التمثلات اللاواقعية في واقعية الدراما السودانية.. «مسلسل سكة ضياع نموذجاً»


التمثلات اللاواقعية في واقعية الدراما السودانية.. «مسلسل سكة ضياع نموذجاً»

إبراهيم أحمد الإعيسر

تعرّف الدراما أنها الحكاية لجوانب الحياة الإنسانية التي يعرضُها ممثلون يقلّدون الأشخاص الأَصليين في لباسهم وأقوالهم وأفعالهم، أو بشكل آخر هي إعادة إنتاج الواقع، أو كما عرفها (أرسطو) أنها «محاكاة لفعل إنسان».

من هذا المنطلق يمكن أن نشير إلى أن من مركزيات الأدوات الفنية للفنون البصرية (الدرما المرئية) تحديداً التي تحاكي الواقع أو تتماهى معه: هو التجسيد الواقعي لفضاء الزمكان والشخوص (في كل مكوناتها الجسدية والشكلية والفكرية والثقافية.. إلخ) التي تتماشى مع جوهر الفكرة (تجسيد الواقعية الاجتماعية) أو مع واقعية الأحداث، أضف لهما جودة الإضاءة والصوت والصورة كأدوات مساعدة من حيث (الاظتظهار) الواقعي للحدث، وأدوات مركزية من حيث الصنعة الفنية البصرية.

ولعل هذا ما افتقدته مسلسل (سكة ضياع) حول تناقض الفكرة- أو باللغة النقدية الدرامية ما يمكن أن نشير له بـ(السيناريو)- مع تمثيل واقعية بعض (الشخصيات) المحورية وتوظيفها بالشكل الخاطئ (عكس طبيعتها الخلقية):

فالفكرة من الواضح أنها تناقش القضايا الاجتماعية (للطبقة الارستقراطية الخرطومية) وقضايا الشرائح الاجتماعية التي تفتقد للسند أو ما نطلق عليهم بلغة العامة (أبناء الحرام) وهي كلمات قاسية تصنف في العلم النفسي أن لها تأثيراتها النفسية القاتلة معنوياً تجاه هذه الشرائح، مثلها مثل شريحة (المعاقين) حينما نطلق كلمة (معاق) تجاه (المعاق) دون أن نحدِّد نوعية الاعاقة (بصرية- سمعية- حركية- عقلية.. إلخ) وهو ما يعني أن (المعاق) الذي أشرنا له (بمعاق) دون تحديد (إعاقته) أنه إنسان (شامل الإعاقة).

إذن هي فكرة متوسعة من حيث الممارسات الحياتية المختلفة كحياة (المشردين/ اللصوص/ صعاليك الليل/ مدمني المخدرات والكحول والسجائر.. إلخ).

فما بين التماهي للمخيلة السينمائية الهندية وما بين (المحاولة) لتجسيد الواقعية الحياتية لبعض الشرائح المنسية والمستضعفة بين المجتمع السوداني تخلق مسلسل (سكة ضياع) أزمة ذاتية لهذه الصنعة الفنية- أقول ((محاولة)) تحديداً، للتناقض الذي أشرت له سابقاً ما بين واقعية الفكرة وعدمية علاقة الشخوص مع الفكرة (الواقعية الاجتماعية) من حيث اللغة الشفهية والجسدية والملبوسية (الملابس) والشكلية الإنسانية.. إلخ ومن هنا يمكن أن نستخلص أن هناك دوماً ما تظل فوارق فنية في العملية المتكاملة في صناعة الفن الدرامي غير الملاحظ لها عند المشاهد العادي: وهو أن إختيار الديالوج (اللغة الشفهية في الحوار) هي من مهمة الكاتب أو (السينارست) وتجسيد واقعيتها من مهمة (الممثل) فحيناً نلحظ إلى المفردة التي لفظها بطل المسلسل (عبادي) إلى معشوقته «ورحكاكي» التي تتناقض مع الطبيعة اللغوية لبطل المسلسل- اللغة التي أسميها باللغة (الشبابية الخرطومية)- نجد أن الخطأ هو خطأ (السينارست) مع المخرج معاً لا (الممثل) المناط به لتجسيد الدور.

أبدأ من الشخصية المحورية البطولية (عبادي) لأقول أن توظيفها لدور الشاب (المنحرف/ المتشرد/ اللص/ المجرم/ الصعلوك) توظيف لا يمت للواقع بصلة؛ فالشكلية الإنسانية من حيث التحليل العلمي لعلم الفراسة والعلم النفسي الجنائي أنها شخصية (لينة/ ناعمة/ أرستقراطية) لا تعرف خشونة الحياة بطبيعة ملامحها الإنسانية، يدعمها تصفية الشعر واللحية المهذبة بدقة وعناية وربطة الشعر (التي لا تتناسب مع عمرية البطل وطبيعة شكليته الإنسانية) والملابس كذلك التي تتغرّب عن الشخصية الاعتبارية و(رطوبة الوجه) والنظارات الشمسية التي تعطي طابعاً للأناقة أكثر من (الشر) ليحيلها إلى شخصية علاقتها بـ(الجريمة) تحديداً هي (صفر)، أضف إلى ذلك (لهجتها في الحديث) لهجة لا علاقة لها بلهجة مجتمع (المجرمين/ المشردين/ المنحرفين/ الصعاليك)، مع قلة مهاراتها الحركية والعقلية موهبتها في الارتجال عقلياً وجسدياً. هذا بعكس شخصية مثل شخصية (أبو الدبش) التي تبدو كما لو أنها (الشخصية الواقعية في الحياة) لا الشخصية الدرامية التي تتقمّص دور الشخصية الحقيقية أو الاعتبارية (الإجرامية) في الحياة اليومية؛ فهي تجيد فن اللغة الشفهية والجسدية بواقعية صارخة تتناغم مع ملابسها (الرديئة) وتسريحة شعرها؛ ذلك للدرجة التي (يشكّك) معها المشاهد أن هذه طبيعة الشخص الممثل في الحياة اليومية!.  أيضاً شخصية الطفلة (أب كرت) تتظاهر بصورة مماثلة إلى شخصية (أبو الدبش) يدعمها بشدة الاسم (أب كرت) مع اللغة الذكورية التي تتحدث بها الشخصية بتأنيث (الذكر) وتذكير (الأنثى) في الخطاب الدرامي؛ وهي واحدة من العادات الطبيعية في مجتمع ما أسميهم أيضاً (المتوحدين) أو (المشردين) وهو بعكس شخصية (دوكو) التي تتشابه مع (عبادي) في المظهريات الشكلية والطبقية واللغوية (شفاهة اللغة) كفتاة في الأصل (مدللة) دورها المتناغم مع شخصيتها (عاملة مطاعم) و(حانات) مع السيجارة التي يمكن تجذب أنفاسها في الفواصل العملية.

شخصية (كبويدا) التي تقتسم مع (عبادي) الحياة الضائعة، ناجحة من حيث اللغة الشفهية والجسدية خصوصاً و(ضحكتها) التي تتمثل بواقعية مفرطة- لا تصلح كلمة (مفرطة) توظيفها هنا لكن أقصد بواقعية مثيرة للتعجب.

أضف لها مظاهر (الشر) من حيث التحليل النفسي الجنائي، لكن يعيبها أنها تؤدي- بأحاسيس نفسية ولغوية جسدية- وظيفة الرجل الثاني في عصابة الرجلين (عبادي/ كبويدا) فمن الأصلح أن توظف في دور القائد الأعلى (commandant suprême) إن كانت شخصية (عبادي) تمظهرت بتناقضٍ مع واقعية تقمص الشخصية الحقيقية بين الحياة (personnalité criminelle).

أما عن الشخصية الثانوية (جسكبة) نجد أنها (متكلّفة) أو تقمصّها للدور مخجل إن لم نقل صلاحيتها للتمثيل هزيلة، (مفاز) فتاة تلقائية وعفوية لا تصلح للمشاهد الأكثر جدية وتراجيديا، إنها صالحة في المشاهد الكوميدية التي تتناول واقعية ساخرة وبلهاء، لذلك تقيمها (فاشل) من جانب و(ناجح) من جانب آخر.

لجانب الشخصيات المحورية في المسلسل لا يمكن تجاوز فضاءات المكان وعلاقتها بالشخوص: فالناظر إلى مظهرية (دوكو) ووجودها بين شارع متسخ بـ(القمامة) يلحظ للتوظيف الخاطئ من المخرج لهذه الشخصية، فـ(أب كرت) تتناغم مع المكان بدرجة مطلقة مقارنةً (بدكو) الطفلة (الارستقراطية الناعمة).

أيضاً وجود (أريكات) أنيقة في منزل- يبدو أقل تواضعاً- مع المستوى الطبقي المتدني لشخصيات تعيش الإجرام والتشرّد والإدمان لمذاهب العقل؛ هي ما لا تمت للواقع بصلة كذلك. ربما وجود صورة الفنان (محمود عبد العزيز) المعلقة على جدار الغرفة تعطي طابعاً لخلفيتهم الثقافية؛ فنفهم أن نوعية الموسيقى يمكن أن تخلق محددات إجرامية وأخلاقية، فالذين يستمعون كنموذج لأغاني (مصطفى سيد أحمد) يصنفون كصفوة إجتماعية وثقافية وسياسية. هذه عوامل أحياناً تستخدم في الجنائيات للكشف عن هوية المجرمين؛ من المؤكد في الدول المتقدمة علمياً التي تستخدم الأساليب العلمية في مؤسساتها.

أما إذا كانت لنا نظرة عامة حول الشخصيات بمختلف أدوارها، سوف نجد أنها (بلا إحساس) أو تجسيد الأحاسيس النفسية عندها غائبة تماماً- ربما نوعاً ما عند (كبويدا)- وهذه واحدة من إشكاليات الفن الدرامي والسينمائي عند الفئة من الشباب.

ومن الواضح أو الملاحظ في نظري المخرج تعامل مع إخراج المسلسل (بثقافة ضحلة) و(فوضوية نوعية) في الكشف الواضح عن هوية النوعية الدرامية (المأساة (التراجيديا)/ الرومانسية/ الملهاة (الكوميديا)/ التراجيكوميدي/ الدراما البوليسية.. إلخ)! لذا دوماً ما يكون لنا رأي في أن على الفنان عموماً أن يكون صاحب (ثقافة شاملة) وثقافة فنية ونقدية خاصة بالفن الذي يحمله، آخذ نموذجاً بالممثل البارع (محمود السراج) وهو أن واحدة من الأدوات التي صقلت موهبته هو الخلفية الثقافية الشاملة، بل معظم الجيل المؤسس مثل (الفاضل سعيد) و(جمال حسن سعيد) و(محمد عبد الله) و(مختار بخيت).. إلخ هم في الأساس أصحاب ثقافة شاملة لذلك الصنعة الدرامية والسينمائية عندهم تظل على الدوام ذات جودة عالية أو أقل رداة من غيرها من الدراما والسينما الشبابية.

إذا ذهبنا إلى الحبكة الدرامية داخل المسلسل نكتشف أنها تحمل الكثير من التماهي للسيناريوهات الهندية (copie artistique) مع أنها تخلو من الحداثوية الفكرية في بنيتها الشكلية (لا المضمونية) إن كان المخرج باحثاً من خلال مجريات الأحداث عن حداثوية أو تجديد في الاعتيادية الدرامية المحلية.

الإضاءة الرديئة كذلك والصوت والصورة- أو فشل الكاميرا في ما تخفيه الكلمات- مع التوظيف الخاطئ للموسيقى في الفواصل (المأسوية) و(الاحتفالية) خصمت من جودة المسلسل.

السودان

20/ 4/ 2022م

تاريخ الخبر: 2022-04-22 03:21:54
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 59%

آخر الأخبار حول العالم

انهيار طريق سريع جنوب الصين: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 48 شخصا

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 09:25:00
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 63%

بين فيتنام وغزة – صحيفة التغيير السودانية , اخبار السودان

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 09:22:59
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 59%

هذه وضعية سوق الشغل خلال الفصل الأول من سنة 2024

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 09:24:54
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 68%

في سوق الأسهم .. هل عليك بيع أسهمك في مايو وإعادة الشراء في نوفمبر؟

المصدر: أرقام - الإمارات التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-05-03 09:24:00
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 36%

توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة

المصدر: موقع الدار - المغرب التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-05-03 09:24:52
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 70%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية