شكل الفارق بين النقد والانتقاد ميدانًا عريضًا للدراسة والمقارنات التي لم تتوقف، والتي دار حولها جدل طويل ما تزال فصوله تتوالى، واستحوذ النقد الممارس تحديدًا بموجب السلطة الأبوية من أحد الوالدين على الأبناء على كثير من الدراسات والآراء ووجهات النظر التي تناولته بالتحليل.

وغالبًا ما تم الاتفاق على أن النقد مقبول، فيما يتفق على أن الانتقاد مرفوض.

ويشدد مهتمون على أن توجيه النصح للآخر غالبًا ما يكون على شكل سيف ذا حدين، حدٌ هادف وبناء وناصح، وحدّ حاد هادم قد يقود من يتلقى الانتقاد إلى اتخاذ موقف معاد قد يقود حتى إلى العنف ضد المنتقد سواء كان هذا العنف لفظيًا أم حركيًا، حيث يرفض كثيرون فكرة التخطئة في حد ذاتها، أو يرفضون هوية المنتقد له، بلسان حال يقول «من ذا الذي يعرف الحقيقة والصواب أكثر مني»؟!.

ولعل النقد من الأدنى إلى الأعلى هو أكثر أشكال النقد رفضًا، مثل النقد الذي يصدر من الأبناء للآباء، أو نقد الموظفين للمديرين.

وما بين التاريخ القديم، وتطور التاريخ الحديث تُروى الحكايات عن رفض النقد من الأدنى للأعلى، ففي رد فعل إنساني بحتّ لهذه الحالة نجد في خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه، حين انتقده فيما يعبده، أن والده رد عليه بالتوعّد والتبرّؤ منه، وفي موقف حي آخر لكنه حديث، نلحظ أنه حين استدعى الرئيس موظفه الصغير ليسأله عن رأيه في حادثة مهنية عرقلت زملاءه في العمل، وطلب منه وضع يده على الخلل وعلاجه، فقال له، وفقًا للموضوعية: الأمر يعود إلى عشوائية التنظيم الإداري. فرد المدير باعتزاز: امسك الباب! ليجيبه الموظف: لكنني انتقد الآلية! فيؤكد المدير: لكنني أنا من أديرها. والمواقف القديمة والمعاصرة التي تجسد هذه الحالة لا يمكن حصرها.

النقد والانتقاد

يرى الكاتب المسرحي وليم سومرست أن الناس لا يبحثون إلا عن المدح حتى لو طلبوا النقد، وهو يقول «الناس يسألونك عن النقد، ولا يريدون إلا المديح».

ويتفق علماء الاجتماع وأخصائيو التنمية البشرية على أن الشخص الواثق بنفسه حقًّا يتقبّل نقد الآخرين، ويسعى إلى الاستفادة من ذلك النقد لتطوير نفسه وتدارك أخطائه.

وفي كثير من المرات يعود السبب إلى طريقة النقد والهدف منه، فالطريقة هي الصورة التي تعكس رغبة المنتقد، فالانتقاد السلبي والمعلن ما هو إلا فضح للمخطئ والمسيء، أو لتحطيمه، وهنا نجد الطرف الآخر في حالة إصرار على الخطأ، وإلقاء كلِّ نصح وانتقاد وراء الظهر.

وخلافًا لكل نقد جاء من نظرة ثاقبة ومن نفس رحبة وبأسلوب رفيع، فمقاومة النقد البناء، أو عدم الالتفات إليه ما هو إلا عزة تأخذ صاحبها بالإثم حتى إن لم يقتنع به.

والنقد فن يقوم على أسس وعلم، وليس على ذائقة شخصية أو خاصة تجاه ما ينتقد، ويقول مستشار التحسين المستمر تركي اليامي عن هذا الفرق «النقد البناء الذي يكون مبنيًا على أساس علمي ويصدر عن شخص متخصص في النقد، يوازن في نظرته بين الإيجابيات والسلبيات، ويحسن في السلبيات بحيث يرفع مستوى الإيجابيات. ونلاحظ بعضهم عندما ينتقد عملًا معينًا، بمجرد انتهائه من الإيجابيات وبدءِه بالسلبيات ينتقل من النقد إلى الانتقاد والتجريح، الذي هو سلوك سلبي في التصرف مع الآخر».

عملية عشوائية

يوضح المستشار الأسري والتربوي المعتمد، المدرب المعتمد أحمد سليمان النجار أن «هناك فرق لا بد من توضيحه بين النقد والانتقاد، فالانتقاد عملية عشوائية تُركز على إظهار السلبيات فقط دون تقديم تعديلات أو حلول أو بدائل، وفي العادة من يقوم بها لا يكون عارفًا بالأمر ولا يفقه فيه، ويكون غرضه الهدم والإساءة فقط، وهي بذلك تُصنَفُ على أنها عملية سلبية هدامة ويجب الابتعاد عنها تمامًا، أما النقد فهو عملية موجهة مقصودة تتم على يد شخص يفقه في الأمر ومختص فيه وصاحب خبرة حقيقية فيه، ويتم فيه تسليط الضوء على الإيجابيات والثناء عليها وتقديم مقترحات لاستمراريتها وتطويرها، وكذلك إظهار السلبيات الفعلية بكل تجرد وموضوعية، وتقديم بدائل أو حلول أو مقترحات، وكما أن للنقد آداب لابد منها ومنها: حُسن اختيار الأسلوب والزمان والمكان، والابتعاد عن النقد أمام الآخرين، يقول الإمام الشافعي يرحمه الله:

تَعَمَّدني بِنُصحِكَ في اِنفِرادي وَجَنِّبني النَصيحَةَ في الجَماعَه

فَإِنَّ النُصحَ بَينَ الناسِ نَوعٌ مِنَ التَوبيخِ لا أَرضى اِستِماعَه

وَإِن خالَفتَني وَعَصِيتَ قَولي فَلا تَجزَع إِذا لَم تُعطَ طاعَه

ولا بد من تقديم إظهار الايجابيات على السلبيات والثناء عليها، والتقديم لذكر السلبيات، والحرص على أن يكون النقد بموافقة مسبقة ورضا تام من صاحب الأمر وألا يكون مستمرًا، وعند التزامنا بذلك سيكون للنقد أثر إيجابي بناء وفاعل على الكبار والصغار على حد سواء».

أقِلْني ولا تنتقدني

ويبدو النقد والانتقاد ذو حساسية مفرطة حين يتناول أو يوجه إلى الناشئين والصاعدين في الجيل الحالي، فهم يفهمون أن الثقة بالنفس تأتي من عدم الحاجة إلى النقد، وذلك بسبب الفهم القاصر للثقة، أو لأن النقد الذي يوجه له لا يتتبع الأساليب الصحيحة لتوجيه النصح.

تقول إحدى الشابات، وهي طبيبة أسنان عملت في عدد من العيادات ولم تستمر في أي عيادة أكثر من سبعة أشهر، أن تغييرها الدائم للعمل بسبب اقتناعها الدائم أنها لا تستحق النقد، لذلك لا تسمح بسماعه، وتقول عن وجهة نظرها هذه «أعتقد أن مجرد تقبلي للنقد، خصوصًا أنني مجتهدة، هو إيحاء مني لنفسي بعدم استحقاقي، فيما أنا أعمل على رفع مستوى استحقاقي لأتمكن من جلب أفضل الفرص لنفسي، فلا أشعر بحاجتي إلى نقد أحد ولا إلى سماع نقد عن نفسي، لأنني واثقة منها، وكنت دائمًا أواجه المنتقد بالعبارة نفسها: «إذا لم يعجبك أدائي يمكنك إقالتي».

وتتطرق الدكتورة لمياء عبدالمحسن البراهيم لطبيعة الإنسان المجبولة على رفض النقد، وحساسيته التي يفرضها المستخدم بقولها «ينفر الإنسان بطبيعته ممن يتصيد عليه أخطاءه وزلاته، ومن التناقض التغاضي عن مساوئ الانتقادي الانتهازي، أو العدواني، أو المتسلق، أو غير النزيه، أو المتنمر، حين يكون الذم وتصيد الأخطاء والتقليل من الإنجازات لإحباط وإيذاء شخص أو جماعات أو جهات بالتنمر، وتعمد إظهارهم بأنهم فاشلون».

ونجد للدكتور عامر الحسيني رأيًّا في أغراض النقد وأوجهه المتعددة وكثرة استخدامه، يقول: «النقد جميل إذا قصد منه البناء ووجّه لخدمة القضية الرئيسة، وليس لتصفية الحسابات، والظهور بصورة البطولة المنفردة».

النقد بالسلطة الأبوية

يمارس الأبوان شكلًا من أشكال النقد والانتقاد على أبنائهم، حيث أكد أخصائيو علم النفس أن اللوم والانتقاد، الذي يتبعه الوالدان في تربية أبنائهما، وكثرة استخدام اللوم والانتقاد يعد أسلوبًا غير مرغوب في تربية الأبناء حيث يؤدي إلى ضغوط عاطفية، ولا يؤدي إلى تحمل المسؤولية ولا يعزز الاستقلالية، وأشاروا إلى أن اللوم يزيد السيطرة على الطفل، ويسهل مهمة الوالد المتسلط، إلا أنه في المقابل يملأ الطفل بالمخاوف، وبالتالي يصبح أكثر قابلية للخضوع، لاهثًا وراء المثالية لإرضاء والديه وتجنب نقدهما مما يرهقه نفسيًا.

وأفادوا أن المبالغة في انتقاد الطفل تطارده طوال حياته، موضحين أن الأطفال لديهم الحاجة نفسها إلى الكبرياء والاحترام والكرامة، مثل البالغين، لذلك عندما تسحب هذه الأشياء منهم، فإنهم ينهارون مثلهم.

وتوصلت دراسات حديثة إلى أن نسبة كبيرة من المنتحرين، من الأطفال والشباب، كانوا ممن يسعون إلى تحقيق توقعات آبائهم وأمهاتهم، كما أن 70 % ممن انتحروا من الشباب كانوا ممن تثقل كواهلهم توقعات عالية جدًا من أنفسهم.

كما كشفت الدراسة أن السعي إلى الكمال يؤثر بشكل أساسي في الشباب والأطفال، إذ يعاني ما لا يقل عن 30 % من طلبة الجامعة، من أعراض الاكتئاب في مرحلة ما من حياتهم، وقد رُبطت المثالية والسعي إليها بتلك الأعراض.

ويأتي الخلط بين النقد البناء والهدام بسبب الظن أن الانتقاد، بغض النظر عن أسلوبه، يعد الحل الأمثل لتصحيح الأخطاء، فتتحول عملية النقد إلى تدمير لا تقويم، وتجر معها ويلات أعظم من تلك السلبيات التي استحقت النقد.

انعكاسات خطيرة

يرى المستشار والمدرب المعتمد في المجال الإداري والمالي والاجتماعي وتطوير الذات عبدالله بن عبدالعزيز العرفج أنه «بالرغم من أن النقد والانتقاد غير مرحب بهما من جميع شرائح المجتمع وفئاتهم العمرية، فإن استخدامهما تجاه الأطفال له عوامل نفسية وانعكاسات خطيرة لا تضر الطفل نفسه فقط، بل قد يتعدى ضررها إلى المجتمع، ويمكن بطريقة الطرح والإلقاء المهذبة أن تكون هناك إيجابية منها، ولكن يغلب علينا عند مشاهدة سلوك ما غير جيد عند الأطفال أن نقوم على وجه السرعة بانتقاده مباشرة دون الأخذ بالاعتبار النتائج السلبية التي قد تظهر في سلوكيات الطفل، فنعالج خطأ، ويظهر فيه عدة أخطاء أخرى».

ويضيف «مما يخفف على الطفل هذا النقد أو مخالفته فيما يعمله أو يفعله أن هناك أمورًا يجب علينا أن نعملها معه لكي يتحول الأمر إلى نتائج إيجابية، وبالنهاية الطفل بشر ويتأثر بكل شيء حوله سلبيًا كان أو إيجابيًا وينشأ عليها، خاصة إذا كان يتقمص النمط المشاعري (الحسي).

ويسرني أن أضع بعض العوامل المؤثرة التي لخصتها من واقع تجربة والتي يمكن عملها عند النقد تجاه الأطفال وهي:

ـ نتجنب النقد المباشر خاصة عندما يكون المكان فيه أكثر من شخص، فيمكن أخذه جانبًا ومناقشته بطريقة تبين له أن الموضوع مهم وسري فيتولد له إحساس المسؤولية والأخذ بالتوجيه، وبعضنا يلجأ إلى توجيه النقد لمن حول الطفل مثل مخاطبة الكنبة أو التلفاز أو طفل آخر، وبالتالي يدرك الطفل أنه هو المعني وبالتالي تصل المعلومة إلى فكره.

ـ نتجنب نقد الأطفال بالكلمات اللاذعة مثل أنت ما تفهم أو أنت فيك وفيك.

