الحياة العربية المعاصرة وسؤال الأزمة


الأمر المحير فعلا فيما يخص حياتنا العربية في علاقتها بالقيم الأخلاقية، أنك لا تجد في ثقافات العالم أكثر حرصا وتشددا وتعلقا وتحدثا عن القيم الموروثة مثل الثقافة العربية. لكن من أي جهة يأتي هذا الحرص والتشدد؟ حسنا إنه يأتي من جهة الخطاب الوعظي الديني، وهذا مكمن الحيرة والتعجب الذي يشكل علامة فارقة في الحياة العربية المعاصرة.

وظائف هذا الخطاب كما يمارس في خطب المساجد والمنابر المختلفة في المناسبات الدينية المتعددة هو تقويم السلوك الإنساني وفق القيم الإسلامية الموروثة: الصدق والتضامن والحب ونبذ الظلم والنفاق والأنانية.. إلخ من تلك القيم الإسلامية الموروثة. ويفترض أن مثل هذا الخطاب يقوم بمهمة التنبيه فقط، لأن من يلتفت إلى التراث الأخلاقي العربي يجد فيه كنوزا زاخرة من المؤلفين الذين بذلوا جهودا جبارة في التركيز على إنتاج المؤلفات الضخمة والمهمة التي تهدف جميعها، لإبراز هذه القيم وأهميتها ومركزيتها في صنع الحضارة الإسلامية، مثلما -على سبيل المثال- كتاب «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق» لابن مسكويه (320/421هـ) أو كتاب معلمه يحيى بن عدي «تهذيب الأخلاق» (280/364هـ)، وهذا مجرد مثال بسيط، وإلا فهناك تقليد راسخ بدأ عند سقراط «القائل إن العلم بالفضيلة يقتضي بالضرورة العمل بها» وأصبح لاحقا إحدى السمات الكبرى الظاهرة في كل عصر التي تميز التراث الإسلامي الأخلاقي في تعامله مع العلم والمعرفة والفضيلة.


ويمكن أن نستمر بالحديث ولا ننتهي حول الأهمية التي تحظى بها القيم الأخلاقية وأهمية العمل بها في حياة المسلم. لكن مقصدنا هنا هو التساؤل المحير الذي صدرنا به المقال، فكلما زاد الخطاب الوعظي انتشارا وحضورا بقوة في حياتنا الراهنة، تعمقت أزمة الأخلاق وانفصل بالتالي هذا الخطاب عن مرجعياته التراثية.

ظل المفكرون العرب إلى حدود ما بعد عصر النهضة العربي يولون اهتمامهم بالعقل العربي باعتباره العائق الأكبر أمام الحداثة العربية وأمام دخول مجتمعاتها بوابة التحديث والتصنيع، وعليه مضت اجتهادات الكثير في البحث عن العلل والأسباب ووضع الحلول والمقترحات وحتى البرامج والآليات الكفيلة بإصلاح الخلل.

ورغم أهمية مثل هذا العائق، وأهمية الاجتهادات التي تبلورت على أيدي الكثير منهم، إلا أن ثمة عائقا لا يقل أهمية عنه، لم يتم الانتباه له، إلا عند القلة، منهم مالك بن نبي في مشكلات الحضارة أو طه عبدالرحمن أو محمد عابد الجابري وغيرهم في خريطة المفكرين العرب، وهو عائق يتحدد بأزمة القيم الأخلاقية وموضع سلم أولوياتها في الحياة العامة.

ويمكن الإشارة إلى ظاهرة واحدة من ظواهر هذه الأزمة المتعددة على جميع الأصعدة والمستويات، فقد نشرت جريدة اندبندنت عربية تقريرا بتاريخ 22 فبراير 2021 بعنوان «العنف الأسري يهز أركان البيت العربي» رصد فيه 16.861 حالة عنف بالعراق في عام واحد، 78 جريمة بالقاهرة وارتفاع المعنفات إلى 33 في المائة بالأردن.

هذا مثال بسيط يوضح ما أردنا أن نقوله عن تلك المفارقة بين انتشار الخطاب الوعظي الديني الذي يفترض أن يقضي أو لنقل يقلل من تفشي تلك الظاهرة وبين أزمة الحياة العربية الأخلاقية. لكن في المحصلة نرى الخطاب يذهب في جهة، وما يجري في الواقع يذهب هو الآخر في جهة أخرى، وكل يوم يتعمق الفراق، ولا حلول.

خلاصة القول: أزمة القيم أزمة بنيوية، تضرب أطنابها في أسس الشخصية العربية، ولا تحتاج فقط للمفكرين والفلسفة، بل كل الجهود التي تنطلق من العلوم الإنسانية في جميع فروعها متوجهة إلى دراسة الواقع بجميع تفاصيله، وهذا يتطلب رؤية استراتيجية تنهض على قاعدتين: الدولة والمجتمع وذلك ضمن أهدافها الكبرى في التنمية الشاملة.

@MohammedAlHerz3
تاريخ الخبر: 2022-04-07 00:24:09
المصدر: اليوم - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 54%
الأهمية: 53%

آخر الأخبار حول العالم

حركة حماس تقول إنها تدرس "بروح إيجابية" مقترح الهدنة في قطاع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 12:27:49
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 56%

حركة حماس تقول إنها تدرس "بروح إيجابية" مقترح الهدنة في قطاع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 12:27:46
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 67%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية