ليلة طويلة أخرى عاشها سكان العاصمة الأوكرانية كييف، وسادتها تحذيرات من تحليق الطيران الروسي. صوت صفارات الإنذار ترافق الليلة قبل الماضية، مع تحذيرات تصل إلى الهواتف المحمولة ترسلها الحكومة هنا، تليها دائماً أصوات قصف أو تحليق الطيران الحربي.
تستيقظ كييف ككل يوم على تبديلات في القطاعات العسكرية، مزيد من الجنود يصلون إلى وسط العاصمة، بعضهم يتبع وزارة الداخلية، وهم الأقل تسليحاً وخبرة، وآخرون لوزارة الدفاع والجيش، وهم الأكثر احترافاً، بينما جنود النخبة والحرس الجمهوري يتجهون إلى الجبهات لخوض المواجهة مع الروس أو لتبديل زملائهم الذين أمضوا فترات طويلة في القتال.
في المحال التجارية ترى الجنود بسلاحهم الفردي يشترون المواد التموينية والصابون. يخبرك أحدهم أنهم وصلوا اليوم فقط، وأنهم يتبعون وزارة الداخلية، وأن المواد التي يحصلون عليها في العاصمة يوفرها متطوّعون وهيئات مدنية، بينما الجهد الرئيسي للجيش يذهب إلى الأماكن الأصعب، الجبهات ومراكز الانتشار الحساسة.
صاحب أحد المطاعم تحول الآن إلى الطهي للجيش، إيغور (27 عاماً) أصبح مقدم خدمات للقوات العسكرية، وإضافة إلى ذلك هو يموّل مبرمجين محترفين للقيام بعملهم في تعطيل المواقع الإلكترونية الروسية. لا يفضل إيغور الحديث مطولاً عن الأمر، يتحفظ عن كون كل هذا النوع من النشاط الإلكتروني غير قانوني، ومثله يفعل لاري (29 عاماً).
يمكن القول إن سلسلة الشروط التي وضعها لاري للموافقة على التحدث عما يقوم به كمبرمج محترف أفقدت الموضوع أغلب عناصر التشويق والإثارة، فبعد طول مفاوضات وتعهدات سمح فقط بنشر ما يتعلق بهجمات الهواة التي يسهلها، بينما رفض تماماً نشر أي معلومات تتعلق بالهجمات التي ينفذها هو وعدد آخر من المبرمجين المحترفين سواء لتعطيل المواقع الروسية أو لاختراقها أو لحماية مواقع أوكرانية رئيسية. وحاولت «الشرق الأوسط» رصد نشاط هؤلاء «الهاكرز» في كييف.
أن «الحرب الإلكترونية» الساخنة لا تقتصر على جهة واحدة، وحتماً لم تشعلها الجهة الأوكرانية، فبعد ساعات من بدء الحرب على أوكرانيا تعطل أغلب المواقع الرسمية الأوكرانية التابعة للدولة، سواء أكانت مواقع سياحية أو سياسية أم مواقع خدمية حتى بريدية، بعد يومين كانت كل الشبكات الأوكرانية مشلولة، السفارات في الخارج عادت إلى عصر الهاتف، وشكل ذلك ضغطاً على العاملين والمتصلين.
أيام قليلة بعد بدء الحرب، تعرض كثير من الهواتف الذكية في أوكرانيا للاختراق، وغرقت هواتف ناشطين باتصالات آلية حتى اتصالات من أشخاص يشتمون ويهددون. بعض الناشطين فضل إطفاء الهاتف على إضاعة الوقت في الإجابة على اتصالات آلية معادية. أدى ذلك في بعض الأحيان إلى إعاقة الاتصال بين المجموعات المتطوعة، خاصة تلك المدنية التي تعتمد على مبادرات أفراد أو جمعيات صغيرة غير معتادة على العمل في ظل ظروف قاسية.
لاري المبرمج المحترف يعد تطبيقات صغيرة وخفيفة على أجهزة الكومبيوتر، مخصصة للمستخدمين الهواة أو العاديين. ويقول: «هذه التطبيقات ليست جديدة، هي معروفة منذ بداية انتشار الإنترنت، تنفذ بها هجمات، كل بضعة أيام أطور هذه التطبيقات وأضعها بين أيدي الأصدقاء للاستخدام، وببساطة عليهم تحميلها على أجهزتهم وتنفيذ الخطوات التي أرسلها مع التطبيق، وطبعاً نحدد تاريخ ووقت مباشرة الهجمات على مواقع محددة، كل فترة نعطل مجموعة مواقع للروس، بحسب توافر متطوعين هواة للقيام بالهجمات».
تعد هذه إحدى أكثر الطرق بدائية في الهجمات على الخوادم إلا أنها لا تزال فعالة، وهي أدت إلى تعطيل مئات من المواقع الروسية بالفعل. «العشرات من المواقع الروسية تسقط كل يوم تحت ضغط الأجهزة الصغيرة التي ترسل طلبات لا تتمكن الخوادم المستهدفة من تلبيتها، أصبح الأمر أشبه بالهواية الوطنية» يقول مقصود (29 عاماً) وهو أوكراني من أصول أذربيجانية، يعمل في بيع الخوادم للشركات الكبرى، إلا أنه تحول منذ بداية الحرب إلى جندي إلكتروني في المعركة.
مقصود كما لاري يرفض نشر أي تفاصيل تكشف هويته أو نوعية عمله في الاختراقات الإلكترونية، ووافق على الحديث تحت هذه الشروط، وحين كان يتحدث دوى انفجار كبير في شمال العاصمة على مسافة 10 كيلومترات من حيث نقف؛ حيث تعرض مبنى سكني لهجوم روسي، بينما انطلقت صواريخ دفاعية أوكرانية لاعتراض صواريخ أو طائرات روسية.
ويقول مقصود إن مئات آلاف الشبان والشابات الموجودين في منازلهم، لم يتطوعوا أو يقوموا بأي شيء، ويمكنهم ببساطة المشاركة في الحرب عبر أجهزة الكومبيوتر. ويضيف: «لقد تحول الأمر الآن إلى هواية وطنية، تضخم عدد المهاجمين بما لم نتوقعه في الأيام الأولى لنشاطنا».
مقصود ولاري لا يتوقعان أن تسقط عاصمتهما حيث يعيشان، ويرفضان الخروج منها. يقولان إن كل شخص حسم خياره، فمن يريد الخروج رحل في الأيام الأولى، ومن بقي فإن قراره نهائي، وإن الدبابات الروسية لن تصل إلى قلب المدينة.
ماذا لو حصل المحظور برأيكما ودخلت الدبابات الروسية؟ يجيب لاري: «الأمر ليس بطولة، ولكن ليس لدينا خيار إلا أن نقاتل، بما نملك وبما نعرف، ربما سنتعلم إعداد قنابل المولوتوف، ولكن لا أتخيل أن أرى أعلاماً بالألوان الروسية الثلاثة ترفرف في كييف أو دبابات غير أوكرانية، هذا مستحيل».
