بقلم: عصام الهيشو
يحثُّ الخطى مُسرعا قاصدا غير لاهٍ بالحركة الدائبة حوله، ولا يعبأ بأي حاجز يصدّه عن الوصول.. ترَ حاله من فرط وَجْدِهِ كأنّه صورة قلب يحمل بين يديه قفصه هامسا في أذنيه: هَلُمَّ بنا نقطع فَيافي الغفلة والضُّمور نحو بساتين اليَقظة والحُبور.
بعد هروبه من لهيب شمسِ الحياة وسِياط رمل الأغيار، أوصلته رياح شَوقِهِ نحو الباب ليطرقها بأظافره كنقر الطَّير بحثا عن الغذاء.. -كلٌّ وغِذاؤه-
تَنسدل أستار غُربته وظُلمة جُوّانيته، بفتح الباب واستقبال البواب له بابتسامةٍ هدَّأت من روعِهِ، ويدٍ حَانية خفَّفت من مُصابه.. وبصوت رخيم قائلا:
مرحبا بك…
يخترق البيت، مقدّما يُمناه، يتلقفه عبير الزَّهر أو العنبر يتأرّج المكان، يضفي على كيانه إحساس جميل سرى بين جوانحه كأنه نسمة صافية من عالم آخر.
يفترش الأرض جاثيا على ركبتيه، يغمره دِفء إخوته في جوِّ من السَّكينة والوقار، والجميع مستقبل القِبلة لا تكاد تسمع سوى فرقعة حبّات السُّبَح، تتبعها همسات الكلمة الطيّبة -لا إله إلا الله-، في لحظة ارتشاف واغتراف من حِياض النّور. وكأن كلّ واحد منهم منشغل في ترقيع ثوب إيمانه وتجديده.
ثم بعدها يشع البيت بضوء مريح غير مزعج، ليتحلّق القوم حول مأدبة ترقُّ لها القلوب، وتهيم بها الأرواح قُربا وطَربا.. فيتقدّم أحدهم بوجه ظاهرِ الوضاءة، يحتضِنُ بين يديه كتاب إمام القلوب -الإحسان- ينتقي منه أطايِبَ الكَلِمِ كما ينتقِي آكلُ التَّمرِ أطايبَه.
تسمع منه حديث القلب عن القلب، في كلمات كأنها لآلئ نور تنفذ إلى القلب، تجلو الصدأ عنه، وتزيح عن مرآته غبش الأكدار والهموم، في مشهد كأنّ صاحب هذا الخير يُربِّت على أكتاف الحزانى والحَيارى.
هي حقا مجالس خير تستنهض الرِّاقد وتستحثُّ الفاتر وتنادي ذوي الهمم العالية إلى مأدبة الله، بالكينونة مع أهل الإيمان، والتطلّع لمراقي الإحسان.
هكذا هو بستان الصُّحبة يغدق على كل آت إليه بسوابغ النِّعم وسَوانح الكرم، وينقل كلّ متفيئٍ ظلاله، من غَيَابةِ الجُبِّ إلى عِنايةِ أهل الحُبِّ، وينتشل السّائر فيها من مدافن الشَّقاء إلى منازِلِ أهل الصَّفاء.
[ اللهم أدِّ عنّا شُكر نعمك ونعوذ بك من السَّلب بعد العطاء، واجعلنا دائما على بِساط العهد والوفاء لمن قال لنا: من هنا الطريق.. من هنا البداية، وارزقنا الأدب والتعظيم لكل من دلّنا على الله.. والحمد لله رب العالمين.]
– كلمات كتبت بعد غياب عن مجالس الإيمان، غيّبني عنها المرض. عافاني الله وإياكم من كل مكروه.