ـ نتجنب أن نقف عند مجرد النقد فقط، بل يجب مساعدته لإفهامه ما هو سبب نقده وإيضاح ما يجب فعله.

ـ نتجنب عند النقد مقارنته مع غيره من الأطفال.

ـ نتجنب أن نهمله بعد النقد والتوجيه، لأنه يعيش وضع شعور بالنقص أو غير مقبول، بل يجب أخذه بالأحضان وعند مشاهدته في مكان آخر الترحيب ومناداته بكلمات مشجعة مثل كيفك يا بطل أو يا محترم وما شاء الله عليك تسمع الكلام.

كما أشير وأذكر الكل لنعلم أن فترة حياة الإنسان كلها حتى مماته مرتبطة بطفولته وذكرياتها فقط، فلا ننسى صغيرة أو كبيرة صدرت من عايشناهم أو قابلناهم في الصغر، لذلك لا بد أن نظهر الجانب الإيجابي أكثر تجاه الطفل».

الاهتمام السلبي

يعتقد الأخصائي والمعالج الاجتماعي، في مركز بصمات اجتماعية للاستشارات بالرياض محمد الحمزة أن «كثيرًا من علماء النفس والاجتماع يؤكدون أن الانتقادات السلبية للأبناء من شأنها أن تفقدهم الثقة بالنفس وتجعلهم أشخاصًا فاشلين، نظرًا لأن تأثيرها عكسي على سلوك الابن، وتكون دافعًا لأن يقوم الابن بالعناد والتحلي بالصفات السيئة».

ويضيف أن «النقد اللاذع والمستمر للأبناء لمحاولة تغيير السلوك الخاطئ هو ما يعرف بالاهتمام السلبي، ويجعل الأبناء يُصابون بحالة من اليأس، تقودهم إلى إثارة مواجهات مع الآخرين ليثبتوا لهم أنهم أقوياء، ويملكون القدرة على فعل ما يريدونه».

ويكمل أن «من صميم دور الآباء تقويم سلوك الأبناء ولكن من خلال توجيههم بشكل إيجابي ودون تجريح، فالغرض هو تصحيح سلوك الابن الخطأ وليس هدم شخصيته، وتكرار الانتقاد وتكرار الصفات السيئة على مسامع الأبناء، حتمًا سيؤدي إلى نتيجة عكسية».

ويشرح «النقد الهادف والبناء يراد منه تحسين الشخصية، ويمثل دافعًا للتقدم إلى الأمام من دون تجريح أو تقليل من شأن هذه الشخصية، أما النقد الهدام عادة ما يكون لإبراز الأخطاء، وبين طياته إحراج وتشويه للشخصية، وللأسف هذا ما يقع فيه كثير من الآباء عند نقدهم لأبنائهم بأسلوب خاطئ، من دون مراعاة لقواعد النقد الهادف».

ويختم «يأتي الخلط بين النقد البناء والهدام من قبل الأهل بسبب ظنهم أن الانتقاد بغض النظر عن أسلوبه يعد الحل الأمثل لتصحيح أخطاء الأبناء، وأنهم كآباء يخول لهم توجيه أبنائهم بالأسلوب الذي يرونه مناسبًا من وجهة نظرهم، وفي الأغلب يحمل الآباء أبناءهم مسؤولية أسلوبهم الفظ في نقدهم، فتتحول عملية النقد إلى تدمير لا تقويم، وتجر معها ويلات أعظم من تلك السلبيات التي استحقت النقد».

نصائح يجب اتباعها عند انتقاد الآباء

ـ تجنب النقد المباشر خاصة عندما يكون المكان فيه أكثر من شخص.

ـ يجب أخذ الابن جانبًا ومناقشته تشعره بأن الموضوع مهم وسري.

ـ يمكن توجيه النقد للأشياء حول الطفل ليدرك أنه هو المعني، وبالتالي تصله المعلومة

ـ تجنب نقد الأطفال بالكلمات اللاذعة مثل أنت ما تفهم أو أنت فيك وفيك.

ـ تجنب الوقوف عند مجرد النقد، والمساعدة لإفهامه سبب نقده.

ـ تجنب مقارنته مع غيره من الأطفال عند الانتقاد.

ـ تجنب إهماله بعد النقد والتوجيه

ـ توديه كلمات مشجعة له في موقف الاستجابة للتوجيه