صدر حديثًا عن دار الرواق للنشر والتوزيع، كتاب «سيدة إنجليزية فى مصر» للكاتبة الروائية والمترجمة خميلة الجندى، يأتى الكتاب فى سياق كتب الوثيقة التى تعد بمثابة شاهد على الحياة فى مصر فى فترة تبدو غائمة من التاريخ، وبعين سيدة إنجليزية سجلت انطباعاتها عن الحياة فى مصر خلال الفترة من ١٨٤٢ حتى ١٨٤٤. يجيب الكتاب عن سؤال: ماذا نعرف عن الحياة فى مصر فى أعقاب معاهدة لندن ١٨٤٠؟ وكيف أرخ المستشرقون لتلك الحقبة؟

يضم الكتاب ثلاثين رسالة كتبتها الإنجليزية صوفيا لين بول أثناء إقامتها فى مصر خلال الفترة بين ١٨٤٢ إلى ١٨٤٤، وقد كان الهدف الأول من الزيارة كما أوضحت لين فى مقدمة كتابها هو الانضمام لصحبة أخيها المستشرق الإنجليزى المعروف إدوارد ويليام لين، وقد اشتهر ويليام لين بولعه بمصر والشرق، وقضى سنوات بين بلاد الشرق حتى أصبح من أشهر المترجمين المستشرقين، وله ترجمة خاصة بألف ليلة وليلة، كما ترجم مختارات من القرآن الكريم إلى الإنجليزية.

من الواضح أن الشغف بالشرق انتقل إلى أخته صوفيا، فعلى الرغم من تفسيرها لسبب زيارتها، الذى لم يكن بدافع الاستكشاف الخالص، إلا أنها وجدت شغفًا فى كشف ما لم يُكتشف بعد فى المحروسة من مظاهر حياة اجتماعية ودينية وثقافية، خاصة أن المستشرقين من الرجال لم تتسنَّ لهم الفرصة كاملة للتعرف على الحياة بجانبيها: الذكورى والنسائى.

وجدت لين فرصة ذهبية فى الولوج إلى الحرملك والحمامات لتصبح رسائلها شاملة وافية لا ينقصها أى مظهر من مظاهر الحياة فى مصر آنذاك.

تضم رسائلها الثلاث الأولى وصول صوفيا إلى بر مصر عن طريق الإسكندرية، وتوفر لين وصفًا دقيقًا لحال ذلك الميناء الذى تقلصت قداسته وأهميته جراء ما ألمّ بوضع مصر الاقتصادى فى أعقاب المعاهدة.

كما تزودنا الرسائل بوصف دقيق للآثار الرومانية- كـ«مسلة كليوباترا وعمود السوارى»- فى الإسكندرية وكيف كانت حالتهما رثة ومهملين فى تلك الآونة.

تستمر رحلة لين فى بر مصر لتصل إلى القاهرة، ولكنها لا تغفل أن تكتب لصديقها عن رحلة السفر عبر النيل الخالد من الإسكندرية إلى المحروسة، وما شهدته من مظاهر الحياة الريفية، والقرى التى توقف عندها المركب خلال رحلتها.

ويعرض الكتاب طقوس «ريس» المركب وأتباعه قبل بدء الرحلة المتمثلة فى قراءة سورة الفاتحة والصلاة. 

ثم تصل لين إلى بر المحروسة ومن هنا تبدأ رحلة الرسائل بأكملها. تُحدثنا لين عن كل شىء: عن طاعون الماشية، وطاعون البشر، وطقس مصر وتنوعه، والفرق بين الهبة الرملية والطوز، ومتى تُزرع الأرض وتُحصد، بل قدمت الرسائل كتالوجًا كاملًا لشهور السنة القبطية- المرتبطة بعملية الزراعة- وما يتم فى كل منها وأحوال الطقس فى تلك الشهور.

دلفت لين إلى الأهرامات، فحدثتنا بدقة عن حالتها من الداخل، وغرفة الدفن، والغرف المُلحقة، والسراديب وكيفية الوصول إليها. وكما ذكرنا فإن درة الرسائل كانت رحلاتها إلى حرملك كبار رجال المحروسة وحرملك محمد على فى القصور وحتى قلعة الجبل، لأن غيرها من المستشرقين لم يستطيعوا بصفتهم رجالًا أن يلجوا تلك الأراضى الحصينة الخفية عن الأعين، وتميزت رسائل لين كذلك بحكايتها عن الحمام، هذا المعقل الغريب تمامًا عن ثقافة الغرب وتقاليده. 

يُعد الكتاب الذى عكفت مترجمته خميلة الجندى على تجميعه نظرًا لتفرق الرسائل بين جزءين وإصدارين مختلفين دليلًا ومرجعًا للباحث المهتم برؤية مصر آنذاك بعين مغايرة، والتعرف عليها بعيدًا عن سجلات التاريخ الراسخة أو التقارير الواردة من قلعة الجبل، لأن لين تُقدم نظرة محايدة تخبر القارئ عن الحقيقة المجردة عن حوادث الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية، بل وما ألمّ بمصر من أمراض وخيرات وما دار فى أروقة الحرملك والحمامات.