يُنسى، أو يُغفل، عادةً الروادُ الذين سبقوا إلى إشعال المصابيح الأولى لإنارة المجتمع حين يُخلطُ بين التنوير والتحديث، أو يُعتقدُ أن التنور لا يمكن أن ينتشر إلا بمنأى عن الأديان.
وممن لا يُذكِرون فى هذه الحالة التى تنطوى على انتقائية روادُ التنوير فى القرن التاسع عشر، مثل رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك وغيرهما، وكذلك من تعود بداية جهودهم إلى أواخر ذلك القرن مثل الشيخ محمد عبده، وأحمد فتحى زغلول، وأحمد لطفى السيد، والشيخ مصطفى عبد الرازق، وحسن عاصم، وقاسم أمين وغيرهم، على ما بينهم من اختلافٍ فى الخلفيات والأفكار.
لم تبدأ جهودُ التنوير مع د. طه حسين برغم أهمية دوره فى هذا المجال، خاصة بعد أن استفاد من معركة كتابه المشهور (فى الشعر الجاهلى)، وعرف أن التنوير لا يتحققُ بواسطة صدماتٍ ثقافيةٍ تؤدى غالبًا إلى نتايج عكسية فى المجتمعات التقليدية والمتدينة. لم يتراجع عميد الأدب العربى عن أفكاره، بل فطن إلى أن أثرها يرتبطُ بطريقةِ تقديمها للناس، وهو ما سبقه إليه الرواَّدُ الأوائل، على نحوٍ أتاح فرصة تاريخية لبناء جسورٍ بين اتجاهى التنوير، اللذين انطلق أحدهما من الأفكار الحديثة، فيما ركز الثانى فى تجديد التراث الإسلامى.
وكانت العلاقات الشخصيةُ وثيقةً بين بعض أقطاب التيارين، خاصة من كانوا ضمن تلاميذ الشيخ محمد عبده وأصدقائه. وكان مفترضًا أن تؤدى تلك العلاقات إلى تعزيز الفرصة التى لاحت لبناء جسورٍ فى العمق يمكنُ البناء عليها لتطوير رؤية تمزجُ بين الأفكار الحديثة والتراث الإسلامى.
لكن استثمار تلك الفرصة كان فى حاجة إلى استمرار الظروف التى أتاحتها، وعدم تعجل البعض فى القفز على الواقع، وتجنب المعارك والصدامات الثقافية التى يبتعد فيها، أو بسببها، ما بدا قريبا قبلها، خاصة بُعيد احتواء آثار المعركة الحامية بين الشيخ محمد عبده وفرح أنطون على صفحات مجلتى المنار والجامعة.
وإذ كان صعبا، من الناحية الموضوعية، توفير المقومات اللازمة لاستثمار تلك الفرصة، فقد استمر الازدواجُ الفكرى، وأدى إلى تباعد فافتراق فصدام وصولا إلى استقطاب لا يُعرف متى يمكن الخروج من أسره.
نقلا عن الأهرام
