لا تعتمد قوتها على رصاص وقذائف انفجارية، ولا جنود لها على جبهات القتال الدامية، بل في مكاتب أمام حواسيب، قد تضمّ كراسي وثيرة ومدافئ وآلات عمل القهوة، مع ذلك يمكن لضرباتها أن تكون أكثر إيلاماً من أي قصف مدفعي أو اشتباك مسلَّح.

هي الهجمات السيبرانية، أحد أشكال الحرب التي أظهرت فيها روسيا براعة كبيرة في السنوات الأخيرة، تقع اليوم في قلب معادلة مواجهتها للغرب، إلى جانب حشد قواتها على حدود أوكرانيا ونشر قطعها البحرية في بحر الشمال والبلطيق والبحر الأسود ومضيق جبل طارق.

فيما تتمثل عمليات هذا النوع من القوات في التشويش على الخصم واستهدافه بحملات المعلومات الزائفة، وفي بسط السيطرة على وسائل التواصل الرقمي والتحكم فيها، بل وقطع شبكات الإنترنت والطاقة واستهداف بنيتها التحتية المادية وتدميرها. في المقابل، لروسيا تجارب عديدة في شنّ الحروب السيبرانية، مما يطرح السؤال عما إذا كان الغرب مستعداً لمواجهتها هذه المرة.

قدرات موسكو السيبرانية

قد تأخذ الحرب السيبرانية أشكالاً عديدة، منها عمليات الاختراق بقصد التجسس وسرقة معطيات حساسة من العدو، واستهداف وتدمير بنيته التحتية بهجمات فيروسية أو مادية، أو حتى تنفيذ حملات دعائية زائفة أو هجمات اقتصادية سيبرانية على العدو بهدف خلق حالة اضطراب في عمقه الاجتماعي والتشويش على جنوده في الجبهة.

كل هذه الأنواع أثبت التاريخ الحديث لروسيا براعتها فيها، وقدراتها على تنفيذها ببراعة وتحقيق أهدافها كاملة. بالتالي يمكنها أن تكون ورقة قوية في معادلة مواجهتها المحتملة مع الغرب، حسب ما تورده تقارير استخباراتية أمريكية، إذ حذّر تقرير أخير لشعبة الأمن الداخلي الأمريكية من أن "لدى روسيا القدرة على تنفيذ مجموعة هجمات سيبرانية، قد تهدف إلى شلّ شبكة الإنترنت أو تعطيل البنية التحتية الحيوية مثل شبكات الكهرباء".

قدرات استخدمتها موسكو أكثر من مرة، ففي سنة 2015 نفّذَت هجمات سيبرانية على شبكة توريد الكهرباء الأوكرانية أدّت إلى تعطيلها تماماً. وقبلها بسنة، ومع احتلالها القرم، كان أول إجراء تكتيكي هو قطع كابل الإنترنت الذي يربط شبه الجزيرة بالبر الأوكراني والعالم الخارجي، كما نفّذَت في 2016 اختراقات إلكترونية استهدفت التشويش على الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

وحذّر تقرير لمعهد أتلانتيك للأبحاث الاستراتيجية من أنه "إذا ما اشتدت المواجهة في أوكرانيا فقد يلجأ الروس إلى استهداف البنيات التحتية للإنترنت في البلاد بما قد يؤثّر في المجال الرقمي الدولي". أما السيناريو الأكثر ضرراً فهو "استهداف للجيش الروسي أياً من عشرات الكابلات البحرية التي تربط أوروبا بالإنترنت العالمي"، هذه الكابلات التي تمرّ عبر البحار التي تتمركز حولها القوات البحرية الروسية.

وقد حمل جزء من القلق الذي عبّرت عنه إيرلندا من المناورات الروسية في بحر الشمال، مخاوف من إقدام هذه الأخيرة على تخريب كابلات الاتصال البحرية الاستراتيجية التي تربط أوروبا بأمريكا الشمالية، إذ تجري تلك المناورات على مقربة منها.

هل الولايات المتحدة قادرة على مواجهة حرب سيبرانية روسية؟

تضمنت المباحثات بين الجانبين الروسي والأمريكي، منذ أول لقاء بين بايدن وبوتين في جنيف في يونيو/حزيران الماضي، ملفّ الهجمات السيبرانية الروسية، إذ اتهم بايدن الرئيس الروسي بمسؤوليته عن الهجمات السيبرانية التي تتعرض لها الولايات المتحدة، رغم إنكار الآخر ضلوع حكومته فيها.

ومع تولّي إدارة الرئيس الحالي، عمل بجدّ على تحديث الترسانة الدفاعية السبرانية الأمريكية، إذ وقّع أمراً تنفيذياً لتحديث الأمن السيبراني للحكومة الفيدرالية، ووجّه الوكالات إلى نشر الأنظمة الكاشفة للهجمات من هذا النوع. وتعهد بايدن بأنه "لن يتوانى في رفع التكلفة على روسيا" إذا ما تجرأت ونفذت أنشطة سيبرانية معادية لواشنطن، وأصدرت الحكومة الأمريكية لأول مرة لوائح اتهام وفرضت عقوبات على التجسس الإلكتروني تستهدف أسماءً روسية.

من الناحية التقنية، حذّر خبراء أمريكيون من أن بلادهم لا تزال غير قادرة على حماية نفسها في حال نشوب حرب إلكترونية، رغم تفوُّق قدراتها الهجومية في استهداف الأطراف المعادية بهذا الهجوم.

ولتعزيز قدراتها العسكرية في ظلّ احتمال نشوب حرب سيبرانية، أجرت القوات البحرية لكلّ من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا واليونان، مناورات "بولاريس 21" البحرية، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

مناورات كانت الكبرى في منطقة غرب المتوسط منذ سنوات، استهدفت "رفع جاهزية الاشتباك على مستويات وساحات معركة متعددة في وقت متزامن" في بيئة "تشلّها الهجمات السيبرانية والتشويش على اتصالات الراديو وانتشار أخبار زائفة من شأنها التأثير في العمليات العسكرية وأهدافها الاستراتيجية"، حسب ما أوردته وقتها وزارة الجيوش الفرنسية.

TRT عربي