زمن الإغراء والإغراق


عندما ننظر حولنا سنكتشف أن لدينا المزيد من كل شئ تقريبا: المزيد من السلع الاستهلاكية ووسائل الترفيه، فائض من الخطابات السياسية والدينية والإعلامية، كثرة من المعلومات والخبراء، ومزيد من المطاعم ووصفات الأطعمة، ومزيد من المستشفيات والعيادات والأدوية والنصائح الطبية، مزيد من الاجراءات الأمنية، مزيد من العلاقات، ومزيد من الوعود، مزيد لا يتوقف عن الزيادة. وعلى الجانب الآخر، لدينا المزيد من الفقر، البؤس والاكتئات والعنف والخوف والمرض والأزمات وحالات الانفصال والطلاق والنفايات وأكوام القمامةوعدم الرضا. وهى أيضا كثرة مرشحة دائما للزيادة. باختصار لا ينقصنا شئ فلدينا، بنفس الزخم: الطعام والجوع، الصحة والمرض، الأمن والخوف، الارتباط والانفصال، الرغبة وعدم الرضا. فكيف يحدث أن نتعايش مع كل هذه التناقضات؟

تبدو المسألة منطقية، فكثرة السلع الاستهلاكية ووسائل الترفيه لا يعني الإشباع بقدر ما يعني تفاقم الاحساس بالفقر وعدم الرضا، فثقافة الاستهلاك لا تعرف الاكتفاء؛ كما أن ارتفاع منسوب الخطابات الدينية والأخلاقية قد يريح الأسماع ولكنه لا يسعف أرواحا قلقة في عشوائيات القيم؛ ويتزامن الحديث عن السلاموالأمن مع اندلاع حروب غير مبررة وغير منطقية، وكأن عبارات السلام والأمن أزهارا تنمو في مستنقعات العنف والنزاعات؛ وبات معروفا أن نوافذ التواصل الاجتماعى هى ذاتها غرف العزل الاختيارى؛ وبالمثل فإن الزيادة فىثي التدابير والخدمات الصحية لا تجعلنا أصحاء بقدر ما تربي الإحساس بالمرض الفعلي أو المحتمل، وهكذا.

والمشكلة الفعلية أن هذا المزيد لا يتوقف عن الزيادة لسبب بسيط وهو أنه مؤسس على منظومة متشابكة ولا عقلانية من المصالح، فالعالم أصبح سوقا هائلة لسلع بلا قيمة، فثمة من ينتج ومن يستهلك وبينها كم هائل من الوسطاء والمؤثرين والموزعين مهمتهم صناعة وتعظيم ثقافة الطلب على ما لا قيمة له. ولأنالسلع الثقافية والاستهلاكية الراهنة في معظمها بلا قيمة، فهي خفيفية الكثافة ومن سماتها التبخر أو التحلل السريع لإفساح المجال للمزيد من الشئ ذاته. إنها الزيادة التى تتغذى من الفراغ الذي تصنعه وعدم اليقين الذي تنشره والتعطش للمزيد الذي تستهدفه. وفي هذا الدوامة، لا يتوقف الطلب على المزيد من كل شئ وأي شئ وحتى لا شئ. إن ثقافة كرة القدم في سطوتها الحالية مثال دال على حالتنا، فكرة القدم ليست مجرد مجموعة من المباريات، وإنما سلسلة إمداد كروي لا تنتهي إلا لتبدأ، المهم أن تبقى الساحة ساخنةوعامرة بالمنافسات والهتافات والإعلانات، بدايات ونهايات تتجدد وتتوالد بلا توقف.

في الحقيقة أن افتراض توقف هذا المزيد قد يكون مزعجا، تماما مثل انقطاع الإنترنت وما يثيره لدينا من إحباط وفزع، فقد تعودنا على المزيد بغض النظر عن قيمته، فإن توقف نشعر بالخواء والحرمان. ومع ذلك فمن المشروع أن نفكر في الحد مما لا قيمة له ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. فلو تحررنا من إغراءات السلع الاستهلاكية، سوف ينخفض الإحساس بالفقر، على الأقل الفقر النسبى، ولو تم ترشيد تدفق الخطابات الدينية، فقد تجد النفوس متنفسا روحيا للعبادة والإيمان. ولو تحررنا من حصار البرامج الإعلامية والمسلسلات الدرامية ومباريات كرة القدم، فقد نتوقف عن الفرجة ويكون لدينا متسع من الوقت للحياة. إن سلامتنا النفسية والإنسانية والاجتماعية والاقتصادية باتت مثقلةبهذه الكثرة المدمرة والمفقرة، فنحن لا نحتاج إلى كل هذا الاستهلاك حتى نعيش، ولا نحتاج إلى كل هذه المواعظ لنؤمن، ولا نحتاج إلى كل هذا التواصل لنتواصل، إن النفس البشرية، كالطبيعة، أبسط من أن تتحمل كل هذا الإغراء والإغراق.

تاريخ الخبر: 2022-06-06 09:21:41
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 55%

آخر الأخبار حول العالم

الشرطة تخلي اعتصاما للطلبة تضامنا مع غزة في جامعة جورج واشنطن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 18:27:25
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 64%

لهذا السبب استمعت الفرقة الوطنية لعزيز غالي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 18:26:40
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 59%

اكتشاف مقبرة جماعية ثالثة وانتشال 49 جثة من مجمع الشفاء في غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 18:27:32
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 54%

الشرطة تخلي اعتصاما للطلبة تضامنا مع غزة في جامعة جورج واشنطن

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 18:27:28
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 61%

تقرير رسمي.. 1.5 مليون من شباب المغرب عاطل ولا يبحث عن عمل

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 18:26:37
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 58%

اكتشاف مقبرة جماعية ثالثة وانتشال 49 جثة من مجمع الشفاء في غزة

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 18:27:35
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 63%

لهذا السبب استمعت الفرقة الوطنية لعزيز غالي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-08 18:26:39
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 62%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية