تكاد تكون أخبار انتحار رجال الأمن والشرطة في فرنسا خلال الأشهر الأخيرة، أخباراً يومية. وأعربت في ذلك السلطات الرسمية، عن أسفها وقلقها المتنامي من مزيد انتشار هذه الظاهرة، في الوقت الذي تواجه فيه فرنسا موجة غير مسبوقة من الجرائم والعنف، وصفها وزير الداخلية الفرنسية جيرالد دارمانين بوحشية جزء من المجتمع الفرنسي.

ووسط تباين في الآراء حول حقيقة الأسباب التي تقف وراء انتشار هذه الظاهرة في صلب الأجهزة الأمنية، أعلنت الجهات الحكومية، عن عزمها التعامل مع الأمر بمنتهى الجدية، وسعيها لوضع خطة لمكافحة هذة الآفة، خصوصاً وأن العديد من الدراسات كشفت نسبة كبيرة من رجال الأمن ممن تراودهم أيضاً أفكار انتحارية، ترجح بالتالي مزيد ارتفاع حالات الانتحار وتواصل هذا النزيف الأمني.

ارتفاع مفزع في حالات الانتحار

كشف عديد من التقارير والإحصائيات الرسمية الفرنسية، أن نحو 12 مسؤولاً أمنياً انتحروا خلال شهر يناير/كانون الثاني المنقضي وحده، مما يرجح بشكل كبير أن هذه النسب قد تشهد ارتفاعاً مروعاً خلال السنة الحالية، مقارنة بالعام الماضي الذي بلغت فيه حالات الانتحار في صفوف الأمنيين 35 حالة، و32 حالة في عام 2020. في حين كان عام 2019 عام الذروة لهذه الظاهرة، وذلك بمعدل 59 حالة انتحار لأمنيين ومسؤولين مهمين.

وعن الطرق والوسائل التي أنهى بها رجال الشرطة الفرنسية حياتهم، تحدثت الوسائل الإعلامية، عن حالات انتحار شنقاً، وأخرى رمى فيها أصحابها بأنفسهم تحت سكة القطار أو من على علو شاهق، فيما انتحر آخرون بسلاح خدمتهم.

وقد انتشرت هذه الظاهرة لتشمل العديد من مراكز الأمن والشرطة في مدن وولايات متفرقة في فرنسا، كما أنها لم تستثن مختلف الرتب والمناصب من أعوان وضباط، إلى مسؤولين بارزين.

وأكد تقرير سابق لقوات الأمن المشترك MGP أن أكثر من 24% من رجال الشرطة تراودهم بدورهم أفكار انتحارية، وأغلبهم ممن تتراوح أعمارهم بين 30 و34 عاما.

أسباب نفسية واجتماعية

على ضوء هذه الأرقام المفزعة، أكد عديد من الأطراف الحكومية، أن مهنة الأمن، تكاد تكون اليوم من أكثر الوظائف في فرنسا، التي تشهد انتحاراً مرتفعاً في صفوف موظفيها وأعوانها.

وبينما استدعت هذه الجائحة انتباه الجهات الرسمية، التي وسعت بدورها من دائرة الاستماع وكثفت التحقيقات للتعرف على حقيقة الأسباب التي تدفع بالأمنيين إلى الانتحار، أشار عديد من التقارير إلى أن العامل النفسي يلعب دوراً كبيراً في ذلك.

فأغلب رجال الشرطة الذين قرروا في النهاية وضع حد لحياتهم، هم ممن يعايشون ظروف اجتماعية سيئة وسط عائلاتهم أو بيئتهم، فاقمت في حدتها الأعباء والضغوطات التي فرضها انتشار وباء كورونا المستجد.

كما أشارت دراسة، تطرقت أيضا إلى تحليل هذه الظاهرة، إلى أن الصحة العقلية لضباط الشرطة مرتبطة بشكل واضح بظروف ممارسة العمل والبيئة المهنية. وفي هذا السياق كشف العديد من أعوان الأمن، في معرض شهاداتهم عن هذه المحنة، أن ارتفاع موجة العنف والجرائم التي شهدتها فرنسا خلال الفترة الأخيرة، والتي ترتب عليها تعاملهم بشكل يومي مع الكثير من الجثث المعنفة لنساء وأطفال، قد أدى إلى إنهاك الإعصاب والشعور باليأس، ولم يكن بإمكان الكثير منهم تجاوز أو تحمل ذلك، وبالتالي انتحروا.

وعلى الصعيد ذاته، فإن الاحتجاجات التي هزت الشوارع الفرنسية، تحت رايات مختلفة، وكان أبرزها احتجاجات السترات الصفراء زادت الاحتقان بين المواطنين والأمنيين، مما أدى إلى دخولهم في عزلة مجتمعية، وبالتالي الدخول في الاكتئاب والوحدة واليأس.

وتستمر التحقيقات والتقارير في الكشف عن المزيد من الأسباب الأخرى التي قد لعبت دوراً هاماً في الدفع بهذه الظاهرة إلى مزيد الارتفاع والانتشار.

إجراءات حكومية لمكافحة الأزمة

صرح بينوا بريات، رئيس مجموعة القوات الأمنية المشتركة، بأنه "يريد تشجيع وتسهيل الوصول إلى "الاستشارات النفسية والإجراءات الوقائية، في أقسام الشرطة لتحسين رفاهية الموظفين في العمل وبالتالي الحفاظ على صحتهم النفسية".

ومن جانبه كشف " المدير العام للشرطة الوطنية (DGPN)، فريديريك فو، عن الخطة الحكومية المزمع تطبيقها على نطاق واسع لمكافحة هذه الآفة المستشرية.

وتقرر رفع عدد الحراس في الخدمات إلى 2000 حارس، هم عبارة عن ضباط شرطة متطوعون بالأساس لمراقبة زملائهم، وفق نظام تتبع خاص، للكشف عن أي صعوبات شخصية أو مالية أو عائلية تواجه أحدهم، وبالتالي توجيهه إلى طبيب أو أخصائي نفسي أو حتى إلى رئيس القسم.

وبدوره أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانيين، استحداثه عشرين منصباً جديداً في خدمة الدعم النفسي لرجال الأمن والشرطة.

واستكمالاً لترسانة التدابير التي كشفت عنها الجهات الرسمية، أعلن فريديريك فو، في تصريح صحفي لوسائل إعلامية محلية، أنه سيجرى إعادة إطلاق ممارسة الرياضة لمختلف الرتب، للتخلص من الشحن العاطفي والضغوطات النفسية، بحيث يفرض ممارسة كل ضابط ساعتين من الرياضة أسبوعيا.

وعلى الرغم من هذه الإجراءات، يعتبر أخصائيون ومحللون أنها لا تزال غير كافية لمعالجة هذه الظاهرة، خصوصاً وأن هيكل المتابعة النفسية للأمنيين لا يُعدُّ بالهيكل المستحدث وإنما أُنشئ منذ عام 1996 ولكنه مع ذلك لم يساهم في تخفيفها، إذ تحافظ فرنسا خلال الخمس سنوات الأخيرة على مدل انتحار لرجال الشرطة يقدر ب44 حالة سنوياً.

TRT عربي