من العوامل التي شكلت شخصية السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وصياغة منهجه في التفكير والنظرة للمدنية الغربية، رحلته إلى أوروبا التي أجراها في شبابه بمعية السلطان عبد العزيز، في الفترة من 21 يونيو/حزيران إلى 7 أغسطس/آب عام 1867م.

كانت فرنسا قد أقامت المعرض الدولي في باريس، وتلقى السلطان العثماني عبد العزيز الدعوة من نابليون الثالث إمبراطور فرنسا للحضور، وفي هذه الرحلة زار الوفد العثماني الذي يضم عبد الحميد (لم يكن تولى السلطنة بعد)، دول فرنسا وبلجيكا وإنكلترا والنمسا والمجر.

وآنذاك، التقى عبد الحميد والوفد مشاهيرَ الحكم والسياسة في هذه الرحلة، كنابليون الثالث إمبراطور فرنسا، والملكة فيكتوريا من إنكلترا، وليوبولد الثاني من بلجكيا، وغوليوم الأول من ألمانيا، وفرانسوا جوزيف من النمسا.

وبينما كان الوفد العثماني يحرص على الظهور بالمظهر الغربي في الرحلة، كان عبد الحميد ابن الخامسة والعشرين يرتدي ملابس بسيطة جداً، وظهر بسيطاً في سلوكياته وتعاملاته، ما جذب انتباه أوروبا تجاه هذا الأمير الشاب المختلف.

تأثير رحلة أوروبا على سياسة حكمه

وفي مذكرات السلطان عبد الحميد، تبرز أهمية هذه الرحلة التي لفتت انتباهه وتفكيره إلى الحياة الأوروبية وأنماط الحياة فيها وطرق المعايش والإطار الأخلاقي الغربي، والتطور الصناعي والعسكري، كما تنبه إلى ألاعيب السياسة العالمية، ومدى وقوع الدولة العثمانية تحت تأثير وضغط أوروبا، ونحو ذلك، مما كان له انعكاسات واضحة على حكمه وطريقة تعامله مع المدنية الأوروبية بعدما اعتلى العرش.

كان عبد الحميد يُعمل تفكيره العميق في مشاهداته للحياة الأوروبية رغم مطالعاته الواسعة عنها قبل الرحلة، وكوّن خلالها انطباعات مختلفة عن دولها، فرأى أن فرنسا دولة يغلب عليها اللهو، ورأى في إنكلترا أنها دولة ثروة وزراعة وصناعة.

وأكثر الدول الأوروبية التي تأثر بها وأعجبته هي ألمانيا، بخاصة النظم الإدارية والعسكرية فيها، وهذا يفسر اختياره للضباط الألمان لتدريب الجيش العثماني عندما صار سلطاناً للدولة.

تعلم عبد الحميد خلال هذه الرحلة ذكاء الحوار السياسي، وذلك من خلال ردود الصدر الأعظم العثماني فؤاد باشا، على من يريد تحطيم معنويات العثمانيين في زمن كانت توصف الدولة العثمانية بالضعف.

فمن ذلك ما ذكره المؤرخ المصري محمد حرب في كتابه "السلطان عبد الحميد الثاني آخر السلاطين العثمانيين الكبار"، أنه سئل: بكم تبيعون جزيرة كريت؟، فأجاب فؤاد باشا: "بالثمن الذي اشتريناها به"، في إشارة منه إلى قرابة ثلاثة عقود ناضل فيها العثمانيون للحفاظ على كريت.

عبد الحميد الثاني وفلسطين

فكانت فرصة لأن يستقي عبد الحميد الشاب كيف يدير مثل هذه الحوارات السياسية، ولذا تجد هذه النقطة واضحة جداً في حواراته بعد توليه السلطنة، ومنها الرد التاريخي على محاولات الصهيونية الحصول على موافقة منه لإقامة وطن لليهود في فلسطين.

إذ قال آنذاك: "انصحوا هرتزل ألا يتخذ خطوات جديدة حول هذا الموضوع، لأنني لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة لأنها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي، وقاتل أسلافي من أجل هذه الأرض، ورووها بدمائهم، فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا مزقت دولتي من الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل، ولكن لزم أن يبدأ التمزيق أولاً في جثتنا".

تأثّراً بهذه الرحلة، اتبع السلطان عبد الحميد بعد توليه السلطنة بعد ذلك سياسة استقلالية تجاه أوروبا، ولم يعهد عليه الوقوع تحت تأثير أي حاكم أوروبي مهما كانت علاقته به أو قربه منه، بل كان يتصرف بـ"كاريزما" السلطان الذي يتولى أمر ملايين العثمانيين، وأكثر منهم في دائرة العالم الإسلامي باعتباره خليفة المسلمين.

كان للسلطان عبد الحميد مفهومه الخاص المتزن تجاه نظرته إلى المدنية الغربية وإدخال عناصرها إلى بلاده، فهو يؤمن بأن حضارته المتكاملة لها عناصر تفوق على الحضارة الأوروبية، ومن ثم لا يلزمه استيراد الجانب الثقافي والتراثي منها.

دخول المخترعات الحديثة في عهده

وانطلاقاً من إيمانه بأهمية الأخذ عن المدنية الغربية وجهها الإيجابي، اهتم عبد الحميد بإدخال المخترعات الحديثة إلى بلاده، في مختلف نواحي الحياة، ومن ذلك شراء غواصتين وكان سلاح الغواصات جديداً.

وأدخل التليغراف إلى بلاده من ماله الخاص، وأقام مؤسسة حديثة للمياه، وغرفاً للصناعة والتجارة، وأنشأ إدارة للبريد، ومد السكك الحديدية، وأسس البلديات، وأدخل ما يعرف بالترومايات في بلاده كوسائل مواصلات متقدمة.

واستفاد من الأخذ عن المدنية الغربية في مجال التعليم بصورة قوية، فأنشأ المدارس الحديثة بنظام تعليمي عصري، كما أقام كلية للعلوم وكليات للآداب والحقوق، وكلية للعلوم السياسية، وأكاديمية للفنون الجميلة، ومدارس عليا للتجار ة والزراعة والبيطرة والتعدين والتجارة البحرية.

وأنشأ كذلك مدارس متخصصة كمدارس الصم والبكم والعمي، وأقام مدارس إعدادية –تساوي الثانوية حالياً- في كل سنجق، كما أقام مدارس عليا بمستوى الجامعات في دمشق وبغداد وبيروت وسلانيك وقونية وغيرها، وأرسل البعوث العلمية إلى فرنسا وألمانيا.

إذن، كان للسلطان عبد الحميد منهجه المتوازن في الأخذ عن المدنية في أوروبا، إذ أبقى على الجانب الثقافي والتراثي، واهتم فحسب بالأخذ التدريجي عن أوروبا تقدمها في مجالات الحياة المختلفة.

TRT عربي - وكالات