قصي همرور
(1)
بعض المفاهيم تكتسب دلالاتها عبر الاستعمال العام، بينما إذا راجعناها – بين الحين والآخر – بصورة أدق، قد نجد أن الاستعمال العام يقود التفكير في اتجاهات غير صحيحة. من هذه المفاهيم التدريج. بصورة عامة يتم تداول مفهوم التدريج على أنه رديف الاتجاه الإصلاحي في السياسة.
(2)
في كتابات سابقة، قلنا إن الثورة هي تغيير نوعي (أو نقلة نوعية)، بينما الإصلاح تغيير مقداري (أو نقلة مقدارية)، وأن هذا التمييز هو الأساس. والإصلاح قد يكون أحيانا مناسبا، حين نتعامل مع أوضاع ومشاكل يمكن حلّها عبر معالجات وتحسينات للنظم القائمة بدون الحاجة لتغييرها، بينما الثورة تكون هي سيدة الموقف حين نتعامل مع أوضاع ومشاكل تعود لخلل متجذر في النظم نفسها بحيث لا يتأتى إحداث التغيير المطلوب بدون تغيير نوعي في النظم القائمة نفسها. بعبارة أخرى: الإصلاح يقدّم تعديلات في قواعد اللعبة الحالية وترميمات في الميدان الحالي، بينما الثورة تتجه نحو نقلة لميدان مختلف ولعبة مختلفة. وذلك يعني أن التدريج قد يكون أحيانا رفيقا للتغيير النوعي فيصبح من أدوات الثورة، أو يكون من أدوات الإصلاح.
(3)
والتدريج حين يكون حليف الثورة يمكن تمييزه من التدريج حليف الإصلاح، فالتدريج حليف الثورة قد يمرحل الحلول – لأن بعض الحلول المتقدمة تتطلب شروطا يكون استيفاؤها عبر تفاعل حلول سابقة مع الواقع لبعض الوقت – لكنه من البداية يقدم الحلول بطريقة تضع القاطرة في طريق التغيير النوعي، وبنقلات ومراحل محسوبة وصريحة. بينما التدريج حليف الإصلاح قد يقول أحيانا انه يريد تغييرا جذريا ولكن دعونا الآن نركز في الواقع وممكناته، بمعنى أنه لا يضع خطة ومراحل توصل نحو التغيير النوعي، وإنما يكتفي بتقديم معالجات حالية في مستوى تحسين قواعد اللعبة – قد تكون جيدة أحيانا وقد لا تكون – ثم يترك ما بعد ذلك للتكهنات بحيث لا يعلن مسؤوليته عن تصوّر معيّن للمستقبل المنظور. على سبيل المثال، قد نرى أحيانا الإصلاحيين والثوريين معا يقولون إنهم يؤيدون نموذج الاقتصاد المختلط (mixed economy) حاليا، بينما الإصلاحيون يقصدون بذلك أن يحصل تطور في البنية التحتية ومؤسسات السوق في البلد حتى يمكن أن يصبح الاقتصاد لبراليا أكثر وتتولى قوى السوق قيادة دفة الاقتصاد، أما الثوريون فيقصدون بذلك أن تتطور البنية التحتية ومؤسسات الدولة والمجتمع بحيث يمكن للقوى العاملة والقدرات المحلية أن تتسلح بأرضية اقتصادية أقوى وبمعرفة وتنظيم أكبر فتتحرك نحو المزيد من استقلال القرار عن المنظومة اللبرالية العالمية والمزيد من الاقتصاد حليف المجتمع لا حليف السوق.
(4)
ومن أهم معايير التمييز بين التدريج ناحية التغيير الجذري/النوعي (الثورة)، والتدريج ناحية التغيير المقداري (الإصلاح)، هو ما يصاحب التنظير من الممارسة (البراكسس praxis). إذا كان هنالك طرفان يقولان إنهما ينشدان تغييرات جذرية بالتدريج، فإن المقارنة بين ما يقال وما يمارس تساعد في التمييز؛ فكما قال جيمس بولدوِن، “لا أصدق ما تقوله، لأني أرى ما تفعله.” التنظير للتمرحل الثوري يصطحب مستوى من الممارسة الثورية الحاضرة (وليست مؤجلة)، وما عدا ذلك فهو ليس بثوري/جذري.