جناحا التوازن


ما بين الروح والجسد، أنفاسنا تتجدَّد، تلك النفس البشرية التي جُبلت على القوة؛ لأن «الإنسان ليطغى»، وعلى الضعف إذ «خُلق الإنسان ضعيفًا»، وما تميَّزت تلك النفس عن باقي الكائنات إلا لتكون حاملة شرف الخلافة في الأرض، وقادرة على عمارتها، غير أن ذلك لم يكن بالقوة ولا بالشجاعة ولا بالضخامة ولا حتى بالمراوغة، فلم تبقَ عادٌ على عظمتها، ولا إرم بأعمدتها، ولا ثمود بأوتادها.

وإن المتأمل في الكائنات من حولنا سيجد أن:


الدب والفيل أشد وأمنع، والأسد والضبع أشرس وأشجع، والماموث والديناصور انقرضا، على الرغم من أنهما أعظم وأهلع، والبغال والحمير أصبر وأقنع، والثعلب والقرد والغزال أروغ وأسرع.

بل وتدمينا البقة، وتقتلنا الشرقة.

فما الذي يميِّزنا ويجعلنا أعظم أثرًا وأرقى؟

لن يجانبك الصواب إن قلت إنه «العقل» الذي يختلف تمامًا عن «المخ».

إذ لا يُعدُّ العقل عضوًا يمكن تصويره أو تحديده، بل هو صفة ناتجة عن مجموعة من العمليات المركبة بين المخ وما يحتويه من معلومات وخبرات، والجسد وما يمتلكه من حواس وقدرات.

تمامًا كـ«البصر»، فالعين لن تُبصر بذاتها ما لم يكن ثمة ضوءٌ يصاحبه تفسير الدماغ للإشارات العصبية؛ ليكون «الإبصار» ناتجًا عن مجموعة من العمليات المشتركة بين ذلك كله، وما كل مبصر مستبصر، ومَن يُحسن القول أو الفعل يُحكم عليه بالعقل، ولذا يقال للعابث: (اعقل)، وفي المثل الجائر: «زوّجوه يعقل».

فالعقل إذًا حكمٌ وليس عضوًا، وعليه يأتي السؤال الأهم: ما الذي يميِّز العاقل عن غيره؟

إن من المسلَّمات التي لا يختلف عليها اثنان، ولا ينتطح فيها عنزان: أن كل ما على هذا الكون يسير وفق أحكام، وإن ظهر بشيء من العشوائية أو الفوضوية، فإن التفتَّ على ما يُحيط بك، ستجد أنه يحكمك، فالناس -مثلًا- يحكمون حريتك التي تنتهي عند حدودهم، فما إن تلتقي بأحدهم حتى تجد أن حديثك ومنطقك وكثيرًا من أفكارك محكومة بوجوده معك، رضيت بذلك أم لم ترضَ، حتى صمتك عما في صدرك تجاهه، هو حكم منه صادر عليك بإرادتك.

وليت الأحكام مقصورة على مَن تلتقيهم فحسب، فالقوة تحكم، والضعف يحكم، والمعلومة تحكم، والعمر يحكم، والفضاء يحكم، والأرض تحكم، لتجد نفسك بين مجموعة من الأحكام التي تنتظم بها الحياة وتستقر.

ولو تأملت الطيور التي تحرِّك أجنحتها كي تحلّق في السماء، هي في الحقيقة تغالب حكم الجاذبية بالهواء؛ لتحقق ما يُسمَّى بالتوازن ما بين الجذب والدفع الذي يُعدُّ أعظم معادلات العقل، وبه تستقيم الحياة، فـ«عظمة النفس الإنسانية في قدرتها على الاعتدال لا في قدرتها على السبق»، كما قال باسكال.

الاعتدال الذي يحققه العقل فتطمئن به تلك النفس العظيمة على ضعفها، وتدافع به (القلق والتوتر)، وهما بلا شك رد فعل طبيعي لما يصيب الإنسان من كد وكدر ونكد، كي يعود بهما إلى المقام الذي يليق به، فالطالب يتوتر قبل الاختبار، والمصمم يقلق من عدم الإبهار، والمخترع ليس ببعيد عنهما، وكلٌّ منا يصيبه شيء من ذلك قبل نجاحاته، وحتى إخفاقاته.

فاقلق وتوتَّر، ولا تخف من ذلك ولا تخجل، فهما جناحا التوازن فيك، وبهما تحذر وتحتاط مما يواتيك ويؤذيك، على ألا يزيدا عن الحد الطبيعي، فتكون حينها قد أسلمت نفسك للعجز، «واستعن بالله ولا تعجز»، وقد يزداد الأمر سوءًا فتركن إلى «الوهن»: وهو عدم فعل ما يجب -رغم قدرتك- تخاذلا، وحينها يكون ذلك منقصة فيك وعيبًا:

ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا *** كنقص القادرين على التمام.

@Nayefcom
تاريخ الخبر: 2022-06-15 03:24:48
المصدر: اليوم - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 55%

آخر الأخبار حول العالم

عاجل.. لحظة خروج الدكتور التازي من سجن عكاش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 06:25:38
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 64%

عاجل.. لحظة خروج الدكتور التازي من سجن عكاش

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-04 06:25:45
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 70%

مع مريـم نُصلّي ونتأمل (٤)

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-05-04 06:21:31
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 59%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية