بقلم: م. منير وصفي بطــرس

باحث في موسيقى الألحان القبطية

مـدرس مــــادة اللــــحن الكنــــسي

بمعــــهـــد الرعـــــاية والتـــــربيـة

في نهاية فترة الصوم الكبير، يكون من المناسب عزيزي القارىء أن نتكلم عن لحن من ألحان الكنيسة يقال في نهاية الصلوات ، وهو لحن “سوماتوس” الذي يقال في ختام الصلوات الليتورجية (الليتورجية كلمة يونانية تعني الصلاة المقننة التي يقدمها الشعب في الكنيسة) في فترة الصوم المقدس وبصورة أدق في أيام صوم يونان والصوم الكبير(من اثنين وحتى الجمعة)، وتسمى هذه الجزئية في المصطلحات الطقسية بقانون ختام الصلوات،وكلمة قانون هنا لا تعني الأحكام والتنظيمات الكنسية أو اللوائح المنظمة لأمور الحياة، ولكن كلمة κανων اليونانية لها عدة معاني، والمعنى هنا “hymn, divided into odes” أي لحن مقسم إلى قطع من الترانيم أو التسابيح.

وتعتبر أقدم إشارة معروفة لدينا عن قوانين الختام توجد في بعض المخطوطات التي وجدت في الدير الأبيض بسوهاج، في حوالي القرنين العاشر والحادي عشر،الميلادي ومنها ذُكِر قانون ختام الصوم الكبير “سوماتوس” الذي نتكلم عنه في هذا المقال، كذلك لقد ذكرها شمس الرياسة أبو البركات بن كَبَر في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي في مؤلفه مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة، قال فيه أن قانون ختام الصلوات هو الحد أو الفاصل، فهي إما أنها تُستخدم كنهاية للصلوات مثل القداس الإلهي الذي ينتهي تماما بهذه الألحان، أو الفاصل ما بين صلاة وأخرى بعدها، كما يحدث في فترة البصخة المقدسة فنحن نصلي ساعات معينة ثم نستمل ساعات أخرى بعد فترة زمنية قصيرة،ولذلك فقد أسماها “الفصل” لتختم صلاة ثم تبدأ صلاة أخرى، كما ذُكِرَت أيضاً في مخطوط الترتيب الطقسي للبابا غبريال الخامس في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي.

وبالتوازي مع قانون ختام الصلوات تمارس الكنيسة بعض الأمور الطقسية، فنحن في أثناءها نُقَبِل الصليب مع البشارة، وذلك في ختام صلوات رفع بخوري عشية وباكر، وذلك علامة على حبنا للصليب وتجديد العهد مع المصلوب في نهاية كل صلاة، الذي أنعم علينا بمغفرة خطايانا (وذلك بقراءة التحاليل التي تسبق هذا اللحن)،حيث نقول في اللحن (إقبل صومنا واغفر لنا آثامنا ….خلصنا وارحمنا)، كذلك فنحن نُقَبِل البشارة كعلامة على خضوعنا لإنجيل الله، وتعهدنا بتنفيذ وصايا الله وأوامره عند خروجنا من الكنيسة وحتى مجيئنا مرة أخرى للصلاة التالية، كذلك فإنه يُواكب هذا اللحن رش الماء في نهاية صلاة القداس الإلهي كنوع من البركة،حيث أن الماء الذي حضر كل صلوات القداس داخل الهيكل المقدس قد تقدس.

إن قوانين ختام الصلاة في كنيستنا القبطية نصوص هامة لأنها تحمل إيماننا بالتجسد والصليب والفداء والخلاص والقيامة، في أسلوب مُبَسَط بموسيقى سهلة أيقاعية نشيطة حماسية، حتى يستطيع جميع شعب الكنيسة من الأطفال والكبار، من المثقفين والبسطاء، ومن الكنسيين والعلمانيين، يستطيع الجميع ترديد هذه الصلوات والتسابيح، وتتأكد الكنيسة من حفظ هذه المفاهيم الإيمانية في مختلف المناسبات الطقسية الكنسية وثباتها في قلوبهم عند خروجهم من الكنيسة.

أما بالنسبة لترتيب قطع قوانين ختام الصلوات فهي مجموعة من الفقرات أو القطع بعدد غير ثابت، تُختَتَم القطعة الأولى ب”ذوكصابتري كى إيو كى أجيو بنفماتي” (المجد للآب والابن والروح القدس) ثم تُختَتَم القطعة الثانية ب”كى نين كى أ إي كى إيستوس إى أوناس طون إى أونون آمين” (الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين) ثم تُقال قطعة أخرى لتُختَتَم ب”كى نين كى أ إي…..” وهكذا… وينتهي اللحن ب”تين أوش إيفول إنجو إمموس” (صارخين قائلين …)، وبعدها نطلب من الله صلوات تخص المناسبة، فمثلا في الطقس السنوي أمور تخص حياتنا العامة أو اليومية بأن يبارك راس السنة أو زراعتنا كما نقول في القداس الإلهي “لكي نحن أيضاً إذ يكون لنا الكفاف في كل شيء كل حين نزداد في كل عمل صالح”، أو كما يقول لحن الصوم “سوماتوس” أن يَقبل أصوامنا، ويغفر لنا آثامنا، أو تضاف نصوص تخص المناسبات العديدة كالأعياد السيدية، أو صلاة من أجل قداسة البابا أو نيافة الأسقف لكي يعطيهم معونة خاصة.

ونحن نجد تشابه كبير بين قطع ختام الصلوات وقطع صلوات الأجبية من حيث نظام ترتيب القطع، ودائماً نجد القطعة الأولى (وتنتهي ب ذوكصابتري…)والثانية (وتنتهي ب كى نين كى آ إي….) تخص السيد المسيح،وفيها الاعتراف بأعمال المسيح الخلاصية، والقطعة الثالثة تكون عن السيدة العذراء فهي والدة الإله التي عن طريقها تجسد رب المجد ليعطينا كل بركات الخلاص،وهنا نجد التوافق مابين صلوات الليتورجيات التي يجتمع فيها الشعب في صلاة جماعية، ويعترفون بإيمانهم في ختام الصلاة، وبين الصلاة الخاصة التي يُصليها الفرد في مخدعه بالأجبية (والتي يعترف فيها أيضاً أمام الله بإيمانه من خلال هذة القِطَع)

وفي لحن “سوماتوس” نجد مجموعة من الأفكار الروحية، ، ففيها نعترف بأن الذي تناولنا منه هو جسد ودم الإله الوحيد ثم نمجد الثالوث “ذوكصابتري..” وهنا نربط مابين الإله الوحيد الذي هو كلمة الله وهو أيضا أحد الأقانيم الثلاثة المتحدين في الجوهر الإلهي، ولذلك نلاحظ تكرار الجملة ثلاث مرات الجملة الأولى “سوماتوس كى إيماتوس….” (جسد ودم الإله الوحيد….) تكرر ثلاث مرات، المرتين الأولى والثانية تقال باللغة اليونانية، والثالثة تُقال باللغة القبطية “فاي بى بي سوما نيم بي إسنوف….” (هذا هو جسد ودم الإله الوحيد…).

ونحن نشكره لأننا بتناولنا من جسده ودمه نثبت فيه ويثبت فينا، ونحن أيضا نُسَبِحة مع الطغمات السمائية، ومع الأبرار الذين سبقونا إلى السماء، وفي هذا اللحن أيضا نتذكر صوم رب المجد عنا أربعين يوما،ونطلب منه أن يقبل صومنا ونطلب الخلاص والرحمة والبركة وغفران آثامنا بشفاعة القديسة العذراء مريم،وبعدها يقول الكاهن البركة الختامية التي نأخذها لنعيش بها حتى نرجع مرة أخرى إلى الكنيسة.

أما من حيث موسيقية هذا اللحن، فنحن نقول أولاً: أن ألحان الكنيسة القبطية تتميز بأسلوبين أساسيين،أسلوب “الميليسما” (التطويل النغمي على حروف لفظية معينة) والتي تعطي فرصة للتأمل في معاني الكلمات والتحليق في سماء الروحيات لإطالة فترة التسبيح أو الصلاة، والأسلوب الآخر ومنه لحن “سوماتوس” يُقال بالأسلوب “السيلاباتي” أو الدمج (كل حرف لفظي أو أكثر يقابله حرف نغمي)، وهذا الأسلوب يُستخدم في طقس الكنيسة لإعطاء كمية كبيرة من المعلومات الروحية والإيمانية في أقل وقت ممكن، ولذلك نجد أسلوب الدمج مناسب في ألحان ختام الصلوات، حيث تتغيرالنصوصوتتعدد وتتنوع حسب المناسبة الطقسية، إن كانت عيد سيدي أو صوم أو مناسبات كنسية أخرى.

إن الكنيسة القبطية الغنية بتراثها الروحي والتسبيحي،من خلال ألحانها المتعددة والمتنوعة ذات النغمات الموسيقية الجذابة، استطاعت أن تجعل الموسيقى خادمة مُطِيعة لتوصيل جميع المفاهيم الكنسية، بِسَلاسة وبعمق وبفهم، لكل أفراد الشعب المُسَبِحِين والمُصَلِين لله،حتى تثبتهم في إيمانهم بكل الطرق.

وإليكم رابط لحن “سوماتوس”: