عتمة

تشعر بالتوتر. أصوات متداخلة: صراخ، بكاء، أنين، أحاديث جانبية. تنكمش على أحد مقاعد الانتظار. تترقب دورها فى الزيارة. ينادى المُمرض الشاب على أسماء المحجوزين فى غرفة العناية المُركزة. يتأخر فى نداء اسم جدتها. تنتظر طويلًا دون جدوى. تفكر فيما يجب أن تفعل. تتلفت حولها. تتساءل: «تُرى، كم عدد المرضى فى العالم؟». 

تقوم على مضضٍ. تتجه نحو الممُرض. تسأله عن سبب تأخره فى نداء الاسم. ينظر للمتحدثة مُتفحصًا، ويبتعد بها عن الباب، ويستفسر عن اسم المريضة. تخبره بنبرةٍ مقتضبة: «سحر محمد عمر».

- قلم.. قلم.. حبر.. آلة.. مربى..

قليلون الذين يعرفون اسمها الحقيقى، فالجميع ينادونها: «سوسو» مذ كانت صغيرة. حتى إن هدى- حفيدتها- عرفته وهى ابنة العشرين؛ عندما أخذت بطاقتها الشخصية لأول مرة لتستلم لها المعاش، وصارت تستلمه كل شهر بعد أن انشغلت أمها بالذهاب للمدرسة لتساعد فى مصاريف البيت وعلاج الجدة. بيد أنها كانت تسهو عن اسمها باقى أيام الشهر حتى يأتى اليوم الموعود لاستلام المعاش. وأخيرًا، حفظته لما اعتادت الذهاب مع جدتها إلى المستشفى للمتابعة مع الدكتور.

- قلم.. ورق.. مربى.. كوباية..

تراقب هدى المُمرض الشاب وهو يبحث عن الاسم فى الكشف ذى الأوراق المطوية. لديه ملامح جميلة، لكنه سمين بعض الشىء، مما يجعل لباس التمريض غير مناسب عليه، ويبدو على أسنانه المُصفرة أنه مُدخن شره.

لم تتزوج هدى حتى الآن، بينما عمرها تجاوز التاسعة والعشرين بعدة أشهر. لا أحد يدرى السبب تحديدًا. كما أننى لا أستطيع الزعم أنها قبيحة، فلديها وجه حسن، وجسد يهفو إليه الكثير. ربما هى غريبة الأطوار بعض الشىء؛ فهى صامتة جدًا وكأنها تخشى الحديث، وتقرأ معظم وقتها، ولديها محاولات جادة فى الكتابة. تمنت كثيرًا أن تصير روائية عظيمة كاللائى قرأت لهن، لكن الحظ لم يحالفها، كما أنها حساسة جدًا بشكلٍ زائد على اللزوم.

بدأت منذ مدة طويلة فى مشروع رواية ظنت أنها ستصير ملحمة شعبية كأبى زيد الهلالى، لكنها تحولت لقصة قصيرة لا تزيد على ألف وخمسمائة كلمة. نصحتها إحدى صديقاتها- القليلات- أن ترسلها لجريدة إلكترونية مُتخصصة فى نشر القصص القصيرة. ترددت، ومع ذلك أقنعتها صديقتها بضرورة كسر حاجز النشر، ودلتها على المسـئول عن الجريدة. فأرسلت له القصة قائلة: «يسعدنى أن أرسل لك نصًا بعنوان (بائع الضوء)، ونشره فى جريدتكم إذا ما كان يصلح للنشر». قالت ذلك وهى مُتأكدة أن القصة رائعة وصالحة للنشر بلا شك. لم يرد المسئول فورًا، وإنما أجابها بعد يومين تقريبًا. قال فى رسالة قصيرة: «النص جميل. لكن إذا أردت أن تصيرى كاتبة، يجب أن تفعلى...». استوقفتها جملة: «إذا أردت أن تصيرى كاتبة». وبدأت تتساءل: «إذا أردت! وهل أنا غير كاتبة؟». أجابته بفتور خلال لحظات: «ربما»، وتوقفت عن الكتابة نهائيًا من يومها، ونُشرت القصة بعد ذلك بأسبوع، لكنها لم تهتم!.

على كل حال لم تتزوج هدى بسبب غرابة أطوارها - كما أعتقد- وانغماسها فى القراءة، وشعورها الدائم باللاجدوى.. تجاه كل شىء.

- يا فايزة هاتى القلم. الله! هاتى القلم، عطشانة!

لا أحد يعتنى بالجدة سوى هدى، فالجميع مُنشغل. الأم تعمل ليل نهار؛ تذهب للمدرسة فى البكور، وتغرق فى دروسها الخصوصية بعد الظهيرة. والأب يسافر دائمًا للعمل إلى السعودية، ويأتى فى الإجازات فقط، كما أنه كبير السن بطبيعة الحال، ولا يستطيع إلا أن يعتنى بنفسه. أما أخوها الصغير فلا يلتفت لما يحدث فى المنزل، ويقتنص الفرص للسرمحة والقعود على القهوة مع أصدقائه، وإذا ما اعترض أحدهم على سلوكه، يظل يبرطم ويزعق ويترك المنزل لأيام دون أن يعلم أحد عنه شيئًا. فما كان على هدى إلا أن تعتنى بجدتها التى لا تتقلب على السرير دون مساعدة بسبب بطنها المنتفخ، وكأنها حامل فى سبعة توائم.

- هاتى القلم يا بنت الكلب، عايزين تموتونى من العطش!. 

يهز المُمرض رأسه. يخبرها بأن الاسم غير موجود فى الكشف، ويعود إلى مكانه أمام باب العناية المُركزة. تهرول خلفه. تسأله عن كيفية حدوث ذلك! يقول إنه لا يعرف شيئًا أكثر مما فى الكشف، ثم يستدرك قائلًا: «ربما نُقلت إلى غرفة أخرى». تقف هدى حائرة لا تدرى ماذا عليها أن تفعل. تسأله فى نهاية الأمر عمَن- مِن المفروض أنه- يعرف مكانها. فيجيبها: «يمكنك أن تنتظرى حتى أتأكد أنها ليست فى الداخل».

- عطشانة! عطشانة حرام عليكم! هاتوا القلم يا مجرمين!.

تبدأُ الجدة فى البُكاء. تستيقظ هدى أخيرًا فى لهفة قائلة: «أنا هنا. أنا هنا يا سوسو». تقول الجدة برجاء: «هات القلم يا سمير، البنت موتتنى من العطش». 

تنام هدى عادة على الأرض فى غرفة الجدة؛ وذلك لأن جدتها لا تقدر على النوم على جنب واحد لمدة طويلة، فتقوم هدى بقلبها على جنبها الآخر كل عدة ساعات. لكن عندما تغرق الجدة فى غيبوبة الكبد تبدأ فى الصراخ والهذيان، حتى إن حفيدتها لا تفهم تحديدًا ما تريد، وتجهش فى البُكاء. حيث تطلب الجدة شيئًا وهى تريد آخر، وتقول أسماء من ماتوا، وكأنهم أحياء أمامها.

تضىء هدى مصباح الغرفة، وتقول: «حاضر يا سوسو، حاضر، لحظة واحدة». تهرول. تجلب زجاجة مياه دافئة. تضع يدها أسفل رأس جدتها، وتثبت فم الزجاجة بين شفتيها، وتُشربها على مهل كطفل صغير.

- أنا آسفة يا سمير.. سامحنى يا أبو سمرة.. يا حبيبى..

يخرج المُمرض من الغرفة وعلى وجهه تعابير جامدة قائلًا: «إنها فى الداخل، وفى خير حال، ربما نسوا وضع اسمها فى الكشف». ارتاحت هدى، وشكرته كثيرًا. طلب منها أن تنتظر حتى نهاية الزيارة، وسوف يسمح لها بالدخول لتقعد معها قليلًا. أومأت هدى، واتجهت نحو مقاعد الانتظار مرة أخرى. راحت تتأمل الأصوات الصاخبة، والروائح النفاذة، والإضاءة الخافتة، ومنظر الجدران غير المريح، وتفكر فى إمكانية الهروب من ذلك الجحيم فى أسرع وقت.

- خلاص.. سأموت لترتاحم.. جهزى الكفن يا فايزة..

تغفو أو تكاد. تهذى وهى نائمة. تقعد هدى عند قدميها، وتبكى. تشعر بحمل ثقيل فوق صدرها، تشعر بالوحدة والغربة. تتمنى لو يزورها الموت. تقول: «أنا آسفة يا رب، لكن أنا تعبت». تغلق المصباح، وتغرق فى ظلام الغرفة.

تتذكر نبيل، زميلها فى الجامعة، والوحيد الذى أحبته بصدق، وأحبها. أرادت من كل قلبها الزواج منه، لكنه دائمًا ما كان يردد أنه لن يتزوج أبدًا، ولا يفكر فى الأمر، لأنه لم يُخلق لذلك، وإنما خُلق ليقرأ ويكتُب الشعر. وأكاد أجزم أنه مَن دفعها للقراءة، وأغراها بفنون الأدب. لم تعترض ولا مرة على كلامه، بل إنها كانت تحترم عدم رغبته بحبٍ لا نهائى، وتكبت رغبتها بكل قسوة. ارتبطا دون أملٍ فى الزواج، وتضاجعا مرات عدة بشهوةٍ وحب. استمرا لسنواتٍ على هذا الحال. لكنه اختفى.. اختفى فجأة.

- سأموت لترتاحم..

ينظر إليها من وقت لآخر. لا تنتبه إلا وهو يومئ لها. تقوم، وتسير بخطوات واسعة نحوه. يتلعثم وهو يحاول أن يخبرها بشىءٍ ما. لا تفهم. تطلب منه أن تُلقى نظرة عليها قبل أن ينتهى موعد الزيارة؛ ليطمئن قلبها، فقط. تلح. يستسلم. يتركها تدخل غرفة العناية المُركزة، وينتظر فى الخارج وهو يتبعها بعينيه. تتجه نحو سرير جدتها. لا تجدها. تقف فى منتصف الغرفة الكئيبة. تدير عينيها البنيتين فى المكان. تسأل مُمرضة شديدة البياض، وهى تضع فى يدها ورقة بخمسة جنيهات: «سرير سحر محمد لو سمحت». تنظر لها المُمرضة، وترتبك. تخبرها أنها ماتت مساء أمس، وهى فى الثلاجة.. الآن.

تاريخ الخبر: 2022-05-14 21:21:29
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 53%
الأهمية: 55%

آخر الأخبار حول العالم

قطع المياه 8 ساعات عن بعض مناطق بالجيزة في هذا التوقيت - أي خدمة

المصدر: الوطن - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 06:21:14
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 66%

مع مريـم نُصلّي ونتأمل (٨)

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-08 06:21:41
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 64%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية