عودة لدور الإعلام فى الانتفاضات


فى عقد الانتفاضات، ظهرت قوة جديدة فى العالم العربى، وقد بدأت تلك القوة تزدهر، ويتّسع تأثيرها، وتتعاظم قدرتها يوماً بعد يوم.. إنها قوة الإعلام.

لا يستطيع الإعلام وحده تحقيق التغيير السياسى فى أى دولة من الدول، لكن التغيير لا يحدث من دونه، ولا يقدر على الاستمرار وبلوغ الغايات إلا بمساعدته.

فى عام 1982، استطاع الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد إخماد احتجاجات واسعة فى مدينة حماة، مستخدماً طاقة كبيرة من العنف، من دون أن يعلم كثيرون بما جرى، أو يمتلكوا الوسائل للتأثير فى مجرياته، لكن وريثه الرئيس بشار لم يستطع القيام بالفعل ذاته من دون رصد ومحاسبة؛ إذ طرأ عامل جديد وضع قيوداً صارمة على استخدام العنف من قِبل النظم السياسية تجاه مناهضيها والمحتجين عليها.. إنه الإعلام.

هكذا استطاع الإعلام أن يجبر الصين على سلوك مختلف تجاه احتجاجات «الإيجور»، مقارنة بما فعلته ضد محتجى ميدان السلام السماوى. واليوم يواجه الرئيس بوتين عدوين رئيسيين خلال حملته العسكرية على أوكرانيا، أولهما يتمثّل فى المواجهة الصلبة الأوكرانية المدعومة من الغرب على الأرض، وثانيهما يتجسّد فى الرأى العام العالمى الذى صنعه الإعلام وأجّجه ضده، والأرجح أن العدو الثانى أنكى على روسيا البوتينية من العدو الأول وأكثر إيلاماً.

بات انتقال «الصورة» أسرع وأوسع انتشاراً ونفاذاً، وباتت قدرة الجمهور أكبر على بلورة الأثر وتداوله وخلق الانطباع وإشاعته؛ لذلك أصبحت السلطات مقيّدة الحركة، بقدر ما أضحى المناوئون أكثر قدرة على بلوغ أهدافهم.

فى دول الانتفاضات العربية، ظهر بوضوح أن الإعلام كان عاملاً حاسماً فى ضبط أداة القمع الرسمية، ورغم الانتهاكات المرصودة فى كثير من البلدان، فإن تسليط الأضواء الإعلامية على تصرّفات الأنظمة كان يُحد كثيراً من شططها وقدرتها على الاستخدام المُفرط للقوة.

لم يكن هذا هو الدور الوحيد للإعلام فى بلدان الانتفاضات العربية، بل ثمة أدوار أخرى أكثر أهمية؛ منها لعب الدور الأخطر فى بلورة شعور السخط العام، وهز هيبة الحكم والحكام والإغراء بهما، ونقل التجارب المشابهة من مجتمعات أخرى، وتقديم صورة المحتجين والمناهضين و«الشهداء» على النحو الأمثل، وأخيراً توفير البنية التحتية للاتصال بين المحتجين، واستخدام تلك البنية فى الحشد والتعبئة وبلورة الشعارات وتحديد مسارات التظاهر.

لا يمكن استبعاد دور «الإعلام الجديد»، خصوصاً فى نقل عدوى الانتفاض والاحتجاج ضد السلطات فى عقد الانتفاضات العربية، حتى إن بعض الباحثين المرموقين بالغوا بالقول إن تلك الانتفاضات لم تكن لتحدث من دون وجود تلك الوسائط الجديدة.

تعطى وسائل الإعلام للمحتجين والغاضبين عدداً من المزايا؛ منها تمكينهم عبر وسائط «السوشيال ميديا» تحديداً من السخرية من الحكام وإهانتهم. ويمثل التعريض بالحكام علناً عبر أقنية مثل «فيس بوك» و«تويتر» وغيرهما، إعلاناً باختراق «خط الهيبة»، وبالتالى الإغراء المستديم بالنظم الحاكمة، والدعوة الواسعة للانتفاض عبر إسقاط «جدران الخوف». الإشكال أن قدرة أى نظام تتضاءل أمام عنكبوتية الشبكة وقدرتها على النفاذ وسرعتها فى التناول، ولذلك فإن رسائل السخط التى تنطلق فى أى لحظة مشبّعة بعبارات الإهانة بحق الزعماء، سرعان ما ستصبح ككرة ثلج تكبر لحظة بلحظة حتى تسد الأفق أمام المستهدفين بها.

تُمكّن تلك الوسائط المحتجين من تبادل المعلومات المهمة حول أماكن التظاهر ومواعيدها وشعاراتها ومطالبها، كما أنها تُستخدم فى الحشد والتعبئة وزيادة عدد المنتمين لها وإقصاء وشيطنة هؤلاء الذين يعارضونها.

وثمة عامل آخر غاية فى الأهمية؛ إذ يتم استخدام تلك الوسائل فى تقييد حركة النظم والحكومات، عبر تصوير ورصد أدائها ورفعه على الشبكة العنكبوتية. يظل التركيز على صورة شرطى يقمع متظاهراً أعزل، أو يسحقه بسيارة مدرعة، أو يطلق النار على رأسه، أو يركله فى معدته بقسوة، أكثر إضراراً بأى نظام من قرارات مجلس الأمن أو الإدانات الدولية، وأكثر تأجيجاً للاحتجاجات من مئات الخطب والأشعار وتقارير فساد الحكومات وزيادة معدلات البطالة والفقر.

يبقى أن تفاعلات الناشطين على وسائط الإعلام «الجديد» أيضاً تستنفر الرأى العام الخارجى، وتشوه السلطات العامة، وتهين هؤلاء الذين يقفون فى الاتجاه المعارض لها، وتصنع لهم قوائم سوداء وتروجها لاغتيالهم معنوياً، وهو أمر يحجم بدرجة كبيرة فرص معارضة أنماط الاحتجاج المختلفة.

لقد وُلد الإعلام فى عالمنا العربى فى معية الأنظمة الحاكمة، وظل لعقود طويلة إحدى أدواتها فى مخاطبة الجموع وتحقيق الضبط الاجتماعى وضمان التواصل من أجل تحقيق الأهداف العمومية وتحقيق الأمن والاستقرار.

لكن تلك الخصائص تغيّرت بفعل التغيرات الحادة التى طرأت على المجال الاتصالى وما رافقها من تطورات تكنولوجية فائقة، بحيث أضحى المجال الإعلامى المعاصر عصياً على تحقيق تلك الأهداف.

أفضل ما يمكن فعله حيال نزعات الاحتجاج والتمرّد، التى قد تظهر فى أى مجتمع عربى، سيظل بكل تأكيد يكمن فى تبنى الحوكمة، واعتماد السياسات الرشيدة، ومقابلة توقعات الجمهور.

وإذا كان بمقدورنا تقديم النصح للأنظمة الوطنية فى ما يتعلق بإدارة المجال الإعلامى تحديداً، وعلى عكس الاتجاه السائد تماماً، فإن هناك حاجة ماسة لتعظيم التركيز على وسائل الإعلام «التقليدية»، لتصبح أكثر تعبيراً عن هموم الجمهور، وأكثر تمتّعاً بثقته، بدلاً من تركه فريسة للوسائط الجديدة، التى لا يمكن أبداً ضبط توجهاتها أو تقليل قابليتها للاختراق.

نقلاً عن "الوطن"

تاريخ الخبر: 2022-04-19 18:17:49
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 78%
الأهمية: 87%

آخر الأخبار حول العالم

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:45
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

“غلاء" أضاحي العيد يسائل الحكومة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 12:26:39
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 56%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية