فى عتمة البحر

«لو شاءت الأقدار لاكتملت أركان عشقى، واستدار الزمان وعاد بنا إلى نقطة البدء، ولأضاء بريق عينيها ما بين جوانحى».

تسلل إلى أذنى صوتها الدافئ، همست بنبرة يعتصرها الحزن؛ لتخبرنى أن الرحيل قادم لا محالة، وأن القيود لا يمكن أن تنكسر تحت وطأة الحب الجارف.

تذكّرت حديثها الأول، لقد أخبرتنى أن الحب لا يعرف قيدًا، ولا يتقيّد بالمسافات، إنه كالماء الذى يشق طريقه بين مسامات الحواجز، حينها وقفنا فى نفس المكان الذى نقف فيه الآن، البحر من أمامنا، أقدامنا تنغرس فى رمال الشاطئ تاركة بصمتها كى تمحوها الأمواج بمجرد أن نغادر.

يتسلل إلى أذنى صوتها الحزين، تهمس وهى شاردة فى عتمة البحر: 

- الليل على وشك الرحيل، لون بشرة السماء يتفتّح، النجوم تلملم ضوءها لترحل، أنت تعرف أنى سأرحل عند الفجر. 

قلت بابتسامة تخفى القلق وراءها:

- إذن فليتأجّلُ مجىء الفجر.

نحن واهنون كثيرًا، لنا فى كل وردة شوكة تطلُّ برأسها، ولم يكن بإمكاننا أن نقطف وردتنا بحذر، ونلقى بالشوكة بعيدًا، جلسنا فى صمت نستمع إلى صوت البحر، كل ما يشغل تفكيرى هو أنها لن تكون جالسة بجوارى بعد الفجر، إن الوقت فى مثل تلك المواقف يهرول كما لو كان يسابق الضوء، لو أننى كالهواء؛ لتسللت إليها عبر ثقب إبرة، أقبض على يد الرحيل فلا تتمكن من تفريقنا، ولا أهدأ إلا فى رئتيها اللازورديتين. 

قمنا من جلستنا، سرنا نحو الرصيف الممتد أمام البحر، والذى ما زال يحتفظ ببعض الجالسين، أوقفتنى عند عربة تبيع البطاطا المشوية، جلسنا فوق سور الرصيف القصير لنأكل، أرادت أن تقطع وصلة الصمت التى طالت، فسألتنى:

- ماذا ستفعل فيما بعد؟

قلت:

- سأكون «سيرانو دى برجراك» آخر. 

ابتسمت بمجرد أن سمعت إجابتى وقالت:

- أقسم إنك مجنون.

فى الليلة التالية...

«قد يكون البقاء على قيد الحياة مؤلمًا أحيانًا».

كانت الساعة الواحدة صباحًا، سرت وحيدًا فوق الرمال دون هدف، لا أعلم لماذا جئت إلى البحر فى ذلك الوقت، ربما لأننى من الممكن أن أنفض ذكرياتى ها هنا، عبرت آخر برج للمراقبة، تابعت سيرى حتى ابتعدت عن المدينة، أرهقنى السير فجلست فوق الرمال المبتلة، لا أفعل شيئًا سوى النظر إلى عتمة البحر.

لماذا لا يغادرنى صوتها؟

ترنُّ الآن فى أذنى كلماتها التى كانت دائمًا ما ترددها:

- طريقنا كالأعداد الطبيعية، ممتد إلا ما لا نهاية.

الحقيقة أن أقرب شىء منّا دائمًا هو النهايات، تحدث دون إنذار مسبق، مهما حاولنا إبعادها، أو تفاديها فإنها تحدث حتمًا، لماذا اختارت عائلتها أن تهاجر إلى الأبد وتصطحبها معها؟ 

لماذا لا يقرر كل شخص مصيره بنفسه؟

فى طريق عودتى، كنت كالماء المسكوب الذى لم تحتوه سوى شقوق أرض قتلها الظمأ، مشيت مقوَّس الظهر محنيًا كهلال، لقد عرفت الآن لماذا كانت تتحدث دائمًا حول الرحيل فى الآونة الأخيرة، ولماذا كانت تختار مكان لقائنا أمام البحر ليلًا، لا بد أنها كانت تمهّد لى كى تخفف من وطأة الواقع الذى أعيشه الآن.

ما إن اقتربت من مكان جلوسنا فوق الشاطئ انحدرت باتجاه الرصيف، تملّكنى شعور غريب أن كل ما حولى غريب، صوت البحر، ليله المعتم، حتى ذلك الرصيف الذى أرهقته ذهابًا وإيابًا، وكأنى أسير عليه للمرة الأولى.

لم أعرف عن عوامل التعرية إلا ما درسته فى كتب الجيولوجيا، ولم أرَ من آثارها إلا ما تركته فوق وجه الصخور التى نحتتها بقسوة، ليس من السهل على جيولوجى مثلى أن يشعر بما تحملته الصخور من ألم إثر افتراس عوامل التعرية لها، أنا الآن كصخرة تنحتها الرياح المحملة بالرمال الناعمة، مستسلمًا حدَّ الموت.

ليلة شتاء ما...

المطر المتساقط يخترق جسدى كرصاص طائش، أشعر وكأنى ورقة تملؤها الثقوب، ولكنى أواصل سيرى فوق الشاطئ كعادتى كل ليلة.

تجمّدت فى مكانى بمجرد أن سمعتها تتحدث، نظرت صوب الناحية التى جاءنى منها الصوت، فوجدتها فتاة أخرى تتحدث فى الهاتف، كنت أظن أننى الوحيد الذى يأتى إلى الشاطئ ليلًا فى شتاء بارد ومظلم، حاولت بقدر كبير أن أظل على مقربة من الفتاة، أريد أن أعرف كيف تطابق الصوتان إلى هذا الحد؟! ولولا أنى أعرف أنها هاجرت دون رجعة لقلت إنها هى، حتى وإن تغيرت الملامح.

أفيق من شرودى على تغيّر نبرة الصوت، أنظر إلى الفتاة التى ما زالت تتحدث بصوت مختلف الآن وهى تبتعد، لقد منحنى الحظ فرصة كى أستمع لصوتها، ولا أعرف إن كان سيمنحنى فرصة للقاء آخر أم لا.

الشىء الذى لم يسلبه القدر منى حتى الآن هو تلك العادة التى لم تنقطع، وقدرتى على سرد تفاصيل السنوات التى كتب لها القدر أن تنتهى، حينما أجلس كل ليلة فوق الشاطئ أمام البحر المعتم، أستمع إلى وشوشاته وصخب الأمواج المتلاطمة، وأتذكّر ما مضى.

تاريخ الخبر: 2022-02-19 21:21:02
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 47%
الأهمية: 57%

آخر الأخبار حول العالم

أخنوش..الحكومة استطاعت تنفيذ جل التزاماتها قبل منتصف الولاية

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-09 00:24:54
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 56%

العالم يسجل ارتفاعا غير مسبوق في درجات الحرارة خلال أبريل

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-09 00:24:57
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 52%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية