يسرى الجندي.. حارس التراث الشعبي

ينتمى يسرى الجندى، مواليد دمياط «٥ فبراير ١٩٤٢- ٩ مارس ٢٠٢٢»، إلى جيل السبعينيات فى المسرح المصرى، فقد بدأ الكتابة فى منتصف الستينيات بمسرحية «اليهودى التائه»، وقد عبّرت عن أسلوبه وموقفه من الواقع، فهو ينتمى إلى آخر جيل ظل متمسكًا ومؤمنًا بقيمة النص وقضايا الواقع، واضعًا فى الخلفية ما يجِد من أحداث سياسية، فهو ابن لحظة فارقة/ مفصلية فى تاريخ مصر والأمة العربية، اللحظة التى هوت فيها مطرقة ١٩٦٧ على المجتمع العربى، حيث سقطت أفكار وانتهت أحلام، كانت نهاية مرحلة وبداية أخرى، فهو من كتّاب المسرح الذين صعدوا إلى خشبة المسرح المنهارة مع مواطنه أبوالعلا السلامونى ورأفت الدويرى، كما وصفهم الراحل فاروق عبدالقادر، وللتوصيف دلالة مهمة سوف تتضح بقوة فى مشوار هذا الجيل! 

بدأ الكتابة فى نفس لحظة دخول المسرح المصرى المنعطف التجارى

فى تلك اللحظة تشكّل وعى يسرى الجندى، وكتب أولى مسرحياته بوحى من الفتى الفلسطينى بشارة سرحان، الذى أطلق النار على روبرت كينيدى فى الذكرى الأولى لهزيمة ٦٧، وحمل المسرحية بالعديد من الرموز والدلالات والإشارات الدينية من التوراة والإنجيل، وحفلت بعشرات الشخصيات التاريخية من «تيودر هيرتزل» إلى «مناحم بيجن» ومن «نبوخذ نصر» إلى «هتلر»، بالإضافة إلى شخصيات الانتداب الفرنسى والبريطانى، فقد حاول أن يقول كل شىء فى هذه المسرحية مستخدمًا العديد من الاتجاهات المسرحية، حيث حفلت بمجموعة كبيرة من الأساليب، منها الدرامى والملحمى والواقعى والرمزى والوثائقى، بالإضافة إلى الأفكار الثورية والشخصيات التاريخية، حيث جاءت المسرحية فى قسمين يحتوى كل منهما على عشرة مشاهد توحى عناوينها برؤية المؤلف، وصودرت المسرحية ليلة العرض عام ١٩٧٢ فى مسرح الحكيم من إخراج د. محمد صديق وبطولة كرم مطاوع وعايدة عبدالعزيزة، وتكونت لجنة المشاهدة من د. رشاد رشدى وعضوية عبدالمنعم الصاوى وآخرين، وتم عرض المسرحية كبروفة جنرال ولم يتم اعتمادها كعرض مسرحى للجمهور، وفيما بعد تم عرضها من إخراج عباس أحمد ضمن عروض الثقافة الجماهيرية فى بورسعيد، وحين أعيد عرضها فى مسرح الهناجر عام ٢٠٠٧ من إخراج حسن الوزير أثارت جدلًا كبيرًا أيضًا، وتبادل فريق العرض والمسئولون التهم حول أسباب توقف العرض! 

وكان هذا النص الذى عانى كثيرًا من المنع والمصادرة شهادة ميلاد يسرى الجندى الذى ظل بعد ذلك قابضًا على جمر النص المسرحى وقيمته ودوره، ودور الكلمة فى كل أعماله المسرحية والسينمائية والتليفزيونية حتى رحيله، على الرغم من أن هذا الجيل الذى تلا جيل الستينيات تفرقت به السبل، إذ تخلى أغلبه عن القضايا الكبرى فى الواقع، واتجه إلى النقد الاجتماعى والكوميديا، بل وتخلى هؤلاء عن قضايا الشكل والأسئلة التى طرحت بعد يوليو، وبالتحديد ١٩٥٧، ومغزاها: هل مسرحنا مسرح شعبى أم مسرح للمثقفين؟ وهل هذا المسرح وثيق الصلة بتراث هذا الوطن فى فنون العرض المسرحى، أم مسرح مستورد معرب؟ وأنتجت هذه الأسئلة مجموعة من الأعمال المسرحية التى تستلهم التراث العربى وتحاول تأصيل الشكل المسرحى العربى فى هذه الأعمال، بالإضافة إلى النظريات الدرامية ومنها قالبنا المسرحى لتوفيق الحكيم، وظنى أن يسرى الجندى من القلائل الذين أكملوا المسيرة حول هذه الأسئلة حتى أيامه الأخيرة، وعلى الرغم من اللحظة التى بدأ فيها الكتابة والتى واكبها خروج قطار المسرح المصرى وانحرافه عن قضاياه، ودخوله منعطف المسرح التجارى بكل تجلياته فى السبعينيات، صمم يسرى الجندى على إكمال المسيرة. 

لقد جاء هذا الكاتب وهو يعلم بثقافته الموسوعية فى سن مبكرة وموهبته الاستثنائية أن التربة قد تم تمهيدها من خلال الجيل السابق الذى فتح خزائن التراث الشعبى فى ستينيات القرن الماضى أمثال «ألفريد فرج، يوسف إدريس، شوقى عبدالحكيم، محمود دياب» وغيرهم، فراح بعد اليهودى التائه ينهل من التراث بوعى شاب يعيش مرحلة ما بعد الهزيمة وانهيار الحلم القومى الذى كان! وتوالت أعماله التى تناقش وتستلهم التراث برؤية معاصرة، وكتب أعماله فى هذا الاتجاه مستعينًا بشخصيات من التراث العربى تحتل جزءًا كبيرًا فى الوجدان العام لتلعب دور البطولة فى أعماله ومن خلالها يطرح أسئلة اللحظة الراهنة، ويناقش الحاضر من خلال أحداث الماضى، فحملت مسرحياته وأعمالة التليفزيونية أسماء «عنترة- أبوزيد الهلالى- على الزيبق- رابعة العدوية- جحا المصرى- على بابا- الظاهر بيبرس- عبدالله النديم - طارق بن زياد- يوسف الجندى رئيس جمهورية زفتى- هدى شعراوى، أحمد شوقى وحافظ إبراهيم فى وادى الجن، الصحصاح بن على فى عرض الساحرة» هذا بالإضافة إلى الأحداث الكبرى فى التاريخ العربى التى كانت محورًا رئيسيًا فى أعماله مثل القضية الفلسطينية، حادثة دنشواى، سقوط الخلافة وغيرها. 

إيمانه المقدس بالنص المسرحى كان نابعًا من ثوابت وقيم لم تتغير

من يتأمل أعمال يسرى الجندى على مدى نصف قرن بين المسرح والدراما التليفزيونية والسينما سيجد أن لديه ثوابت وقيمًا لم تتغير، رغم كل الصعوبات التى واجهها بسبب تمسكه بهذه القيم، وهى الإيمان المقدس بالنص المسرحى/ الكلمة أو النص المكتوب، الإيمان المقدس بقضايا الأمة العربية، حاضرها وماضيها ومستقبلها، الإيمان المقدس بأن التاريخ بطولة جماعية، وأن البطولة الفردية غالبًا ما تفشل، وفى نصوصه المسرحية غالبًا مايكون الكورس حاضرًا وله دور كبير ومؤثر، والكورس هو ضمير الجماعة، بالإضافة إلى اختيار شخصيات تحتل جزءًا كبيرًا فى الوجدان العام التاريخى والشعبى، المصرى والعربى، استلهام أشكال التراث العربى، ناهيك عن أن انحيازه إلى المسرح الملحمى لم يكن إلا رغبة فى التأكيد على رؤيته السياسية والاجتماعية وطرح قضايا الإنسان العربى، ومنها الحرية والعدالة، وكان أسلوب التغريب البريختى مناسبًا لهذه القضايا، وتوالت أعماله التى حاول من خلالها السعى إلى تأصيل شكل مسرحى عربى وبدأ بمسرحية «بغل البلدية» المأخوذة عن نص «السيد بونتيلا وتابعه ماتى»، ثم حكاية «جحا والواد قلة» المأخوذة عن «دائرة الطباشير القوقازية» وكلاهما للألمانى بتولد بريشت، وكانت أول عرض ليسرى الجندى فى مصر مع فرقة السامر ٧١، وتلاها «على الزيبق» ثم عرض حكايات الزمان مع النديم وأخناتون ١٩٧٢، وصولًا إلى آخر عروضه على المسرح القومى «الإسكافى ملكًا» من إخراج خالد جلال، ومرورًا بعشرات العروض المسرحية فى القاهرة والأقاليم التى استلهم فيها يسرى الجندى التراث الشعبى والتاريخ فى محاولة جادة لقراءة الواقع وطرح أسئلة اللحظة الراهنة من خلال نموذج البطل الذى يحرص يسرى الجندى على الاستعانة به دائمًا من خلال مواصفات حددها فى هذا البطل/ المخلص الفاعل الذى يمتلك القدرة على فعل التغيير فى مواجهة حتمية الشر، فهذا البطل ربما يفشل مثل عنترة أو أبوزيد الهلالى أو يواجه الصعوبات العديدة مثل على الزيبق، ربما يلقى حتفه مثل معروف الإسكافى، ولكن بعد أن يكون قد بث الأمل والحلم فى قلب الجماعة، فهو عبدالله النديم، ويوسف الجندى، وحتى جحا وغيرهم، البطل يستمد قوته من الجماعة، وحين وضع جمال عبدالناصر فى الدراما التليفزيونية، كانت هذه المواصفات حاضرة البطل الذى عاش بقوة انحيازه للجماعة الشعبية ودعمها له. لذلك كان دائمًا ما يحذر من النبرة التى تدعو إلى فصل السياسة عن الفن، والذى أدى إلى حصار الكلمة فى المسرح المصرى.. وحاول عام ١٩٩٤ إقامة أول ملتقى علمى للمسرح العربى فى مصر ولم يستمر سوى دورة واحدة، وظل سنوات طويلة ينادى بعودته، فكان يعى جيدًا أن الثقافة الوطنية مستهدفة بحكم تعلقها بفكرة الوطنية للدول النامية وهى ذات بعد سياسى واقتصادى، وكان يؤكد أن طمس الثقافة الوطنية أمر شديد الإلحاح لدى الدول التى تستهدف مصالح فى المنطقة العربية، وأن ما يحدث للمسرح مقصود به طمس وضرب أداة مهمة من أدوات الهوية الوطنية، فكل من الثقافة والوطنية دعم للآخر. 

لذلك جاءت أعماله فى المسرح والدراما التليفزيونية محاولة مستمرة وممتدة على مدى مشواره الطويل فى الكتابة لتحويل التراث إلى دراما، إلى لغة فنية خاصة، توهم المشاهد بأنه فى عالم مغاير مع استحضار الروح الخاصة بالتراث بأكثر من أداة، وفى نفس الوقت ظل العالم الخاص للمبدع الذى يعيش اللحظة الراهنة حاضرًا من خلال كل أعماله، اللحظة الراهنة بكل تجلياتها وقضاياها ومزج هذين المستوين هو المعادلة الصعبة التى سعى إلى تحقيقها يسرى الجندى على مدى ما يقرب من ستة عقود فى صناعة الدراما لخلق نوع من التوازن الدقيق بين روح التراث والواقع. 

تاريخ الخبر: 2022-03-10 18:20:58
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 67%

آخر الأخبار حول العالم

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:39
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:45
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية