منذ ضمه إلى شبه جزيرة القرم عام 2014، وما تلاه في الأشهر القليلة التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا أواخر فبراير/شباط، كان بوتين يُعِدّ العدة للتعامل مع العقوبات الغربية الوشيكة التي أراد الغرب من خلالها "تفجير" الاقتصاد الروسي. فيما ساهمت القرارات النقدية الحاسمة التي اتخذتها موسكو في تخفيف آثار العقوبات الاقتصادية، فضلاً عن الترويج لنهاية محتمَلة لـ"هيمنة الدولار".

وبينما تسببت العقوبات التي فُرضت على روسيا في أواخر فبراير/شباط في انخفاض قيمة الروبل إلى مستويات غير مسبوقة، مما دفع البنك المركزي الروسي إلى رفع أسعار الفائدة بأكثر من الضعف إلى 20%، تعافى الروبل إلى حد كبير بشكل خالف معظم التوقعات، بعدما أعلن المركزي الروسي عن صلة بين الروبل والذهب، ليعود ويخفض أسعار الفائدة من 20% إلى 17% في 8 أبريل/نيسان الماضي.

وفي الوقت الذي بدأ فيه الروبل يحقّق ارتفاعات قياسية، على الأقلّ رسمياً، تزامناً مع قرار موسكو بيع منتجاتها من النفط والغاز بالروبل للدول غير الصديقة، عانت الدول الغربية ارتفاعات غير مسبوقة في معدلات التضخم، إذ وصل في الولايات المتحدة إلى 8.5%، الأمر الذي دفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى رفع سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 0.5%، في أكبر زيادة خلال 22 عاماً، لتصبح 1%.

روسيا تعود إلى معيار الذهب

بصرف النظر عن دوره كمعدن أو سلعة، يُعَدّ الذهب إحدى أقدم وسائل التبادل التي عرفها الجنس البشري. في الواقع، دفع الدور المزدوج للذهب الدول العظمى إلى سن معيار الذهب لتسهيل مدفوعات التجارة الدولية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وبقي الحال كذلك حتى 1971، عندما قرر الرئيس الأمريكي نيكسون إنهاء النظام عن طريق إزالة الارتباط بين الذهب والدولار الأمريكي.

في أبريل/نيسان الماضي استأنف المركزي الروسي شراءه الذهب من البنوك التجارية الروسية في الفترة من 28 مارس/آذار وحتى 30 يونيو/حزيران بسعر ثابت يبلغ 5000 روبل للجرام الواحد. ووفقاً لرونان مانلي محلل المعادن النفيسة في "بوليون ستار" الذي تحدث لـ"روسيا اليوم"، ربط بنك روسيا المركزي من خلال هذه الخطوة الروبل بالذهب، وحدّد سعر صرف أدنى للروبل مقابل الدولار الأمريكي.

وعلى الرغم من رفع معدلات الفائدة في الولايات المتحدة وحصول الدولار على مزيد من القوة أمام العملات الرئيسية الأخرى، إذ يسجّل الدولار حالياً أعلى مستوى فى 20 سنة، سجّل الروبل الروسي أيضاً ارتفاعاً جديداً اليوم الخميس إلى 65.5 مقابل الدولار، بعد أن انخفض إلى 140 في الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير، بما يعني أن العملة الروسية عوضت جميع خسائرها.

ما مصير هيمنة الدولار؟

وإلى جانب ما تفعله موسكو لتستبدل بالدولار عملتها المحلية لبيع منتجات الطاقة الروسية، أبدت دول مصدّرة للطاقة مساعي مشابهة، ففي أواخر مارس الماضي نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية مقالاً بعنوان "السعودية تدرس قبول اليوان بدلاً من الدولار عند بيع نفطها للصين".

وعلى الرغم من أن هذا الخبر غير مدعوم بتصريحات رسمية، فإن خطوة كهذه من أكبر الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة من شأنها أن تقوّض مكانة "البترودولار" الذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي، والذي ساهم مباشرة في ترسيخ مكانة الدولار العالمية، وتحويله إلى عملة مهيمنة على مستوى العالم في شتى المجالات.

وإلى جانب عوامل عدة، يعتمد الدولار الأمريكي كثيراً في إنعاش قيمته على "البترودولار" الذي هو فائضات احتياطياته الناتجة عن المعاملات التجارية النفطية في فترات ارتفاع أسعار البرميل، كالفترة التي تمرّ بها الأسواق العالمية حالياً.

يُذكَر أن مصطلح "البترودولار" ظهر عام 1974 بعد فترة قصيرة من أزمة النفط العالمية، عندما قبلت السعودية مقترح الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون تسعير صادرات السعودية النفطية كافة بالدولار. ولكون السعودية أهمّ مصدّري النفط في العالم، سارت الدول الأخرى على خطاها، مما جعل الدولار عملة تحتفظ بها الدول لشراء النفط والسلع والاستثمار.

رفع الفائدة.. سلاح ذو حدين

برّر الفيدرالي الأمريكي قرار رفع أسعار الفائدة إلى أعلى معدَّل منذ عقدين بكبح جماح الزيادة المطّردة في معدلات التضخم، والتي غذّاها ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة إلى مستويات قياسية جراء الحرب الأوكرانية المستمرة منذ أكثر من شهرين.

وفي مؤتمر صحفي عقده في واشنطن أمس الأربعاء، قال رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي جيروم باول، إن "التضخم مرتفع للغاية، ونحن نتفهم المصاعب التي يسبّبها"، مؤكداً أنهم يتحركون بسرعة لخفضه.

تأتي هذه الخطوة بعد أن سجل التضخم في الولايات المتحدة أعلى ارتفاع له في 40 عاماً وصولاً إلى 8.5% في مارس الماضي. ومن المتوقع أن يواصل التضخم الارتفاع مستقبلاً بما يفوق هدف الفيدرالي الأمريكي الذي كان عند حدود 2%.

ومن شأن رفع أسعار الفائدة، الذي يتوقع الخبراء أنه سيستمر في الأشهر المقبلة، أن يجعل عملية الاقتراض من البنوك أكثر تكلفة على الأفراد والشركات والحكومات، فيما يشجّعهم على إيداع الأموال للاستفادة من الفائدة المرتفعة، مما سينعكس حسب التوقعات على تهدئة الطلب على السلع والخدمات والتأثير في القوة الشرائية بالشكل الذي سيساعد على تخفيف تضخم الأسعار.

وفيما زادت هذه الخطوة التي يتوقع الخبراء لها أن تبطئ النمو الاقتصادي العالمي، قوةَ الدولار أمام العملات الرئيسية الأخرى كاليورو والينّ الياباني، بدأت أسعار الذهب تسجّل انخفاضات ملموسة.

TRT عربي