قبل أيام، فازت رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" للكاتب الليبي محمد النعاس، بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورتها الأخيرة.

والرواية الصادرة بالشراكة بين داري "رشم" و"مسكيلياني"، ترصد حكاية غريبة، عن رجل (ميلاد) وزوجته (زينب) يحدث لهما بمرور السنوات أن يتبادلا بشكل تدريجي أدوارهما المتفق عليها وفقًا للمجتمعات العربية والمجتمع المحلي في ليبيا، إذ يكرس ميلاد نفسه للبيت، لتنظيفه، وكي ملابس زوجته ونشرها، والاعتناء بحديقة المنزل، وقبل كل ذلك خبز أفضل المعجنات والمخبوزات بحكم عمله السابق كفرّان. في مقابل زينب التي تشب في بيئة محافظة، إلا أنها تحمل منذ سنوات تكوينها، طموحات وتطلعات تفوق استيعاب المجتمعات المحافظة. فزينب التي ربّاها عمها الفنان التشكيلي ذو القيم الليبرالية والغربية، والتي تشرّبت منه تلك الميول فباتت مثل بطة سوداء وسط سرب من البط الأبيض، تؤمن بحق المرأة في العمل وسط مجتمع يكرس الفتاة - منذ طفولتها وحتى زواجها - لخدمة زوجها وبيتها وأبنائها، وتؤمن بأن "الزنا هو أن نجامع من لا نحب" كما علمها عمها الفنان.

 لم تجد زينب متنفسًا تمارس من خلاله تلك القيم وتطلعها للعمل إلا من خلال ميلاد، الذي نشأ كذكر وسط 4 شقيقات، وأكسبه ذلك الوسط الأنثوي ليونة، ومسح على شخصيته فبات مثل الفتيات يهتم بالتفاصيل، والجماليات، ثم أسهمت مجموعة أخرى من الأحداث والعوامل، في ترسيخ ذلك في نفسيته، فبين غلظة والده ومطالباته الدائمة له بأن (يسترجل)، وبين فترة التحاقة في الجيش محاولًا اكتشاف الرجل بداخله، وبين العبسي ابن عمه الذي كان يحاول طوال الوقت أن يجعله رجلًا بمقاييس ومعايير المجتمع، رجل لا يبكي ويواقع النساء ويتسم بالخشونة ويحسم خلافاته بالقوة وينتزع حقوقه بالفرض. وسط كل تلك المحاولات اضطربت شخصية ميلاد أكثر فأكثر، وبات مبعثرًا بين طبيعته من جهة، وضغوط أسرته والمجتمع من جهة أخرى.

ملامح

قسم محمد النعاس روايته إلى 6 أقسام هي: (المخبز، البيت، دار غزالة، بيت العائلة، البرّاكة، المطبخ)، وعبر ضمير المتكلم، وعلى لسان ميلاد مختار الأسطى، تبدأ الحكاية وتنساب، متكئة على أسلوب سلس وناعم، أو كما يُقال في دنيا الأدب "الأسلوب شرف الكاتب"، واستطاع النعاس أن يستوفي هذا الجانب، بأسلوب جيد ولغة متناغمة. وعبر هذا التيار المضيء، يحكي ميلاد الأسطى حكايته مع الخبز، عشقه الأول، وحرفته وهوايته وشغفه الرئيسي الذي ورثه عن والده، حيث التحق معه في العمل في "الكوشة" التي تعني المخبز في اللهجة الليبية الطرابلسية، كبر ميلاد بين إخفاقات لا حصر لها، وكان نجاحه الأكبر مع الخبز وصنعه بأفضل الطرق وبمختلف أنواعه، وعبر هذا المدخل نرصد المجتمع الليبي قابع في خلفية الحكاية، حقبة القذافي الطويلة، والمجتمع الليبي أيضًا حاضر، كخلفية بعيدة، المجمع في صيغته القديمة عندما ضم فئات متنوعة: عرب وإيطاليين ومالطيين ويهود. لم ينزلق الروائي في فخ الرصد التوثيقي للأحداث الكبرى، وإنما نجح ببراعة في غزل انعكاس تلك الأحداث على مسارات شخصيات روايته، مثل اليهودي العم بنيامين الذي انتقل إلى تونس مع مغادرة اليهود لليبيا. وهكذا فإن الأحداث الكبرى تصبح محركًا لخيوط الدراما وبعض جوانبها بدلًا من أن تصبح هي الدراما نفسها. 

إلى جانب شخصية ميلاد، نرصد من خلال الفصل المعنون بـ"البيت" عائلته المكونة من أب قاسي ويحتقر ابنه بسبب ليونته، وأم تقليدية صامتة، والشقيقة الكبرى صالحة، العانس – وفقًا لمعايير بيئتها ومحيطها – والمؤمنة بأعمال السحر، وصفاء، التي تولت مع صالحة تربية ميلاد وهو صغير، ثم صباح، وبعدها أسماء الأصغر والتي تسبب مجيئها في منافسة طفولية مع ميلاد الأكبر منها مباشرة. ونرى عمه الذي يستولي على "الكوشة". وابنه العبسي، الذي يلعب دور "المرشد الاجتماعي" في حياة ميلاد.

علاقة "توكسيك"

"علاقة مسمومة، أو "توكسيك" هو المصطلح الذي دُرج مؤخرًا على استخدامه لوصف العلاقات العاطفية التي يدمر أحد طرفيها الآخر ببطء، وعلى مدى طويل، أو يتبادلان التدمير، بدون قصد أو بقصد. ترسم الرواية مراحل تسمم روح ميلاد الأسطى، وزوجته، بفعل تلك العلاقة التي جرى تركيبها وبناؤها بشكل غريب عن محيطها، وبشكل غير عادل نوعًا ما. أو بفعل الحب، حب ميلاد لزوجته. أو حتى بسبب ضغوط المجتمع، وتلميحات العبسي ابن عمه، وملاحظات أمه، وما تلى ذلك من تحول سيرة ميلاد الأسطى إلى علكة في الأفواه في قرية بئر حسين، لقد صار حديث سهرات الرجال في المقاهي والبيوت. ذلك الرجل الذي تحول وفقًا للمثل الليبي إلى "عيلة وخالها ميلاد" وهو مثل يُقال عن الرجال الذين لا يحكمون قبضتهم على أهل بيوتهم وفقًا لاعتبارات وعادات مجتمع عربي أبوي ذكوري.

وعلى الرغم من الحالة الرومانسية الحالمة التي يسردها ميلاد الأسطى في فصل "دار غزالة" عن رحلته مع زوجته زينب في شهر العسل إلى تونس، والتقائه ببنيامين الليبي اليهودي الذي فر إلى مدينة جربة في تونس، إلا أن الفصل نفسه يشهد البوادر الأولى للتناقض بين ميلاد وزينب، هي جائعة إلى الحرية، متطلعة وطموحة مقابل زوج طيب ولين العزيمة وأقرب إلى النمط المحافظ. ورغم بعض الشجارات، يدفن ميلاد مرارته في الحب، في جسد زينب، في التجول معها في تونس وليبيا وزيارة المطاعم والشواطئ والسينمات والأزقة الشعبية والأسواق، متناسيًا بذرة الاختلاف بينه وبين زوجته، التي بدأت تتكشف منذ الأيام الأولى للزواج، وراحت تنمو بعد ذلك ببطء وعبر سنوات طويلة حتى استحالت وحشًا التهم العلاقة ودمرها.

تبدأ الهمهمات من الجيران والأقارب والأصدقاء، عن ميلاد ووضعه الفريد، الرجل الذي تحول إلى ربة منزل، والزوجة التي تحولت إلى معيل للبيت، وفي الفصل المعنون بـ "بيت العائلة" يمكن رصد موقف أهل ميلاد، بين أم تطلق تعليقات لاذعة تغضب زوجته، وأخوات يضايقنها حينًا ويتساهلن معها حينًا. ثم نرصد في "البرّاكة" (وهي غرفة يبنيها الشباب وسط الأشجار لتكون ملتقى سهراتهم للتدخين وشرب الخمور والبوخة الشعبية) رأي الرجال والأصدقاء، والذين يمكن تلخيصهم في شخصة "العبسي" وهو أحد ألذ شخصيات الرواية، ابن عم ميلاد الذي يصغره بـ 3 سنوات إلا أنه هو قائد العلاقة بينهما، يستغله حينًا ويحنو عليه حينًا، يقدم لميلاد كل خبراته في "عالم الرجال"، يجلب له أول فتاة ليل، ويستدرجه لعالم تدخين الحشيش وشرب البوخة، ولاحقًا ينبهه لانفلات زوجته.

تتحطم العلاقة بين ميلاد وزينب ببطء. فقد ضرب ميلاد زوجته لأول مرة منذ 10 سنوات من الزواج، بسبب شكه في علاقة تجمعها بمديرها، يرد عليها ميلاد بعلاقة مع "المدام"، تلك المليونيرة الأرستقراطية التي تبدأ علاقته بها عبر فنون الخبز والمطبخ، وتنتهي بعلاقة حميمية. 

تطعيم الفصحى بالعامية

تبدو عملية حقن أي نص مكتوب باللغة العربية الفصحى، بزيوت من اللهجات العربية العامية، عملية صعبة فنيًا، وتلقى عادةً نوعًا من الاحتجاج، بسبب صعوبة تلك اللهجات على غير الناطقين بها، وبسبب خصوصية الثقافة المحلية لكل بلد، إلا أن محمد النعاس، يصل وبشكل يسير إلى معادلته الصوتية الأنسب، لغة انسيابية تتخللها دفقات من الدارجة، عملًا بمقولة ماريو بارجاس يوسا، الحائز على جائزة نوبل: "على اللغة أن تقوم بدورها بضخ وهم بالحياة وهذا أهم من السلامة النحوية واللغوية". لقد أكسبت تلك اللغة "خبز على طاولة الخال ميلاد" شخصيةً وطابعًا خاصًا.

وتناغم ذلك مع تقنية سردية بسيطة، حيث ضم كل فصل من الفصول الستة مقاطع سردية مرقمة، يتم حكيها بالتناوب، وكل رقم يشير إلى خط محدد في الحكي، عن الوالد، أو فترة معسكر الجيش، أو رحلة شهر العسل إلى تونس. وهكذا يمكن تتبع جميع الخيوط الرئيسية للحكاية ورصدها على حدة، ولكن على الرغم من ذلك، تشكل تلك الخيوط مجتمعة، بألوانها المختلفة، باقة سردية متناغمة، واحتاجت تلك المقاطع متوسطة الطول إلى لغة زلقة وأسلوب انسيابي، وهو ما تمكن النعاس من تحقيقه وخبزه بتميز كما قضى ميلاد عمره في الخبز باحتراف وكفاءة.