الأوكرانيون العرب


ظاهرة جديدة ستطل على العالم بعد انتهاء الغزو الروسي لأوكرانيا. خطر قد يتهدد العالمين العربي والغربي معاً، مقاتلون جدد بملامح مختلفة عن تلك التي تشكل التنظيمات المتطرفة العابرة للحدود والقارات. بدت ملامح الظاهرة منذ الأيام الأولى للحرب الروسية، وهو ما سيُعيد رسم الخريطة الجديدة للتنظيمات المتطرفة، ليس في المنطقة فقط، وإنما في العالم؛ فكما أن هناك ملامح نظام دولي جديد يتشكل في الأفق، فإن ملامح الخريطة الجديدة لتنظيمات العنف والتطرف تبدو رأي العين في المطبخين الروسي والأميركي.

الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا يأخذ بُعداً جديداً كل يوم، بحيث ينتقل إلى مساحات مختلفة تدفع القطبين الكبيرين إلى استخدام كل أسلحتهما، وعليه يتم تشكيل النظام العالمي الجديد بعيداً من أحادية القطبية؛ هذا الصراع دفع أميركا وحلفاءها إلى توسيع دائرة استخدام القوة التي يمتلكونها من خلال استجلاب مقاتلين أجانب، والشيء نفسه فعلته روسيا رغم انتقادها حلفاء واشنطن.

هذه الظاهرة تُعيد إلى الذاكرة ظاهرة الأفغان العرب، الذين أنفقت عليهم الاستخبارات الأميركية في أفغانستان من أجل مواجهة غير مباشرة مع روسيا. هؤلاء المقاتلون هم من شكلوا تنظيم "قاعدة الجهاد" الذي نفذ عشرات العمليات ضد أميركا، وقد خرجت "داعش" من رحمه في ما بعد، والبداية كانت حرباً لا علاقة للعرب بها، حتى بات العرب فيها طرفاً أساسياً من خلال التحاقهم بفرق المتطوعين التي رفعت شعارات دينية في هذه الحرب.

تورطت المنطقة العربية في ما بعد انتهاء الحرب الأفغانية، إذ عاد هؤلاء المقاتلون إلى عواصمهم العربية بعد الحرب وشكلوا تنظيمات مسلحة، والمثال يبدو واضحاً في تنظيمي "الجماعة الإسلامية المسلحة" و"الجهاد الإسلامي" في مصر، وكلا التنظيمين شكلت أفغانستان محطة مهمة لهما وساحة للتدريب العسكري والروحي ومنها انطلقوا للقتال في دولهم، محملين بأفكار أيديولوجية وخبرة عسكرية وفرتها لهم الحرب الروسية في أفغانستان.

يُعاد تكرار تجربة الأفغان العرب من جديد في أوكرانيا، فبعد ثلاثة أيام فقط من بداية الغزو الروسي دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى حشد مقاتلين أجانب للقتال الى جانب الجيش الأوكراني، فما مرت عشرة أيام فقط حتى تقدم عشرون ألف متطوع للقتال في أوكرانيا أكثرهم من العرب، الأمر نفسه صنعته روسيا التي دعت هي الأخرى متطوعين أجانب الى القتال في أوكرانيا، ولكن روسيا هنا نجحت في تجنيد 16 ألف مقاتل كلهم من العرب وتحديداً من سوريا.

حرب بين روسيا وأميركا يقاتل فيها عرب باسم الأيديولوجيا، صحيح أن الحصول على المال والجنسية قد يكون مغرياً لبعض هؤلاء المقاتلين من الجنسيات العربية، ولكن كلا الدولتين تعلمان أن القتل باسم الدين هو السهم الذي يحسم المعركة لمصلحتها، وهو ما تفعله في مرحلة الاعداد والتدريب لهؤلاء المقاتلين، وهو أخطر ما في الموضوع برمته.

الولايات المتحدة وروسيا تصنعان بؤرة جديدة للإرهاب ولكنها في أوروبا، هذه البؤرة ستُصدر التطرف، ليس فقط الى المنطقة العربية، وإنما الى أوروبا أيضاً، فبعد انتهاء الحرب سيدفع الجميع الفاتورة التي فرضتها واشنطن وموسكو وأصرتا على أن تكرر من خلال سلوكهما المشين في أفغانستان، سواء بدعم الأفغان العرب من جانب واشنطن أم من خلال دعمهم بعد تشكيل "الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين" في العام 1987 من جانب روسيا في ما بعد لمواجهة واشنطن.

العجيب أن الآلة الإعلامية لكل طرف في الصراع تبرر له استخدام المقاتلين الأجانب وتجرمه على الآخر! الرئيس الأوكراني والغرب يريان أن المقاتلين الأجانب هم مجرد "متطوعين" في حرب مقدسة، في حين تصفهم روسيا بالمرتزقة، وتنقلب الآية لدى الأخيرة التي تصف المقاتلين الى جانبها بـ"المتطوعين".

الخطورة ليست في تبرير استخدام المقاتلين الأجانب أو إدخال العرب في حرب لا ناقة لهم ولا جمل فيها، ولكن في تحول هؤلاء المقاتلين إلى قنابل موقوتة تُهدد أمن أوروبا والعالم. هذا السلوك سبق وجربته واشنطن قبل نصف قرن، وهو ما دفع ثمنه العالم كله حيث نشأت "القاعدة" و"داعش".

الولايات المتحدة وروسيا تخلقان بؤرة إرهاب جديدة في أوروبا نفسها، صحيح أن هذه البؤرة قد تتشكل بصورة كبيرة من مقاتلين عرب وقد يُشكل هؤلاء خطراً في ما بعد على الشرق الأوسط والمنطقة العربية بأكملها في حال عودتهم، ولكنهم سيُشكلون خطراً أكبر على أوروبا والقطبين الكبيرين، روسيا وأميركا، اللذين يجدان لنفسيهما المبرر لاستخدام هؤلاء المقاتلين، معادلة تؤكد أن الغاية تبرر الوسيلة لدى الغرب وجواز دعم المتطرفين طالما كانت هناك مصلحة سياسية أو عسكرية من وراء ذلك.

الولايات المتحدة دعمت الأوكران العرب بصاروخ "ستينغر" وهو السلاح نفسه الذي حسم به "الأفغان العرب" معاركهم مع الروس قبل أربعين عاماً؛ ومن أراد أن يفهم تعامل أميركا والغرب مع الغزو الروسي لأوكرانيا عليه أن يتأمل سلاحي "المقاتلين الأجانب" وصاروخ "ستينغر"، فكلاهما استنزف الدب الروسي قبل أربعة عقود وأنهى الحرب لمصلحة خصومه؛ هذه الأدوات صنعت "قاعدة الجهاد" في أفغانستان وها هي الآن تكررها أميركا وترد عليها روسيا بالعقلية نفسها مستخدمة الأدوات نفسها!

روسيا رصدت مئات الملايين من الدولارات للمقاتلين السوريين، استخدمت حاجة هؤلاء المقاتلين للمال، كما أرادت أن تتخلص من المؤدلجين منهم حتى تخفف من وطأة الصراع داخل سوريا من جانب وفي الوقت نفسه تواجه خصومها في أوكرانيا من جانب آخر.

المجتمع الدولي يعيش إشكاليتين، أولاهما ترتبط بالحرب الإعلامية التي سعت إلى تسمية المقاتلين الأجانب تارة بالمتطوعين وتارة بالمرتزقة والهدف منها هو التخلي من المسؤولية، وثانيتهما وهي الأهم، استثمار هذه الظاهرة، وهو ما سينعكس على أمن الشرق الأوسط والعالم، ويتطلب الدعوة إلى عقد مؤتمر يبحث هذه الظاهرة ويواجه تداعياتها. على العالم أن يدرك أن أميركا وروسيا قد تخلتا عن مواجهة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، ليس بهدف التفرغ للصراع فقط في شرق أوروبا، ولكنهما إزاء تشكيل بؤرة تمركز جديدة لإرهابيي العالم في هذه القارة المضطربة بفعل الصراع الدائر حالياً.

خطورة المقاتلين الأجانب أو الأوكران العرب هي في تدريبهم على أسلحة ذات بُعد نوعي. هؤلاء سيمثلون إضافة للخبرة العسكرية، سواء للتنظيمات المتطرفة الموجودة الآن، أم للتنظيمات التي قد تنشأ على خلفية الصراع الدائر وفق ما طرحناه مع تغيير خريطة هذه التنظيمات، ويبدو الرهان على عدم السماح لهؤلاء المقاتلين بالتنقل من بلدانهم للقتال في أوروبا.

على العالم أن يُجرم فكرة القتال في أوكرانيا ولا يسمح بذلك من خلال تقديم طلبات عبر السفارات الأوكرانية أو الروسية في بلدان العالم، أما ما دون ذلك وهو استقطاب مقاتلين من مناطق الصراع مثل سوريا، فقد يبدو الوقوف أمامه أمراً صعباً، ولكن على الأقل يجب التنبؤ بالظاهرة ومحاولة إيجاد حلول للمواجهة.

* نقلا عن " النهار"

تاريخ الخبر: 2022-04-09 21:16:43
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 79%
الأهمية: 89%

آخر الأخبار حول العالم

فينيسيوس أفضل لاعب في المربع الذهبي لدوري الأبطال

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 21:26:02
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 51%

فينيسيوس أفضل لاعب في المربع الذهبي لدوري الأبطال

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 21:25:56
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 59%

نص الخطاب الملكي إلى القمة الـ 15 لمنظمة التعاون الإسلامي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 21:26:08
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 64%

نص الخطاب الملكي إلى القمة الـ 15 لمنظمة التعاون الإسلامي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 21:26:03
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 55%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية