السقا مات والأديب لن يموت

«السقا مات» من أفضل الروايات التى كتبت بالعربية فى العصر الحديث

شحاتة يعمل فى مهنة تتصل بالموت ولكنه يعيش الحياة بالطول والعرض وشوشة الذى يعمل فى مهنة من أسباب الحياة لا يعيش بل ميت ومحاصر

«السقا مات» من أفضل الروايات التى كتبت بالعربية فى العصر الحديث

تحل اليوم ذكرى ميلاد واحد من أهم الأدباء العرب، وهو الأديب الراحل الكبير يوسف السباعى، الذى ولد فى نفس هذا اليوم ولكن سنة ١٩١٧.

وحين ننظر إلى التراث الثقافى والفنى الذى تركه الأديب الكبير، لا يسعنا إلا الوقوف وتأمل روايته الخالدة «السقا مات»، فهى ليست أشهر أعماله فحسب، بل هى من أفضل الروايات التى كتبت بالعربية فى العصر الحديث، كما أن الفيلم الذى يحمل نفس الاسم والمأخوذ عن الرواية، والذى أخرجه المخرج العظيم صلاح أبوسيف، أيضًا من أهم أفلام السينما المصرية والعربية.

ولذلك كان لا بد فى هذه الذكرى أن نقف ونتأمل ونتناول الأثر الفنى الذى تركته الرواية ومن بعدها الفيلم فى كل إنسان قرأ الرواية، أو شاهد الفيلم، فكلاهما يطرح سؤالًا، بل أسئلة شغلت الإنسان منذ هبوط آدم على الأرض، وأهم هذه الأسئلة سؤال الموت.

ولكن قبل أن نذهب فى تلك الرحلة التأملية يجب أن نتوقف أمام حياة يوسف السباعى، فهو الأديب والعسكرى والوزير المصرى، الذى تم اغتياله غدرًا أثناء زيارته قبرص، على يد اثنين من المتطرفين العرب.

وذلك بعد أن سافر السباعى فى عام ١٩٧٧ للقدس رفقة الرئيس السادات، هذا الموقف المصرى الذى لقى هجومًا واستنكارًا عربيًا جعل بعض الدول العربية تقطع علاقتها بمصر، فى حين أن الناظر إلى مشروع السباعى الأدبى سيجد أنه كان متضامنًا مع القضية الفلسطينية من اللحظة الأولى، وقد عبّر عن ذلك فى العديد من أعماله، على رأسها روايته البديعة «ابتسامة على شفتيه».

وفى مصر كان موقف التيار اليسارى، المتمثل فى بعض الأدباء والنقاد، على علاقة متوترة بالسباعى، الذى كان على علاقة جيدة بالرئيس السادات، كوزير للثقافة فى تلك الفترة، التى رعى فيها النظام الفكر اليمينى الرجعى، وحاول به ضرب الأفكار اليسارية، وربما كان ذلك سببًا فى الظلم النقدى الذى تعرض له السباعى كأديب.

الموت هو الحقيقة فى هذا الوجود، وكان سؤال الموت موجودًا فى كل الحضارات الإنسانية وفى كل الأديان، ومن أهم الأسئلة الإنسانية التى تذهب إلى ما هو ميتافيزيقى. 

وفى «السقا مات» أنت أمام المعلم شوشة، هذا الرجل الذى أصبح مصابًا بفوبيا بكل ما له علاقة بالموت منذ وفاة زوجته وأم ابنه الوحيد. 

خوف شوشة المبالغ من الموت جعله ميتًا ولكن على قيد الحياة، بالرغم من أنه هو مالك أحد أسباب الحياة وهو الماء، أى أنه يملك سبب الحياة ولكنه ميت، يتجلى ذلك فى المشاهد الأولى من الفيلم أو الرواية، حيث نرى شوشة وهو يمارس مهنته كسقا، وهى المهنة التى انقرضت الآن، ويقوم بتوزيع المياه على البيوت، بيوت الأغنياء والفقراء، وفى الدكاكين وفى كل مكان، أى أن شوشة هو من يوزع على الناس سببًا من أسباب استمرار الحياة، فى حين أنه هو نفسه لا يعيش الحياة كما يجب، بل ذهنه وعقله ونفسه محاصرة بسؤال الموت.

يتبع سؤال الموت سؤال آخر وهو الصبر، فنرى بيت شوشة معلقًا فيه الكثير من اللوحات التى هى عبارة عن آيات قرآنية تتعلق بالصبر، وكأن شوشة لا يستطيع تحمل الحياة، بل يريد الخلاص المتمثل فى الموت، ولكنه يخشى هذا الخلاص، ولذلك لا يملك سوى الصبر، وربما يتظاهر بهذا الرضا والصبر، ويتمسك بهما أمام هذا الجحيم أوالمأساة التى وضع نفسه بداخلها.

كل ما سبق كان تمهيدًا جيدًا لظهور شخصية مثل شخصية شحاتة، التى لعب بطولتها فى الفيلم الفنان الكبير فريد شوقى.. شحاتة هو رمز الحياة، الذى يواجه الموت بشجاعة ولا يخشاه، ويريد أن يعيش الحياة بسعادة، دون أن يملك أسباب السعادة التى هى من صنع البشر مثل المال، فنراه يجلس فى مطعم ويأكل وهو لا يملك ثمن الطعام، فقط لأنه يريد أن يستمتع بتلك الشهوة، شهوة الأكل، هذه هى شخصية شحاتة التى تنهل من ملذات الحياة رغم قسوتها، ويواجه تلك القسوة بمزيد من العبث.

شحاتة يعمل فى مهنة تتصل بالموت، ولكنه يعيش الحياة بالطول والعرض، فى حين أن شوشة الذى يعمل فى مهنة من أسباب الحياة، وهى توصيل الماء للبشر، لا يعيش، بل ميت ومحاصر.

يظهر ذلك بشدة فى الفيلم، حيث يضع صلاح أبوسيف فى بعض المشاهد شوشة فى كادر ضيق يجلس على حافة الشباك المطل على الحارة، الشباك يشبه شبابيك السجون، وكأن شوشة محاصر ومسجون فى أفكاره وأشباحه، لا يملك سوى النظر إلى الحياة «الحارة» إلا من خلف هذا الشباك الصغير.

ولأن الرواية والفيلم يناقشان سؤالًا إنسانيًا عامًا، غير محصور فى منطقة جغرافية بعينها، بل هو سؤال لكل إنسان على الأرض، كان لا بد أيضًا من طرح المزيد من الأسئلة الإنسانية.

وفى الرواية كان الطفل الصغير «سيد» هو الذى يطرح هذه الأسئلة التى هى شديدة الأهمية، وكأن السباعى يريد أن يقول لنا ويلفت نظرنا إلى أهمية خلق جيل جديد يعيد النظر فيما نظنه نحن مسلّمات وثوابت.

ولذلك نرى فى الرواية المشاهد التى تجمع الطفل الصغير بشيخ الكُتّاب، وأسئلة الطفل الذى لا يدرك معنى بعض آيات القرآن الكريم، ولكن الشيخ يرد عليه بقسوة وغلظة وفى يده «الخرزانة» مما يجعل الطفل كارهًا الذهاب إلى «الكُتّاب»، المركز التعليمى فى تلك الفترة.

هذا المشهد لا يعنى فقط مجرد طفل أو أطفال لا يدركون معنى آية من القرآن ويتساءلون عن تفسيرها، بل هو دعوة للتفكير وتقبل الأسئلة والنقاش، ونفى لفكرة التلقين والتحفيظ دون فهم وإدراك.

فما فائدة إنسان يحفظ كتابًا كاملًا دون أن يدرك جوهره أو معناه؟ فهل إدراك المعانى أهم؟ أم حفظها داخل العقل كما هى دون تفكير؟! ربما هى إشارة خطيرة إلى وجوب النظر والتفكير وطرح الأسئلة وتقبل هذا الطرح، حتى ينشأ الطفل فى بيئة تساعده على التفكير لا التلقين والتحفيظ بالإجبار خوفًا من «خرزانة» الشيخ.

وأيضًا نرى المشهد الذى أخذ فيه الطفل قطعة جوافة من الشجرة الموجودة فى حديقة بيت أحد الأثرياء، وهذا الحوار الذى دار بينه وبين أبيه عن مفهوم الرزق والسرقة، حيث يلفت الطفل نظر أبيه إلى معانٍ أخرى غائبة عنه، كان لا يفكر فيها من قبل.

نقطة أخرى فى الفيلم يجب التوقف عندها، حيث فى أحد المشاهد التى يتذكر فيها شوشة زوجته، نرى زوجته وهى تساعده فى مهنة السقا، ولكنها تتعرض للتنمر من سيدة جارة لها، هنا نرى هذه السيدة التى سخرت من زوجة شوشة تقف خلف شباك كبير يشبه أقفاص السجن، وكأن أبوسيف يريد أن يقول لنا إن هذه المرأة التى تتنمر على المرأة التى تكافح وتعمل وتساعد زوجها، هى امرأة سجينة لأفكارها الرجعية المتخلفة.

من الأشياء التى تعطى قيمة إضافية للفن، وتحديدًا فن السينما، هو التأريخ للزمان الذى تدور فيه الأحداث، وأنت داخل الفيلم تستطيع رؤية المزيد من الأجواء التاريخية التى لم يرها أغلبنا الآن والتى بدأها السباعى فى روايته.. بداية من مهنة السقا، وهى مهنة الرجل الذى يقوم بتوزيع المياه على البيوت والدكاكين والأسبلة المتمثلة فى «الزير» الذى هو وعاء كبير من الفخار يوضع فى الطريق لكى يشرب الناس منه، تلك المهنة التى اختفت فى بدايات القرن الماضى مع تأسيس شركة المياه، ولكنها ظلت موجودة حتى قبل منتصف القرن فى بعض الأحياء الشعبية ومنها حى الجمالية، الذى كانت تدور فيه أحداث الرواية.

وإذا ذهبنا إلى المؤرخ الجبرتى وكتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، لوجدنا أنه فى زمن الجبرتى كانت هناك مهنة إضافية للسقا، وهى المشاركة فى إطفاء الحرائق. 

ثم نرى فى الفيلم مهنة «مكوجى الرجل»، وهى المهنة التى يعمل صاحبها فى كى الملابس، ولكن بالأسلوب القديم، حيث يتم استخدام مكواة كبيرة الحجم يتم تسخينها على النار، وتمسك بمقبض كبير ويقوم القابض عليها بتحريكها بواسطة يده وقدمه.

تأتى نقطة أخيرة، وهى بعض التفاصيل الفنية فى الفيلم، التى لا تبتعد أبدًا عن الرواية.

موسيقى الفيلم، التى صنعها الموسيقار فؤاد الظواهرى، تبدأ بصوت الأذان، ولكن شيئًا فشيئًا ترتفع آهات وصرخات إنسانية تختلط بصوت الأذان ثم تطغى، ثم نروح ونسير مع موسيقى جنائزية.

ويأتى مشهد شوشة، الذى لعب دوره الفنان الراحل الكبير عزت العلايلى، وهو يسير فى مسجد الحاكم بأمر الله أو المقابر، بعد موت صديقه شحاتة، والحوار الموجّه للموت، هذا الحوار الذى كتبه السيناريست الكبير محسن زايد.

وفى الفيلم نرى مشهد النهاية، حيث يدخل الطفل سيد ليسقى شجرة «التمر حنة»، تلك الشجرة التى كانت شاهدة على كل ما يحدث من موت وحياة وحب. 

فى الفيلم لا يقول صلاح أبوسيف إن شوشة مات بشكل مباشر كما حدث فى الرواية، ولكن المشهد الأخير ربما يشير بقوة إلى أن السقا الذى هو الإنسان الذى عاش ميتًا قد مات بالفعل، مات لأنه فكر فى الموت.. لا فى الحياة.

تاريخ الخبر: 2022-06-17 21:21:33
المصدر: موقع الدستور - مصر
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 50%
الأهمية: 68%

آخر الأخبار حول العالم

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:18
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 59%

محامي التازي: موكلي كشف أمام المحكمة أشياء كانت غائبة عنا جميعا

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-05-03 21:26:14
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 59%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية