أحمد شوقى يكتب: أسامة أنور عكاشة أسس فنًا تليفزيونيًا لم يكن معروفًا قبل ظهوره

عميد الدراما كان ثلاثة كُتّاب كبار فى بعض!

أعماله تنقسم لثلاث فئات «البطل المثالى» و«دراما الزمان» «ودراما الهوية»

أسس فن الدراما التليفزيونية العربية الذى لا يوجد مثيل له فى العالم 

كان نموذجًا للفنان صاحب المشروع والكاتب العصامى الذى حفر نجاحه بدأب وصبر

 

اثنا عشر عامًا كاملة مضت منذ رحيل عمدة الدراما التليفزيونية العربية، عقد ونيف نقول بعدها باطمئنان كامل أن أسامة أنور عكاشة قد ترك فراغًا يصعب أن يملأه غيره. 

ربما ساهم اختلاف الزمن وتطور الوسيط بعض الشىء، فلم يعد من الممكن أن يوجد هذا العمل الواحد الذى يجتمع حوله الجميع ويشاهده كل العرب فى اللحظة نفسها، وجانب كبير من حنين الانتلجنسيا المصرية لعصر القوة الناعمة الذهبى، كان كل العرب يشاهدون ويستمعون ويتأثرون حصريًا بالإبداع المصرى، يرتكز- أى الحنين- إلى نكران حقيقة غياب المنافسة، فالفيلم المصرى كان يُعرف بالفيلم العربى وقت لم يكن بالفعل هناك فيلم عربى سواه.

إلا أن تفسير الاختيارات المحدودة لا يكفى لتفسير تفاوت النجاح، فقد كان المسلسل المصرى هو السائد والوحيد بالفعل، لكن كان هناك عكاشة وجواره آخرون، كانت هناك مسلسلات يشاهدها الناس لأنها المنتَج المتاح ثم يسقطونها من ذاكرتهم سريعًا، ومسلسلات أخرى تدخل القلوب والعقول، ثم يُعتّقها الزمن فتصير مكونًا للوعى والذاكرة والثقافة العامة. 

مسلسلات خطّها وحيد حامد ومحسن زايد ومحفوظ عبدالرحمن وغيرهم من الموهوبين فصنعوا بها عقولًا نيّرة وأرواحًا حيّة ونفوسًا تتنفس حبًا للوطن والحق والخير والجمال. عكاشة كان درّة تاج عنقود الموهوبين فى الدراما التليفزيونية. وفى هذا المقال نقدم محاولة بسيطة لرصد «أياديه البيضاء» على هذا الفن، وتحليل الإسهام الذى صنع به مجده، محاولين الإجابة عن سؤال: لماذا كان أسامة أنور عكاشة هو العنوان الأبرز فى تاريخنا الدرامى؟

الأسباب عدة نحاول اختزالها فيما يلى:

يمكن بمنتهى الأريحية أن نعتبر عكاشة المؤسس الشرع لفن كامل اسمه الدراما التليفزيونية العربية، الذى أزعم أنه فن مستقل بذاته يختلف فى كل سماته الشكلية والبنيوية والموضوعية عن كل أنواع الدراما التليفزيونية المختلفة، سواء فى الولايات المتحدة أو أوروبا أو آسيا. 

فأعمال عكاشة يمكن تصنيفها بأنها «رواية درامية اجتماعية يتراوح طولها بين المتوسط وفوق المتوسط»، بما يختلف تمامًا مع كل أشكال المسلسلات المعروفة فى العالم: دراما أوبرا الصابون soap opera فائقة الطول المعتمدة بالكامل على العلاقات الأسرية والعاطفية، والمسلسلات ذات الطابع السينمائى المعتمدة على قالب تشويقى وإيقاع لاهث وإنتاج ضخم، التى يتحدد طولها طبقًا لنجاحها ومستوى مشاهدتها، وبالطبع الدراما الكوميدية بأشكالها وأطوالها المختلفة.

ما أقوله هنا إن القالب الدرامى الذى صار لاحقًا معروفًا باسم «المسلسل العربى»، هو قالب لم يكن له تواجد قبل اختراع التليفزيون العربى الذى صار المصرى لاحقًا. وهو نوع بدأ بإرهاصات متباينة المستويات، يحاول فيها الكُتّاب توظيف الإمكانات المادية والإنتاجية المحصورة فى حدود قدرات التليفزيون، آنذاك، فى طرح موضوعات اجتماعية وإنسانية تهم المشاهد المصرى والعربى.

نوع درامى خلقته الضرورة ومحدودية القدرات، كان من الممكن أن يتحول إلى تجربة برامجية منقرضة ما لم يهبه الله رسولًا اسمه أسامة أنور عكاشة، يثبت أقدام الشكل الدرامى، ينطلق منه ليجرب صياغات جريئة، ويفتح الطريق لمئات الكُتاب لاستخدام نفس القالب المستمر حتى يومنا هذا، الذى يصعب توقع انقراضه على الأقل خلال المستقبل المنظور.

من حق الجميع الاتفاق أو الاختلاف مع أعمال عكاشة ومواقفه الشخصية، لكن لا يمكن لأحد أن ينكر الاتساق الكامل بين الرجل وأعماله، فهو النموذج المثالى للفنان صاحب المشروع، الكاتب الذى اختار من يومه الأول أن يكون محللًا ومحاميًا وناقدًا للشخصية المصرية وبُناها الاجتماعى، ملتزمًا حتى يومه الأخير بهذا الاختيار الذى تحول مع تراكم الخبرات إلى كائن فنى حى يمتلك ضميرًا وإرادة مستقلة، جعلت صاحبه حتى نهاية عُمره لا يُصنف إلا طبقًا لقناعاته الخاصة، ولا تشوبه شائبة انتماء أو تواطؤ مع أى جهة بخلاف المشروع العُكاشى.

اكتفى أسامة بسلاح موهبته ودأبه فى الكتابة، ليحفر به اسمه فى تاريخ المجتمع المصرى، ويمتلك من خلاله التأثير داخل آليات الصناعة بعدما صار أول مؤلف تُنسب الأعمال لاسمه، لا لنجومها أو مخرجيها، دون أن يحتاج فى سبيل ذلك لإبرام أى صفقات أو الحصول على أى استثناءات أو امتيازات من أى نوع، باستثناء امتيازات النجاح التى انتزعها بحُكمٍ بات لا يمكن الطعن عليه: حكم شوارع كانت تفرغ من البشر وقت عرض حلقاته.

يمثل عكاشة صورة مثالية لتضافر الموهبة بالصنعة، والشعبية بالتجريب. فعلى مدار مشواره الطويل تجد الكثير من المتناقضات، من مسلسل اقتربت حلقاته من ١٥٠ حلقة كـ«ليالى الحلمية» إلى مسلسلات لا تتجاوز حيز الخمس عشرة حلقة كـ«الراية البيضا» و«النوّة»، ومن أعمال معتمدة بشكل كامل على تيمة شعبية وبناء كلاسيكى كـ«ضمير أبلة حكمت» إلى أعمال تنحو إلى التجريب المفرط فى السرد والإيقاع كـ«أنا وأنت وبابا فى المشمش» و«عصفور النار». كما كتب عكاشة للسينما، وكتب رواياتٍ وقصصًا قصيرة، ومقالات خاض بها معارك فكرية مشتعلة.

التناقض والثراء الشديد فى أشكال الإبداع يوضحان الروح الفنية المتقدة التى امتلكها عكاشة، تلك الروح الراغبة فى تحقيق كل أحلام الفنان، من الشهرة والجماهيرية إلى الابتكار وكسر الحدود، ومن إحداث الأثر اللحظى المدوى إلى دخول تاريخ الفن والتأثير فيه بتراكم ودأب لم يتوقفا حتى النفس الأخير.

الحقيقة القاطعة أن مشروع أسامة أنور عكاشة التليفزيونى الضخم لم ينل حتى الآن حقه من الدراسة والتحليل، واكتفت معظم الآراء التى كتبت عنه- على كثرتها- بالحديث عن دوره الفنى والفكرى العام، أو عن تحليل أحد أعماله بمفرده، دون محاولة وضع قراءة عامة لمشروعه، تضع كل عمل فى سياقه وتحاول تَبَيُّن القواعد العامة التى وضعها عكاشة إطارًا لإبداعه.

عالم عكاشة التليفزيونى ليس بسيطًا كما يدعى البعض، ولا يعتمد على تيمة فكرية وبنائية واحدة، بل يمكن تقسيم مشروعه الفنى إلى ثلاثة اتجاهات فكرية وبنائية، تتشابه فى بعض العناصر وتتنافر تمامًا فى بعضها الآخر.

الاتجاه الأول هو الدراما «الدون كيشوتية» المعتمدة على وجود شخصية رئيسية واضحة تكون مركز العمل، وهو دائمًا فارس نبيل يحمل منظومة من القيم التى يؤمن بها ويدافع عنها، ويحاول التمسك بها فى مواجهة عالم يتغير من حوله. دراما البطل فيها واضح، عادةً ما يحمل المسلسل اسمه، وأبرز أمثلة لهذا الاتجاه بالطبع هو «أبوالعلا البشرى» الذى زينت صورة الفارس دون كيشوت تتراته، ومعه «ضمير أبلة حكمت» و«امرأة من زمن الحب» و«الراية البيضا»، والأخير تحول الفارس فيه إلى مجموعة من الفرسان تواجه طوفان الجهل والقبح الذى هاجم مصر ويواصل هجومه حتى يومنا هذا.

الاتجاه الثانى هو الاتجاه الأشهر الذى يظن البعض أنه الوحيد، وهو الاتجاه الذى يندرج تحته عمله الأيقونى «ليالى الحلمية»، والذى يُصنف بالخطأ باعتباره دراما بطلها المكان، وهو تفسير يفشل فى الولوج إلى لُب العمل وتحليل جوهره. 

فالبطل فى «ليالى الحلمية» و«الشهد والدموع» وأمثالهما هو الزمان وليس المكان. هى أعمال تحليلية تهدف لدراسة التغيير الذى يُحدثه الزمن، عبر تجربة تكاد توصف بالعلمية، يقوم المؤلف فيها بتثبيت عنصرى المكان والبشر، ويُحرّك الزمن ليرصد أثره عليهما، ليقدم بذلك رؤية بانورامية عن التحولات والآثار التى قد لا يمكن رصدها إذا ما قمنا بمتابعة شخصية بعينها أو انحصرنا فى فترة زمنية محدودة. فبطل الليالى ليس حىّ الحلمية وليس على البدرى، ولكن كيف جعل الزمن على البدرى ربيب الحلمية وحامل قيمها مضطرًا إلى التحول ماديًا وإنسانيًا وأخلاقيًا بمرور الأعوام وتقلُب الأحوال.

الاتجاه الثالث هو الاتجاه الذى شغل أسامة أنور عكاشة خلال العقدين الأخيرين من حياته، كهدف أسمى يتوج به تجربته شديدة الثراء، وهو اتجاه التفتيش عن الهوية المصرية، ومحاولة فهم حقيقة المصريين، والإجابة عن السؤال المحير: هل المصريون مسلمون أم أقباط أم فراعنة أم أتراك أم ينتمون لهوية أخرى؟ أم هم مزيج من كل ما سبق؟ وهو السؤال الذى يمكن أن نعتبره الفكرة العامة لمشروع عكاشة الفنى ككل.

هذا الاتجاه الثالث أسفر عن عمل بديع هو «أرابيسك»، الذى يمكن اعتباره أحد أفضل المسلسلات التليفزيونية المصرية إن لم يكن أفضلها على الإطلاق، وأسفر أيضًا عن مشروعين شديدى الطموح لم يمهل العمر أسامة أن يكملهما هما «زيزينيا» و«المصراوية»، وهما استمرار لطرح كل الاحتمالات الممكنة للإجابة عن هذا السؤال، وإن كان المبدع قد تمكن مسبقًا فى تقديم إجابة مقنعة سواء فى «أرابيسك» أو فى باقى أعماله بشكل عام.

فكل ما سطره عكاشة يقول بوضوح إن مصر ليست أى واحدة من هؤلاء، مصر ليست إسلامية ولا قبطية ولا فرعونية، وأى محاولة لاعتبار هذه العناصر هويات منفردة يمكن تجريدها وفصلها لن تؤدى إلا لفشل ذريع، تمامًا كفشل الدكتور برهان الذى طلب من حسن أرابيسك أن يقوم بصناعة قاعات منعزلة، كل منها يحتفى بإحدى تلك الهويات، فكان نصيبه أن تنهار الفيلّا الفاخرة عند أول هزة تتعرض لها. 

مصر مصرية، هويتها تنتمى لها وحدها، ولتاريخها الممتد الذى احتضن كل هذه الثقافات ومزجها ليأخذ منها ما يناسبه ويلقى بالباقى وراء ظهره. مصر مصرية كما رآها عكاشة ورأيناها جميعًا، مزيج سحرى من كل المدخلات التى تبدو أحيانًا متنافرة بل ومتضاربة، لكنها اختلطت بشكل ما لتمنحنا حضارة بعمر الزمن وثقافة ثرية كان أسامة أنور عكاشة أحد أنصع تجلياتها.

 

تاريخ الخبر: 2022-06-03 21:21:04
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 62%

آخر الأخبار حول العالم

حركة حماس تقول إنها تدرس "بروح إيجابية" مقترح الهدنة في قطاع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 12:27:49
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 56%

حركة حماس تقول إنها تدرس "بروح إيجابية" مقترح الهدنة في قطاع غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 12:27:46
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 67%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية