية، بعد أن طالبت باماكو بطرد جنود الدنماركيين المشاركين فيها من أراضيها. بالمقابل صرَّحت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي، لإذاعة فرانس إنتر أن "بلادها لا يمكنها البقاء في مالي بأي ثمن".

استعمار يتذمر من استعمار

في إفريقيا الوسطى تعود بداية التدخل الروسي في إفريقيا الوسطى إلى سنة 2017، حين اقترحت موسكو التبرع لبانغي بأسلحة خفيفة، مقترح لقي ترحيباً دولياً، لكن سرعان ما تحوَّل إلى وجود أمني مكثَّف، قوامه الأساسي مجموعة فاغنر التي يديرها رجل الأعمال يفغيني بريغوجين المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً، والملقب إعلامياً بـ"طباخ الكرملين".

سعت روسيا بمستشريها الأمنيين ومرتزقتها على الأرض إلى محاربة الوجود الفرنسي في البلاد، الذي انتهى بالقطيعة النهائية معها وخروج قواته منها. ومع تغلغل الروس في مفاصل الدولة الإفريقية الفقيرة، شوهدت مرتزقتها بمحيط مناجم الذهب والماس، ما رجح فرضية استغلالها لصالحهم.

فيما تسعى موسكو لتكرار نفس السيناريو بمالي، بتقربها من السلطة التي ما زالت تنفي وجودها هناك، مع أن تقارير دولية عديدة أفادت بنقل طائرات تابعة لسلاح الجو الروسي عناصر فاغنر إلى الأراضي المالية.

كما هناك مخاوف من أن تلحق بوركينا فاسو بركب الدول الإفريقية الساقطة في شراك فاغنر، ذلك بعد الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد مطلع الأسبوع الماضي. إذ خرج العشرات من البوركينابيين في مظاهرات احتفالية حاملين الرايات الروسية وصور الكولونيل الانقلابي بول هنري داميبا. ورحَّب يفغيني بريغوجين بهذا الانقلاب، معتبراً إياه "حقبة جديدة من إنهاء الاستعمار".

بينما رُكون فرنسا، في ظل هذه الوقائع، إلى خطاب المظلومية والتنديد بـ"النهب الاستعماري"، عدا عن كونه تحول في لهجة خطابها اتجاه دول الساحل، فهو يضعها محط الانتقاد والسخرية أكثر من أن يضع مخاوفها قيد الأخذ بجدية. كون ما عابه لودريان، على سبيل المثال، من الحماية مقابل نهب البلدان، هو ما فرضته باريس على بلدان المغرب الكبير بداية القرن الماضي.

واستمرت فيه كمنهجية للتعامل مع دول إفريقيا جنوب الصحراء حتى بعد استقلالها، حيث نصَّبت لذلك شبكة فرانس آفريك التي نهبت مقدرات شعوب تلك البلدان، مقابل حماية فرنسا لأنظمة لها باع في انتهاكات حقوق الإنسان وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

TRT عربي