عندما قال لي "كل ما قدمته عبث".. عن يسري الجندي الذي صنع طفولتنا

في فبراير 2018، زرت الكاتب المسرحي الكبير يسري الجندي في منزله بمنطقة "الفردوس" بمدينة 6 أكتوبر. كان اللقاء لإجراء حوار صحفي. وكان أول ما سألته عن رؤيته بعد تلك السنين لمنجزه الدرامي والمسرحي. كان سؤالي تقليديا، لكن جوابه هو ما سرق انتباهي، قال لي الرجل بعد نظرة قصيرة: كل ما أنجزته درب من دروب العبث.

حكى إنه كان جالسًا في غرفته ذات يوم، يكتب كعادته، حين أتاه هاجس أن يخرج إلى الصالة. وعلى بعد خطوة لمح ألسنة اللهب تتراقص كأفعى. كانت نيرانا مستعرة، تمد يدها من المطبخ وتحاول الوصول إلى الصالة، علها تلتهم الأثاث أو ربما البيت كله. ساعده المطبخ الأمريكاني في أن يرى النيران من بعيد، لكنه أيضا ولّد داخله الخوف من وصولها إلى باقي غرف البيت. 

كان عليه أن يستعين بأحد على النار، ومن ثم، هرول قدر استطاعته إلى البواب، لكن الكاتب الكبير الذي يعاني مشكلات في القلب، توقفت خطواته، فلم يقدر على إحضار البواب الصعيدي، أو حتى الرجوع إلى النار ومواجهتها. في تلك الأثناء، استيقظت زوجته، وهي التي استطاعت أن تطفئ النيران، ولا يعرف كيف فعلت ذلك. 

لم يكن إطفاء النيران هو المعجزة التي جعلته يؤمن أن ما قدمه من إبداع شكّل وجدان جيلي -مواليد التسعينيات- واحتل جزءا من ذاكرتنا، "دربا من دروب العبث"، بل ما وقع بعدها بأيام، فقد فوجئ بزوجته مستيقظة من نومها لا تعرف أين هي أو مَن هي. أصابتها جلطة في مركز الذاكرة في المخ. وكأن النار التي سلبتها الزوجة القوية هويتها، سلبتها بدورها الذاكرة.

هذا الحادث غير مفهوم ليسري الجندي عن الحياة. قال إنه كان يعيش دون النظر إلى بيته، ورغم حبه الشديد لزوجته وأولاده فإنه ظل مشغولًا بالحياة عنهم: ومن هنا تنبهت إلى أن كل ما حولي عبث، وأنني أريد أن أخدم هذه السيدة حتى آخر نفس. وأعتقد أن الله مد في عمري إلى الآن، لكي أخدم هذه السيدة التي تحملت معي الكثير".

تلك النظرة الصوفية إلى الأمور، التي اتسم بها حديث الكاتب المصري الكبير، الذي رحل عن عالمنا الأربعاء، عن عمر ناهز ٨٠ عاما، كانت واضحة في الحديث عن والدته أيضا. قال إنها كانت تملك حسا صوفيا، أقرب للمكاشفة، كانت تتحقق أحلامها بشكل يثير التعجب، كما كانت تحس الأشياء قبل حدوثها أحيانا: كان لي صديق في شبابي، وذات مرة، ونحن جلوس، وقفت تسائل عنه، ثم أخبرتني أنها تشعر به في ضائقة. كان صديقي هذا قد تعرض لحادث في ذلك الوقت تحديدا.

تحملنا الأم إلى الدنيا، ويردنا ذكرها إلى الطفولة. لم أقصد طفولته التي هي ميلاد يسري علي الجندي في ٥ فبراير عام ١٩٤٢ بمحافظة دمياط. بل قصدت طفولته المسرحية، واكتشافه أن العالم بالنسبة له، ليس كرويا، بل مربع الشكل، يقف فيه ما بين الليل والنهار ستارة.

كان طالبًا وقت ذهب إلى فريق التمثيل بالمدرسة، وجدهم فريقًا ضخمًا ومتميزًا، وكانوا يستعدون لتقديم "ماكبث": عند تشكيل "الكاست" قلت لهم، أريد أن أقدم شخصية "ماكبث"، فقال لي أحدهم اجلس هنا وسنجد لك دورًا مناسبًا، لأنني كنت نحيف الجسد وهذا أغاظني كثيرًا. 

