منذ اجتاح فيروس كورونا العالم وإعلانه جائحة وبائيَّة، معطّلاً حركة التنقّل وملزِماً الناس بالبقاء في بيوتهم كإجراء وحيد وقتها للحدّ من مخاطره، كان تهديد آخر يترقّب البشرية يماثل حجمه حجم نظيره الصحي، هو التبعات الاقتصادية للجائحة.

تبعات لم تغفلها الحكومات والفاعلون الاقتصاديون منذ البداية، هكذا عمدوا إلى رصد مبالغ ضخمة للإنعاش الاقتصادي، واتخاذ إجراءات سريعة للحفاظ على السيولة في الأسواق واستمرار سلاسل التوريد، كما السباق نحو تحقيق الإقلاع الاقتصادي بعد سنتين من التوقف.

هذه الإجراءات التي كانت لها أعراض جانبية، ظهرت في ارتفاع نسب التضخّم، كما ما بقيت سلاسل التوريد تعرِف أضراراً كبيرة يبدو أنه من الصعب الخروج منها في وقت قريب.

اضطراب سلاسل التوريد

أصابت الإجراءات الاحترازية للحدّ من تفشّي فيروس كورونا سلاسل التوريد في العالم في مقتل. على رأسها الصين، المورّد العالمي الأكبر، تعرِف وارداتها اضطراباً إثر سياسة الحكومة الصارمة في خنق البؤر المهنية لانتشار الفيروس.

في ظلّ هذا الوضع، حذَّرت رئيسة منظمة التجارة العالمية،أوكونجو إيوالا، من أن "الأزمة في سلاسل التوريد العالمية ستستمر لفترة أطول مما كان يُعتقد في الأصل، وقد تؤدي باستمرار إلى تهميش البلدان النامية".

وقالت إيولا في اجتماع نظمته مجموعة "جونو أفريغكيو ميديا غروب": "اعتقدنا أن اضطرابات سلسلة التوريد ستكون مؤقتة (...) ما زلنا نعتقد ذلك، لكن حلها يستغرق وقتاً أطول مما توقعنا، ربما بحلول نهاية هذا العام أو ربما في العام المقبل".

وتعرف سلاسل التوريد العالمية منذ الصيف الماضي اضطرابات مرتبطة بالإقلاع الاقتصادي جراء سنتين من الإغلاق، لكنها كانت في طريقها إلى الانتعاش شيئاً فشيئاً. بينما أعاد متحوّر أوميكرون هذه الأزمة إلى نقطة الصفر، مع سرعة انتشاره وعودة الدول إلى تشديد قبضتها على الحدود.

فيما تبقى الدول النامية الأكثر تأثراً من هذه الأزمة، تقول إيولا. لأن "هناك مشاكل تتعلق بكون العديد من البلدان النامية في النهاية الطويلة للنقل البحري"، مما يعكس المخاوف من أن البلدان الأفقر ذات الأحجام التجارية الصغيرة معرضة لخطر الانقطاع عن سلاسل التوريد الطويلة إذا ظلّت تكاليف النقل مرتفعة بفعل ندرتها وازدياد الطلب عليها من الدول الكبرى.

مستويات تضخم غير مسبوقة

هذا وسبب اضطراب سلاسل التوريد العالمية، كما الإجراءات التي نفذتها الاقتصادات الدولية من أجل الإقلاع الاقتصادي والحفاظ على السيولة في أسواقها، حدوث أزمة تضخّم عالمية غير مسبوقة.

حيث سجّلت الولايات المتحدة أعلى نسبة تضخّم منذ 40 سنة. وقفز معدّل التضخم، بحسب بيانات مكتب الإحصاءات الأمريكي، إلى 7% في ديسمبر/كانون الأول 2021، مقابل 6.8% في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. ما قد يُعزز احتمال اتجاه المجلس الاحتياطي الاتحادي بأن يبدأ زيادة أسعار الفائدة في وقت مبكر ربما في مارس/آذار 2022.

وعرفت أوروبا ارتفاع نسب تضخّم هي الأعلى منذ ربع قرن من تاريخها، حيث صعد معدّل التضخّم السنوي في منطقة اليورو (19 بلداً) إلى 5% في ديسمبر/كانون الأول الماضي. ووفقاً للبيانات، سُجّل أعلى معدل تضخّم في إستونيا بنسبة 12%، تليها ليتوانيا 10.7%، في حين سُجّل أقل معدّل في مالطا بنسبة 2.6%، ثم البرتغال 2.8%.

في بريطانيا كذلك، استمرت معدلات التضخف في الصعود، محققة رقماً قياسياً، حيث بلغ معدله السنوي 5,4% شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعدما سجّل 5,1% في نوفمبر/تشرين الثاني.

العالم العربي هو الآخر ليس بمنأى عن موجة التضخم التي تضرب العالم، فبحسب توقعات سابقة لصندوق النقد العربي "من المتوقع بقاء معدل التضخم في الدول العربية عند مستوى مرتفع خلال عام 2021 ليصل نحو 11%، بينما تشير التوقعات إلى تراجع معدل التضخم خلال عام 2022 ليصل إلى نحو 6.1%".

أثر ذلك على الطبقات المتوسطة

بينما تبقى الطبقات المتوسطة في العالم تحت التأثير المباشر لهذه الموجة، نظراً لكونها المستهلك الأخير الذي يتحمل ارتفاع زيادة أسعار المنتجات، في المقابل لا تعرف كتلة أجورها تطوراً يتناسب مع هذا الارتفاع. وبالتالي تضرب هذه الأوضاع الاقتصادية العالمية القدرة الشرائية لهذه الطبقات في مقتل.

بالنسبة للعالم العربي، يُقسّم المحلل الاقتصادي الجزائري، فاروق خرشي، مدى تأثر الطبقات المتوسطة بهذه الأزمة العالمية إلى ثلاثة أقسام رهينة بطبيعة تلك الدول. حيث يورد في حديثه لـTRT عربي بأن "هناك ثلاثة أنواع من الاقتصادات العربية: اقتصادات مُصنِّعة وبيترولية، واقتصادات إما مُصنِّعة وإما بترولية، واقتصادات غير مُصنِّعة وغير بيترولية. وعلى أساس هذه التقسيمات يمكننا قياس مدى تأثر المجتمعات العربية بأزمة التضخم واضطراب سلاسل التوريد".

ويسترسل خرشي: "من سيكون الأكثر تضرراً هم شعوب الدول غير المُصنِّعة وغير البترولية، فيما سيكون الأثر على الدول المُصنِّعة فقط أو البيترولية فقط متوسطاً، بينما بنسب أقلّ للدول الصناعية والنفطية في نفس الوقت".

فيما يعزي المتحدث ذلك إلى أن تلك الدول "قادرة على إنتاج ما تستهلك، وبالتالي تقلل اعتمادها على سلاسل التوريد العالمية، وفي نفس الوقت هي قادرة من خلال مداخل النفط على الرفع من القدرة الشرائية لمواطنيها كما رفع العرض السوقي من أجل خفض الأسعار".

TRT عربي