الصلاة انسجام مع الكون


بقلم: ابراهيم أخساي

مع إشراقة يوم جديد، وانطلاق الطيور من أوكارها مؤذنة بزقزقتها الجميلة والطيبة ببزوغ أنوار فجر بهيج، تبدأ يومك بالصلاة تقربا إلى الله تعالى وأداء لما فرضه الله عليك، فتكون، بتلك العبادة العظيمة، وبتلك التسبيحات والأذكار الصباحية، قد انسجمت مع الكون المحيط بك في عبادة خالق الكون والإنسان، فأنت لست وحدك في محراب العبودية لله تعالى، فبصلاتك تنخرط في حركة الكون الواسع، فتشعر بالسكينة والطمأنينة وتنظر للكون نظرة محبة وتسامح.

وكيف لا ينشرح قلب المؤمن لهذا الكون الفسيح وجميع الموجودات التي خلقها الله تعالى تتقلب في كل وقت وحين بين سجود وتسبيح، طاعة لله وتحقيقا لمعاني الخضوع والعبودية.

السجود.. حركة الإنسان والكون

الصلاة تجعلك تنخرط مع حركة الكون والسماوات والأرض في عبادة دائمة لا تعرف الكلل أو الملل، فتشعر بالطمأنينة والسكينة وأنت ساجد بين يدي الله تعالى، شعور يشاركك فيه الكون من حولك، فالكل ينشد التقرب إلى الله وتعظيمه.

ففي الحديث أن أقرب ما يكون العبد وهو ساجد لله تعالى، لما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» .

فالسجود، إذن، هو عنوان الطاعة والقرب والإقبال على الله تعالى، لذلك أمر الله به في أكثر من آية وسورة، فتارة يوجه الأمر لنبيه بالسجود كلا لا تطعه واسجد واقترب ، وتارة أخرى يخاطب المؤمنين الخاشعين، ويجعل السجود من صفاتهم اللازمة لهم، حيث ترتفع جباههم على بساط القرب والأنس طلبا لما عند الله تعالى واستمطارا لرحمته، قال تعالى: إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا

فالصلاة منحة ربانية للمسلم، وهي “رحمة الله المهداة إلى عباده المؤمنين” ، ليكبروا ويركعوا و يسجدوا لمن خلقهم، وبهذا الفعل يشاركون السماوات والأرض وجميع المخلوقات في السجود لله تعالى، فينخرط الجميع، طواعية ومحبة أو اضطرارا وكرها، في هذه العبادة، يقول الله تعالى: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ، وهكذا ينخرط المصلي طوعا واختيارا في حركة السجود و التعظيم والعبادة لله تعالى، بل إن ظله ينقاد لهذه الحركة بالغدو والآصال.

وحتى تكتمل وتتوضح حركة سجود الكون لله تعالى، نقرأ قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ .

ما أجملها من صورة، وما أبدعه من منظر، وجميع المخلوقات تتزاحم في محراب العبودية والتوحيد معلنة خضوعها لخالقها سبحانه وتعالى.

الكون والإنسان يسبحان..

الكون والإنسان يسبحان الله تعالى، وهو مظهر رائع لانسجام المسلم، المحافظ على صلاته، مع الكون الواسع البديع.

فالصلاة، بأفعالها وأقوالها، تسبيح وتعظيم لله تعالى، لذلك نجد المؤمن يسبح الله في صلاته، أثناء ركوعه بقول «سبحان ربي العظيم»، وفي سجوده بقول «سبحان ربي الأعلى»، وبعد السلام يسبح الله ثلاثا وثلاثين مرة مع الحمد والتكبير، فمعظم حركات الصلاة تسبيح وتعظيم لله تعالى.

والكون بسمائه وأرضه وكل ما فيه يسبح الله تعالى لقوله سبحانه: يسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، إن الله كان حليما غفورا . والمتدبر في هذه الآية الكريمة، “يراها تبعث في النفوس الخشية والرهبة من الخالق – عز وجل – لأنها تصرح تصريحا بليغا بأن كل جماد، وكل حيوان، وكل طير، وكل حشرة.. بل كل كائن في هذا الوجود يسبح بحمده تعالى” .

وفي الآية إشارة بليغة إلى أن الكون يعج بالحياة والحركة الدائمة المتواصلة، “وهو تعبير تنبض به كل ذرة في هذا الكون الكبير، وتنتفض روحا حية تسبح الله. فإذا الكون كله حركة وحياة، وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة شجية رخية، ترتفع في جلال إلى الخالق الواحد الكبير المتعال” .

ومن صور التناغم والانسجام مع الكون، هو إدراك القلب لهذه الحركة والحياة التي تدب حوله وإنه: “لمشهد كوني فريد، حين يتصور القلب، كل حصاة وكل حجر، كل حبة وكل ورقة، كل زهرة وكل ثمرة، كل نبتة وكل شجرة، كل حشرة وكل زاحفة، كل حيوان وكل إنسان، كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء.. ومعها سكان السماء.. كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه” .

الكون، إذن، كله يسبح الله تعالى، في حركة دائبة مستمرة، وبطريقة ألهمها الله لمخلوقاته، فقد أخبر الله تعالى أن كل مخلوق يعلم تسبيحه أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ .

الإنسان والكون تناغم وانسجام

ومن أعظم السعادة استشعار حركة الكون وتصور كل ما في السماوات والأرض، وهو يسبح بحمد الله، تعظيما له سبحانه، ويزداد هذا الشعور جمالا ورونقا وبهاء عند الدخول في الصلاة والتوجه «لرب العالمين» بالتعظيم والتنزيه والدعاء، فذكر «سبحان ربي العظيم» هو اعتراف لله تعالى بعظمته وتنزيه له عن موجوداته، و «سبحان ربي الأعلى» يهمس بها المؤمن في سجوده، تعبر عن الخضوع المطلق لله تعالى، فهو سبحانه الأعلى والأعظم، ومهما بلغ الإنسان فليس أمامه إلا أن يعفر جبهته في الأرض خضوعا واستسلاما، وبخضوع الأعضاء، يخضع القلب فيسجد سجدة ويسبح تسبيحة يشارك بها الكون تقربا لله تعالى.

وبهذه الحركة والكلمة يرتعش المسلم في سلم العبودية لله تعالى، ويرتقي في منازل القرب من مولاه الذي خلقه، شأنه شأن جميع المخلوقات، فيرتعش وجدانه و“يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه” .

كيف لا أنخرط في حركة الكون

عجبا للإنسان الذي يرفض الانخراط في حركة الكون، والانضمام لقافلة الساجدين والمسبحين مع جميع ما خلق الله تعالى، أي شرود وأي تيهان هذا الذي يمنع الإنسان من التوجه لرب السماوات والأرض ساجدا راكعا مسبحا داعيا، وخاضعا خضوع اختيار لمن سواه وعدله وخلقه في أي صورة ما شاء ركبه، أيكون الإنسان أقل شأنا من الجبال والطيور والسماوات والأرض، ومن جميع الدواب التي تسبح الله وتخضع له، وقد أكرمه الله ونفخ فيه من روحه، وسواه في أحسن صورة، وأسجد له الملائكة تشريفا له ورفعا لمقامه بين المخلوقات…

فقلب المؤمن، المحافظ على صلاته، يستشعر السلام والهدوء وهو يراقب حركة المخلوقات من حوله وهي مليئة بالحياة، كما أن الكون كله يفرح بالمؤمن المصلي، فإن “الصلاة نور وقوة في قلبه وجوارحه، وإن الملائكة لتفرح وكذلك بقاع الأرض، وجبالها، وأشجارها، وأنهارها تكون له نورا وثوابا خاصا يوم لقائه” .

ختام ونداء..

أيها الإنسان، الكون يناديك، بسمائه وجباله وطيوره ومياهه، وكل ما فيه، لترجع لله تعالى، منيبا تائبا، وساجدا مسبحا، ولتطرح عنك حجب العناد والكبرياء، وتنخرط في سلك المصلين الخاشعين اختيارا وطواعية. ولترسل دمعة الندم والمحبة وأنت قائم في محراب صلاتك تتأمل آيات الله في سجودك. والله الموفق والهادي.


[1] رواه مسلم، عن أبي هريرة.
[2] سورة العلق، آية 19.
[3] سورة مريم، آية 58.
[4] أسرار الصلاة، ابن القيم الجوزية، ط1، 2007، ص 33.
[5] سورة الرعد، آية 15.
[6] سورة الحج، آية 18.
[7] سورة الإسراء، آية 44.
[8] التفسير الوسيط للطنطاوي، تفسير سورة الإسراء.
[9] في ظلال القرآن، سيد قطب، تفسير سورة الإسراء.
[10] نفسه.
[11] سورة النور، آية 41.
[12] في ظلال القرآن، تفسير سورة الإسراء.
[13] أسرار الصلاة، ص 26.
تاريخ الخبر: 2022-04-04 18:20:13
المصدر: الجماعة.نت - المغرب
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 59%

آخر الأخبار حول العالم

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية