عندما حصلت البلاد التونسية على استقلالها عام 1956، كانت الجارة الغربية الجزائر لا تزال تقاوم وترصّ صفوفها، لدحر قوات الاحتلال الفرنسي عن ترابها. وكانت اندلعت في تلك الأثناء ثورة تحريرية انطلقت شرارتها الأولى عام 1954، وامتدّ لهيبها بعد ذلك إلى أغلب المدن والمناطق الجزائرية، وشارك فيها عدد كبير من المقاومين والمناضلين، وكبّدت فيها الاحتلال الفرنسي كثيراً من الخسائر.

وإلى جانب الدعم والتأييد الدولي الذي لاقته ثورة التحرير الجزائرية في المحافل الدولية منذ مؤتمر باندونغ إندونيسيا عام 1955، وخلال المؤتمرات الآفرو-آسيوية، حظيت أيضاً بمساندة ودعم من البلدان الشقيقة التي كانت تؤمن بوحدة المصير وبوحدة الدماء، ومن بينها تونس، التي وفرت مدنها وقراها المحاذية للجزائر الدعم للمقاومين، فكان ذلك سبب غضب المحتلّ الفرنسي الذي شنّ عليها هجوماً مسلَّحاً، دُوّن تاريخاً مشترَكاً بين الشعبين الشقيقين.

ساقية سيدي يوسف.. رمز للنضال المشترك

انطلاقاً من فكرته بأن "الجزائر فرنسية"، وبعد فشل كل خططه ومناوراته لإخماد لهيب الثورة الجزائرية، رفع الجنرال الفرنسي شارل ديغول معدل التجنيد في صفوف الجيش الفرنسي، وطلب الدعم الدولي لتطويق الثوار ودكّ معاقلهم.

وأصدر في ذلك الوقت قانون يقضي بملاحقة عناصر جيش التحرير الوطني الجزائري أينما كانوا.

ومع اشتداد المواجهات بين الطرفين فتحت قرية ساقية سيدي يوسف التونسية، أبوابها للجرحى والمصابين من عناصر جيش التحرير الذين استخدموا بدورهم المدينة منطقةً استراتيجيةً لوحدات الجيش وقاعدة خلفية للعلاج، إضافة إلى استقبال اللاجئين الذين كانوا يتوافدون للحصول على مساعدات الهلال الأحمر والصليب الأحمر، في ظل الظروف المأساوية التي كانت تمر بها البلاد تحت نيران الاحتلال وقمعه.

وتكتسب الساقية أهمية كبرى انطلاقاً من موقعها الاستراتيجي على الحدود المشتركة بين البلدين، على الطريق المؤدّي من مدينة سوق أهراس بالجزائر إلى مدينة الكاف بتونس، وهي قريبة بذلك جداً من مدينة لحدادة الجزائرية التابعة إدارياً لولاية سوق أهراس.

وأصبحت المدينة بذلك في مرمى الاستهداف المستمر لقوات الاحتلال الفرنسي، التي شنّت عليها هجوماً مسلحاً في أكثر من مناسبة، عقاباً على مساندتها جيش التحرير وتعبيرها عن تضامنها ودعمها للثورة الجزائرية، التي تهدد نفوذ ووجود فرنسا في الجزائر، إحدى أهم مستعمراتها.

وكان أول هجوم مسلح تعرضت له الساقية في سياق ملاحقة عناصر جيش التحرير الوطني، يومي 1 و2 أكتوبر/تشرين الأول 1957. تلاه هجوم ثانٍ يوم 30 يناير/كانون الثاني 1958، بعد أن تعرضت طائرة فرنسية لنيران جيش التحرير الوطني.

وكان الهجومان تمهيداً لمجزرة أكبر وأبشع سُفك فيها كثير من الدماء، وبقيت شاهدة على وحشية الاحتلال.

أحداث ساقية سيدي يوسف.. مجزرة وحشية

أمام الدعم الكبير الذي حصلت عليه الثورة الجزائرية من مختلف المكونات السياسية والمدنية في تونس ومن عديد المناطق الحدودية بين البلدين، كان لا بد للاحتلال الفرنسي من التخطيط لهجوم كبير يسبب فيه القطيعة بين الشعبين ويدفع التونسيين إلى التخلي عن دعم ثورة التحرير.

فوجّهَت نيران المحتلّ ومدافعه يوم 8 فبراير/شباط 1958 نحو ساقية سيدي يوسف التونسية الحدودية، التي تُعَدّ أحد أهمّ المعاقل التي احتضنت الثوار الجزائريين.

ولم يكن اختيار ذلك التاريخ لشنّ الهجوم اعتباطاً، إذ صادف ذلك يوم السوق الأسبوعية في المدينة، التي يحتشد فيها عدد كبير من المدنيين التونسيين، ويتوافد إليها عدد كبير من الجزائريين لتسلم المساعدات والمعونات الغذائية من المنظمات.

ومع حلول الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم، غطت أسراب من الطائرات القاذفة والمطاردة سماء ساقية سيدي يوسف وشنّت غارات وقصفاً متواصلاً استمر أكثر من ساعة.

واستهدف القصف، حسبما ذكرت مصادر تاريخية، مباني حكومية ومدارس ابتدائية وعديداً من المحلات والمنازل التي كان يشتبه في إيوائها عناصر جيش التحرير الوطني الجزائري.

ووفق إحصائيات رسمية، أسفر الهجوم الذي امتزجت فيه دماء الشعبين، عن سقوط نحو 68 قتيلاً بينهم 12 طفلاً و9 نساء، إلى جانب 87 جريحاً من التونسيين والجزائريين.

أثارت أحداث ساقية سيدي يوسف، التي كشفت عن وحشية وهمجية المستعمر الفرنسي، ضجة إعلامية دولية، أدانتها على نطاق واسع.

وبينما كان المحتلّ الفرنسي يأمل ردع التونسيين عن دعم الثورة الجزائرية، مكّن الثورة بذلك الهجوم من دعم دولي، وإصرار للشقيقة الشرقية على تقديم مزيد من الدعم لها.

ويُحيِي التونسييون والجزائريون منذ ذلك الوقت هذا التاريخ الذي كان شاهداً على التضامن المشترك بين البلدين في مقاومة الاستعمار الفرنسي.

TRT عربي