قبل خمس سنوات، وخلال أجواء مشابهة لما تمر به فرنسا اليوم، أي اقتراب الانتخابات الرئاسية للبلاد وما يرافقها من نقاش عام حول برامج المتبارين فيها، كان الصراع محتدماً بين المرشح الشاب إيمانويل ماكرون ومنافسه المباشر الجمهوري فرنسوا فيون.

وبشكل مماثل، كان موضوع الجالية المسلمة بالبلاد يقع في قلب المزايدات بين المرشحين، إذ دافع فيون عن التضييق على المسلمين وقمعهم، مصوراً إياهم الخطر المحدق بفرنسا. الأمر الذي كان نقطة ضعفه الكبرى، والتي من خلالها أوكل له ماكرون الهجمات، وحسم سباق الجولة الأولى لصالحه، ومنها إلى كرسي الرئاسة بنفس الشكل بعد أن نافس اليمينية المتطرفة مارين لوبان.

بعدها بخمس سنوات، لا يزال ماكرون يسعى إلى الحصول على ولاية رئاسية ثانية، هذه المرة بخطاب مختلف، يتبنى العداء الواسع للمسلمين، مسلحاً بقراراته القمعية ضدهم التي اتخذها خلال نهاية ولايته. حاشداً لذلك جمعاً من الصحفيين والوجوه العامة، تلاحق أغلبها بأوصاف الانتهازية والوصولية.

ماكرون ضد ماكرون!

خلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية الماضية، صعد نجم المرشح الرئاسي الجمهوري فرانسوا فيون كيميني معتدل يحابي المتطرفين في عدائهم للمسلمين. هكذا رفع شعاراً لحملته "التضييق على المسلمين". وصرَّح وقتها خلال أول لقاءاته الخطابية، قائلاً: "أريد أن أفرض على مسلمين فرنسا القيود التي انضبط بها قبلهم المسيحيين واليهود".

كان برنامج فيون قائماً على الرقابة الإدارية للمسلمين، حل كل أنشطة الجمعيات والحركات التي تنسب نفسها لتيارات إسلامية، ومراجعة العلاقات مع الدول الإسلامية. كل هذا مقدم في حزمة دعائية تشيع الكراهية ضد المسلمين، وتجعل منهم "توسُّعيين يهددون الحضارة الغربية".

بالمقابل، كان وقتها ماكرون معارضاً لخصمه في هذا الصدد، هو الذي قال بصراحة: "أنا أرفض الهجوم على المسلمين". قدَّم نفسه كمحارب شرس لهذه اللائكية التي تخص ديانة وحدها بالهجوم، وتمارس الرقابة على معتقدات الأفراد وتصنفهم على أساسها.

هكذا نجد ماكرون يقول في مقابلة صحفية له، قبل أسابيع من انتخابات 2017: " البعض اليوم يدافع عن رؤية انتقامية للعلمانية. علمانية تفرض قبل كل شيء محظورات ضد دين واحد على وجه الخصوص. يهدف هذا المفهوم الخاص للعلمانية إلى إعادة بناء هوية الجمهورية كضد للتوحيد ضد اليهودية أو البروتستانتية سابقاً، ضد الكاثوليكية بالأمس، واليوم ضد الإسلام".

وأضاف: "منع الحجاب في الجامعة، على سبيل المثال، سيكون خطأً فادحاً، وقراراً يأتي بنتائج عكسية (...) الجامعة هي مكان الضمائر المستنيرة، إذا وصلت أنثى ما بالحجاب، فلديها هذه الحرية لأنها من حيث المبدأ ضمير مستنير (...) ما يزعجني هو خطر تعرض هذه الشابة المحجبة لضغوط قصوى، وإكراهها".

وعلى هذا الأساس، على أساس دعوته لما أسماه بـ "العلمانية المستنيرة"، كسب ماكرون نقاط متقدمة على خصمه المباشر والأكثر تهديداً بالتفوق عليه، في خارطة سياسية لم تكن ترشح عودة الاشتراكيين إلى الحكم بعد حصيلة هولاند السيئة، كما لا تجرؤ على الدفع بمارين لوبان رئيسة للبلاد.

سنوات قليلة بعدها

ربما لولا ذكر مصدر المقابلة الصحفية القديمة، لما كان من الممكن تصديق أن ماكرون الذي خطب في أكتوبر/تشرين الأول 2020 محذراً من "الانعزالية الإسلامية" وجاعلاً من مسلمي البلاد الخطر المحدق بالجمهورية، هو نفسه من كان ينتقد الداعين إلى فرض قيود على المسلمين.

فيما يدل هذا على التحول الراديكالي في خطاب الرئيس، وقدومه في ظرفية تعرف قرب خوضه الانتخابات الثانية، على ازدواجية معاييره واستغلاله السياسي للقضايا. فاستغرب عدد من المثقفين والصحفيين الفرنسيين توجه الرئيس لسن قانون حول المسلمين، في وقت تعيش فيه البلاد أزمات متتالية.

أحدهم كان ألان غريش، الصحفي الفرنسي المخضرم ورئيس تحرير موقع "أوريون 21"، الذي علق على الأمر وقتها قائلاً: "نحن في بلد يعيش أزمة صحية خطيرة، يعيش تصاعداً مهماً في معدلات الفقر، مشاكل اجتماعية بالجملة، مشاكل الصحة والتعليم.. إلخ. بالتالي يصعب علينا تصديق أن تكون أولوية حكومة ما في ظل كل هذه الظروف هي التطرق لـ(الانعزالية الإسلامية) وما يقع داخل الأوساط المسلمة".

مضيفاً: "هي دوافع انتخابية تدفع إلى البحث عن حصد أصوات في اليمين، ومن ثمة التحضير لمقابلة محتملة مع مارين لوبان في الدور الثاني من الانتخابات القادمة، والتي سترغم اليسار بالمقابل على منحه أصواتهم لأنهم لا يريدون لوبان رئيسة للجمهورية، وبالتالي يضمن حظوظه في ولاية ثانية (...) لكنها لعبة خطيرة!".

لعبة خطيرة هي ما يؤكدها كذلك رئيس حزب "الاتحاد الديمقراطي لمسلمي فرنسا"، المرشح الرئاسي نجيب أرزقي، في حديث سابق له لـTRT عربي، قائلاً: "هي الاستراتيجية نفسها تتكرر: الحكومة تفشل في إيجاد حلول للانشغالات اليومية للفرنسيين، وبدل الاعتراف بفشلها هذا، تتجه إلى خلق مشكل مزيف لإلهاء الشعب عن حقيقة ذلك الفشل".

ومنذ ذاك أطلقت الحكومة الفرنسية، وفقاً لتوجيهات رئيسها، حملة تستهدف مسلمي البلاد. ففي سنة 2021 أغلقت تلك الحكومة ثلث مساجد البلاد، وحلت عدداً كبيراً من الجمعيات والمؤسسات التابعة لمسلمي البلاد، كما خلقت شقاقاً سياسياً بين ممثلي الشأن الديني للجاليات الإسلامية هناك.

بالمقابل، صعَّد هذا التحول في مواقف الرئيس الفرنسي إلى اضطهاد المسلمين من الاعتدءات ضد هذا المكون الواسع داخل الشعب الفرنسي. إذ شهدت البلاد خلال سنة 2020 وحدها ارتفاعاً مهولاً في الاعتداءات التي تستهدف المسلمين سجَّل نسبة 53%، بأزيد من 253 اعتداء ثلاثة أرباعها تهديدات جدية بالقتل.

TRT عربي