لم يرض يسرى الجندي أن يجد له أحد دوره المناسب، بل راح يبحث عنه مع من لهم نفس نحافته. وصنع بهم فريقا، وألّف لهم نصا مسرحيا، وأخرجه. كانوا يقيمون البروفات في الفصل، لكن ذلك لم يمنع أن تخرج المسرحية متقنة، فافتتحت بها إدارة المدرسة حفل ختام العام: كنت متأثرًا وقتها بـ"نجيب الريحاني"، فكتبت مسرحية "منصور أفندي" وكانت تلك بدايتي مع عالم الكتابة.

استمد يسري الجندي مسرحه من التراث المصري. حيث كانت "بغل البلدية" من بواكير أعماله، والتي كتبها عام 1969 بالعامية مستلهمًا التراث الدمياطي. بل يظل يدافع عن رأيه في أن المسرح يقدم للجماهير، ناصبا العداء في وجه تبني فاروق حسني، وزير الثقافة المصري الأسبق، للمسرح التجريبي، على حساب الأشكال الأخرى. 

رغم ذلك شهدت بدايات يسري الجندي مسرحا تجريبيا، أي إن رأيه لم يكن تعنتا من الفراغ، بل نتاج تجربة خاصة، دفع ثمنها من صحته.

كان ذلك بعد تأديته للخدمة العسكرية، حيث كوّن فرقة بدمياط، حملت اسم "جماعة المسرح التجريبي" قبل أن يكون هناك مسرح تجريبي، قال عنها: كان التجريب هنا بمعنى أننا اطلعنا على ثقافة المسرح بأنفسنا، ثم كتبنا أول مسرحية لنا ومثلناها، لكنها فشلت فشلًا ذريعًا، وكنت فيها المؤلف والمخرج والبطل، لكن المشكلة الحقيقية أننا كنا نخاطب الناس، وكأننا صنعنا هذا المسرح لأنفسنا، كانت المسرحية بالفصحى، وكان الديكور من دورين، وتناقش قضية المثقف في دول العالم الثالث، عرضناها برأس البر للمصطافين على الشواطئ، وقتها هاجمونا، حتى إنني حزنت كثيرًا بعدها، ومرضت بسببها.

كتب يسري الجندي 19 عملا مسرحيا، من بينهما: عنترة - الهلالية - رابعة العدوية - المحاكمة - علي الزيبق – وا قُدساه - الساحرة".. لكن يظل "ما حدث لليهودي التائه عن المسيح المنتظر" هو العمل الأكثر إثارة للجدل، والذي أكسبه صفة "معادٍ للسامية". وقد عرضت أول مرة عام 1972 على مسرح الحكيم، وأوقفت ثم أعيد عرضها عام 1988 تحت اسم "القضية 88"، ثم على مسرح البالون عام 1993 تحت اسم "السيرك الدولي"، ثم في عام 2007 تحت اسم "القضية 2007"، وأوقفت مرة أخرى.

"ما حدث لليهودي التائه" هو تراث عالم قوامه أسطورة تحكي أن رجلا استعجل المسيح، بينما كان يحمل صليبه، ليعلقوه، فقال له المسيح: "أنا سأمشي، لكن أنت جالس"، وظل اليهودي التائه حيًّا حتى الآن، وهو نص يتناول كل ما يثار على لسان الحركة الصهيونية، وكل ما تسبّب في المأساة الفلسطينية، لذلك حُوربت هذه المسرحية بشدة، سواء في الداخل أو الخارج. وقال عنها مؤلفها: "اليهودي التائه" غرابتها في التربص بها، فما إن عرضت حتى كتبت صحف اليهود أنني مُعادٍ للسامية، وهي اللعبة السخيفة التي يصدرونها لكل شخص يفضح أكاذيبهم.

لم ينفصل يسري الجندي عن القضية الفلسطينة طوال حياته، حتى في عزلته الاختيارية، كان يضع فوق مكتبه صورة تجمعه بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. كذلك عاش معاديا للصهيونية. هو لم ينسَ يوم عودته من قبرص، مشتبكًا مع مجموعة أجانب كانوا ينظمون موتمرًا هناك، بعدما أرادوا أن يصنعوا من مصر شبكة مسرحية تضم اليونان وإسرائيل وتونس وتركيا وغيرها. قال لهم يومها: افعلوا ما تريدون لكن مصر تتبع الثقافة العربية المعاصرة.  ودخل معهم في جدل أفسد عليهم المشروع، ثم رجع بعدها إلى مصر، قاصدا حسين مهران، رئيس الثقافة الجماهيرية، مقترحا عليه تنظيم مهرجان للمسرح العربي، وهو ما كان بموافقة وزير الثقافة فاروق حسني، بعد حملة صحفية كبيرة أجبرته على الموافقة، بما لا يضر بمسرحه التجريبي، حيث اقترح أن يسموه "ملتقى" بدلا عن "مهرجان".

