بعد أن أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد يوم 25 يوليو/تموز الماضي، في إطار إجراءاته الاستثنائية، حلّ الحكومة وتجميد عمل البرلمان، ليتولى بذلك السلطة التنفيذية والتشريعية بنفسه، أصدر مؤخراً قراراً إضافياً بحلّ المجلس الأعلى للقضاء، لتصبح بذلك السلطة القضائية هي الأخرى تحت يده، متعللاً في ذلك بتورُّط السلك في قضايا فساد ومحسوبية، ليضمن التفويض والتأييد في إجرائه.

سبّب القرار أزمة إضافية، وأثار جدلاً واسعاً محلياً ودولياً، وقوبل بمعارضة وتنديد شديد من الفاعلين كافة ومكونات المشهد السياسي التونسي، الذي رؤوا في ذلك احتكاراً للسلطات الثلاث في تونس وانقلاباً على المسار الديمقراطي، وعودة بالبلاد إلى حقبة "الدكتاتورية" التي كان يُعتقد أن ثورة 2011 قضت عليها.

ويتساءل كثيرون اليوم عن الخطة البديلة التي يملكها سعيد، بعد تأميمه جميع السلطات وآخرها السلطة القضائية.

المجلس الأعلى للقضاء في عداد الماضي

بعد انتقاده المستمرّ للسلك القضائي، نفّذ في النهاية الرئيس التونسي قيس سعيد تهديده بحلّ المجلس الأعلى للقضاء، إذ أعلن مساء السبت 5 فبراير/شباط الجاري، من مقرّ وزارة الداخلية، اعتزامه إصدار مرسوم رئاسي مؤقَّت بشأن تسيير المجلس، قائلاً: "فليعتبر هذا المجلس نفسه في عداد الماضي من هذه اللحظة".

وأفاد سعيد خلال لقاء جمعه برئيسة الحكومة نجلاء بودن مساء الاثنين 7 فبراير/شباط، بعد أن طوقت قوات الأمن المجلس ومنعت الموظفين من دخوله، بأن مشروع مرسوم جاهزاً سيُناقش في مجلس الوزراء يتعلق بما كان أعلن عنه "من أن المجلس الأعلى للقضاء قد تم حلُّه"، وفق تعبيره.

وأضاف: "لم يقع اللجوء إلى قرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء إلا لأنه صار ضرورة لتطهير البلاد"، حسب توصيفه، وأكد: "لن أتدخل في أي قضية ولا في أيّ تعيين، لكن الواجب والمسؤولية اقتضيا هذا القرار".

ويُعَدّ المجلس، وفق تعريفاته الرسمية، هيئة دستورية مستقلة من مهامها ضمان استقلالية القضاء ومحاسبة القضاة ومنحهم الترقيات المهنية، وتنصّ الموادّ من 112 إلى 117 من الدستور على مهامه وصلاحياته ومكوناته، وقد أُجريت أول انتخابات له في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2016.

ولضمان كسب التأييد وتبريراً للخطوة التي اتخذها فجأة، اتهم سعيد عدداً من القضاة، بلا ذكر أسماء، بالحصول على أموال وممتلكات بالمليارات، قائلا إن "هؤلاء مكانهم المكان الذي يقف فيه المتهمون". وشدّد على ضرورة "تطهير" القضاء. وكان سبق له أن صرّح بأن القضاء "وظيفة من وظائف الدولة".

ويعتبر إخصائيون ومحللون هذه الخطوة التي أقدم عليها سعيد، والتي وضع فيها "يده على القضاء" واعتبرها كثيرون ضرباً لاستقلال المؤسسة القضائية، استكمالاً لاستحواذه على جميع السلطات في إطار إجراءاته وقراراته الاستثنائية، التي ينوي بعد ذلك استفتاء الشعب فيها، لتغيير شكل النظام.

تنديد محلي ودولي

عبّر المجلس الأعلى للقضاء عن رفضه قرار حله، "في ظلّ غياب كل آلية دستورية وقانونية تُجِيز ذلك"، وأكّد رفضه "المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية والإهدار المفاجئ والمُسقِط لضمانات استقلالية القضاء كافة، في تقويض واضح للدستور والمواثيق والمعاهدات الدولية المصدَّق عليها وفي تجاوز بيِّن لنتائج انتخابات ثلثَي أعضائه".

وأعلن المجلس في بيان رسمي "مواصلة تعهُّده بمهامه"، داعياً عموم القضاة إلى "التمسُّك بمجلسهم، باعتباره الضمانة الوحيدة التي تقيهم خطر المساس باستقلاليتهم في أداء واجبهم وخطر تعريضهم للضغط والتيقظ للدفاع عن وضعهم الدستوري".

واعتبر مجموعة من القضاة أن قرار إغلاق مقرّ المجلس الأعلى للقضاء بالقوة في وجه رئيسه وأعضائه والعاملين به ومنعهم من الدخول لمباشرة مهامهم الدستورية "موقف صادم يمثّل إهانة غير مسبوقة للسلطة القضائية ويُحِيل إلى عهود القمع والاضطهاد والحكم الفردي".

كما نددت عدة هياكل قضائية وعدد من الجمعيات والأحزاب السياسية، على غرار حزب العمال وحركة النهضة وغيرهما من الفواعل في المشهد السياسي والقانوني في البلاد، بقرار سعيّد الجديد، معتبرةً أنه يمسّ سيادة القانون في تونس ويقوّض استقلال القضاء.

وفي لقاء صحفي أكّد رئيس الجمعية التونسية للقضاة الشبان مراد المسعودي أن سعيد لا يملك أي سند قانوني لحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وقراره غير شرعي. ويُعتبر إغلاق المجلس الأعلى للقضاء إغلاقاً للمحاكم. واعتبر أن ما فعله الرئيس هو استيلاء بالقوة على المجلس بنفس الشاكلة التي أقدم بها على حلّ مجلس نواب الشعب باستناده إلى الفصل 80 من الدستور التونسي الذي أساء تطبيقه.

وأضاف شاجباً أن "الرئيس مؤمن بفكرة فساد المجلس الأعلى للقضاء، بلا ملفّات تؤيّد كلامه، ونحن كقضاة لا نؤمن إلا بالأدلّة الماديّة والقرائن. هو يريد فقط تأليب الشعب على المجلس الأعلى للقضاء باتهامه بالفساد وبيع المناصب، من أين له ذلك؟ هل دخل المجلس ليعاين الملفّات؟ إن كان يملك أيّ إثبات فليقدّمه" على حد تعبيره.

أما على المستوى الدولي، فأكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس أن الولايات المتحدة تشعر بقلق بالغ إزاء ما دعا إليه الرئيس التونسي قيس سعيّد من حلّ للمجلس الأعلى للقضاء وما تناقلته الأخبار عن منع موظفيه من دخول مقره.

وقال برايس في السياق ذاته إن "القضاء المستقل دعامة محورية من دعائم كل نظام ديمقراطي فعّال وشفّاف. من الضروري أن توفي الحكومة التونسية بالتزاماتها باحترام استقلال القضاء كما ينصّ على ذلك دستورها".

TRT عربي