أيضا استمد يسري الجندي أغلب أعماله الدرامية من التراث، سواء العربي، مثل "السيرة الهلالية" عام 2001، التي حقق بها الفنان أحمد عبدالعزيز نجاحا جماهيريا كبيرا. وقد قصصت عليه كيف كان تأثرنا به في طفولتنا، حتى إننا صنعنا سيوفا من جريد النخيل، أسوة ببطل العمل، فحكى لي كيف تملص أحمد عبد العزيز من المسلسل بحجة أنه أصيب بمرض البهاق، جراء وضع المساحيق على وجهه، وأن الأطباء نصحوه بالابتعاد عن ذلك. 

وقد صنع ذلك تخبطا في جزأيه الثاني والثالث، بعدما استعان صنّاعه بالفنان جمال عبدالناصر لتأدية دور "أبو زيد الهلالي" في الجزء الثاني، وبالفنان رياض الخولي في الجزء الثالث، لكنهما لم يحققا ما حققه "عبد العزيز" من نجاح، بعدما حفرت الشخصية بصورته في أذهان المشاهدين.

ذلك، إلى جانب كتابته لأعمال أخرى أشهرها "الطارق" عام 2004، و"خيبر" عام 2013، و"سقوط الخلافة" عام 2010.

أيضا قدم من التراث المصري مسلسل "جحا المصري" من بطولة الفنان يحيى الفخراني. و(جمهورية زفتى) من بطولة ممدوح عبدالعليم، و"النديم" من بطولة الفنان عزت العلايلي. كما قدم أعمالا احتلت مكانة كبيرة في تاريخ الدراما العربية، من بينها: ليلة القبض على فاطمة" و"نهاية العالم ليست غدا" و"الذئاب".. وغيرها.

رغم مشروعه الدرامي الكبير، يرى يسري الجندي أنه لم يضف شيئا إلى السينما، وأن إسهاماته كانت قليلة، لذلك لم يرضَ عن تجربته السينمائية رغم تعامله مع مخرجين كبار، أمثال سعيد مرزوق في "أيام الرعب"، وسيد عيسى في فيلم "المغنواتي"، ولما سألته عن سبب تلك الفجوة بين منجزه السينمائي والدرامي، قال: لأن السينما عكس المسرح، فالسينما تعتمد على الصورة، بينما المسرح يعتمد على الحوار، لذلك الوسط بينهم هو التليفزيون، فهو يوازن ما بين الصورة والكلمة، ومن أجل ذلك تواءمت مع التليفزيون بسرعة أكبر.

كانت تترات المسلسلات التي كتبها يسري الجندي، من الأشياء التي شكلت ذائقتنا، وجذبتنا في الطفولة، إلى ما عرف بالأغنية البديلة، حتى قبل معرفتنا بالمصطلح، فتكونت لدينا حساسية خاصة تجاه الكلمة. وقد كان الشاعران عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب، أشهر من تعاون معهما، ومن ثم، كان منطقيا أن أسأله بشأن طبيعة العمل مع كليهما، والفرق بينهما، فجاء رده، أن: "الأبنودي" يمتلك السّهل الممتنع، كما أن لديه حسا دراميا جيدا، وإن كان الحس الدرامي موجود لدى سيد حجاب بشكل أقوى، لكن تراكيب الأخير ولغته صعبة بعض الشيء، فهي تحتاج إلى وقت للتفكير، وفي الدراما أحتاج إلى رسالة لحظية سريعة التأثير، والخال كان أستاذًا في هذا.

آخر ما أحمله من جلستي مع الكاتب الكبير هو إصراره على حمل مشروب الضيافة بنفسه، رغم صعوبة حركته واهتزاز يده الواضح، بحكم السن وأمراض الشيخوخة، دافعا عن نفسه تهمة "بخل الدمايطة"، الذي يحفظها الموروث الشعبي. 

أما وقد نعته وزارة الثقافة المصرية اليوم، فلم أجد أبلغ من صوت علي الحجار وهو يغني تتر النهاية لمسلسله:

أبو زيد هيفضل معانا

يا دنيا يا مجمّعانا

ليصبرنا نحن الصغار على انتهاء الحلقة، ويطيب خاطرنا بأن للحكاية بقية، لكنه الصوت نفسه، الذي يفتح الجراح ثانية في نهاية "النديم"، وهو يغني:

ياللي فطمتي النديم رُدّي صغير السن

أسكّت الجرح يسكت.. ينطق التاني

تاريخ الخبر: 2022-03-13 12:21:30
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 68%

آخر الأخبار حول العالم

وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 00:26:04
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 55%

وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 00:26:09
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 58%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية