كلفة إعادة اختراع العجلة!! .. «بمناسبة ذكرى مرور 233 عاما على الثورة الفرنسية»


مهدي رابح

الثورة في سياق التحول المدني الديموقراطي هي عملية تغيير عميق للواقع السياسي، الاجتماعي والاقتصادي يطيح بالبني المتوارثة وما يترتب عليها من علاقات سلطة وامتيازات قديمة وتراتبية مجتمعية ويعيد صياغتها بمعايير جديدة تسعى الي التأسيس لمجتمع اكثر تناغما يتبني آليات تنافس سلمية بين شرائحه الاجتماعية المختلفة حول الموارد المادية المحدودة بالضرورة والسلطة بصفة عامة وهو ما يؤدي إلى توفير بيئة سياسية مستقرة تسود فيها الحرية والسلام والعدالة، اي انها في المحصلة سعي جمعي باسل ودؤوب نحو حياة كريمة واكثر سعادة محكومة بعقد اجتماعي ملزم للجميع دون تمييز.

اختراع عجلة نظام الحكم الديموقراطي يرجعه البعض الي دويلات في الهند القديمة خلال فترة القرن السادس قبل الميلاد والتي عرفت بالـ ماها جاناباداس، ومن بين هذه الجمهوريات “فايشالي” التي تعتبر أول حكومة جمهورية في تاريخ البشرية، لكن وربما بسبب العقلية المركزية الاوروبية ظل الانطباع السائد دوما هو ان النظام السياسي في أثينا القديمة خلال نفس الحقبة تقريبا هو النظام الديموقراطي الأول في التاريخ ، بل ان مصطلح ديمقراطية في حد ذاته مشتق من المصطلح الإغريقي δημοκρατία، باللاتينية dēmokratía، ويعني (حكم الشعب) لنفسه، بالرغم من تناقض ذلك مع واقع ان النظام الأثيني المشار اليه منح حق الممارسة السياسية حصرياً لفئة النخبة من الرجال الأحرار واستَبعد النساء والعبيد من التمثيل والمشاركة.

في حقيقة الامر فإن الجميع سيستنتج بكل يسر ان استخدامي لمصطلح (اختراع العجلة) هو من قبيل الاستعارة البلاغية، فالعجلة تم اختراعها حوالي العام ٣،٠٠٠ قبل الميلاد، لكن اختراع او بالأحرى ترسيخ نظام الحكم الديموقراطي التعددي يمكن أن نرجع الفضل فيه الي عدة تجارب احدث زمانيا، من أهمها الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م، وهو وكغيره مما اجترحته البشرية محصلة لتراكم معارف وتجارب انسانيه طويلة وقاسية احيانا وهو وكما في مجالات أخرى آلية عملية لتحسين حياة الناس في الحياة الدنيا مبنية علي معطيات وطرق تحليل امبريقية صرفة بعيدا عن سطوة السلطة الدينية، والتي استمد منها نظام الحكم الملكي والارستقراطي عبر العصور سلطته المتوارثة غير القابلة للتشكيك أو المسائلة، ليتحول مصدر السلطات نتيجة لذلك والي الأبد من الذات الملكية التي تدعي تفويضا الهيا الي الشعب مباشرة.
في التجربة الفرنسية الرائدة فقد استغرق الطريق إلى تأسيس نظام الحكم الديموقراطي المستدام وبناء مؤسساته وسن نظمه وقوانينه واعرافه، والذي يمكن أن نحدده ببداية الجمهورية الثالثة 1870م، ما يفوق ال 80 عاما، ومئات آلاف الضحايا وعقود من عدم الاستقرار و المجازر البشعة والتحولات بين نظم حكم تجريبية مختلفة، ولتقريب فكرة التطور التدريجي لنظام الحكم الديموقراطي هذه يمكن اللجوء لمقارنته بالتطور في مجال حيوي آخر مثل الطبابة، فقبل اكتشاف نظم مثل التشخيص والفحص السريري والمختبري والعلاج بالتركيبات الكيميائية المجربة او الجراحة الدقيقة ظل الإنسان لمدى الالف السنوات، ومقابل ملايين الضحايا والالآم المروعة، يخرج بالتدريج من مرحلة العلاج بالسحر والادعية والرقية و الأعشاب ليصل الي ما نعيشه اليوم، فبغض النظر عن المعتقد الديني، والذي يظل حاجة انسانية ملحة للإجابة على الأسئلة الوجودية الكبري، يتوجه الجميع في حال اي طارئ صحي الي مؤسسة واحدة في كل العالم اسمها مستشفى يخضع فيها المريض لبروتوكول علاجي و منهجية تشخيص وعلاج موحدة, يديره أطباء استمدوا معرفتهم من عين المراجع، ويكمن الفارق الوحيد ربما وبعد ان يطمئن المعنيين على استقرار حال احبتهم النسبية في ان بعضهم يتجه الي المسجد والبعض الآخر للكنيسة او الكنيس اليهودي او المعبد الهندوسي او السيخي او البهائي لَطلب المغفرة والدعاء للاحبة، كآخر ملاذ لطلب الشفاء.

الخلاصة هي أن ما يحدث اليوم في المشهد السياسي السوداني هو أقرب للمريض بالملاريا الذي يتنكر لكل التجربة والمعارف الإنسانية المتراكمة ويصر علي ان يستعيد مشوار اكتشاف المنهج العلاجي الحديث من جديد، بداية بالسحر و الأدعية مرورا بالأعشاب واكتشاف نظرية الجرثومة ثم الميكروسكوب مرورا باكتشاف خصائص لحاء شجرة الكينا الذي يتطلب بجانب السفر إلى البيرو او بوليفيا تعلم لغة قبائل الكيشوا، ثم تطوير العلاج مختبريا واكتشاف اضراره سريريا ثم تطوير الكلوروكوين وصولا الي العلاج المتداول اليوم والمعروف ب Artemisinin-based combination , وهو مشوار طويل ومستحيل سيكلف هذا المريض الجاهل والعنيد حياته دون شك.

اذاً السؤال المركزي الملح الذي يفرض نفسه اليوم والمطروح هنا هو كم سيكلفنا اكتشاف العجلة من جديد ؟، هل سنستغرق نحن ايضا ٨٠ عاما لاستعادة مشوار تأسيس نظام حكم ديموقراطي مستدام؟.

من المفهوم ان يلجأ قائد الانقلاب البرهان الي قومه في نهر النيل مستقويا بالنعرة العنصرية كما اثبت في خطابه المسرب الأخير خلال أيام عيد الاضحي المبارك او نائبه قائد مليشيا الدعم السريع الي الإدارات الاهلية لصناعة حاضنة سياسية بدائية بديلة فكليهما ومعه جموع الانقلابيين من القيادات المليشوية الاثنية لا مصلحة لديهم في التأسيس لنظام حكم ديموقراطي تعددي بل يمثل ذلك تهديدا وجوديا لكياناتهم لذا فهم مستعدون لإعادتنا الي عصر الدويلات القبلية والسلطنات القديمة او ربما العصر الحجري, ومن المفهوم ايضا ان تستعدي بعض الأحزاب العقائدية من اقصي اليسار واليمين الأحزاب السياسية الأخرى كونها تحمل مشروعا شموليا احاديا يؤمن بامتلاكه للحقيقة المطلقة التي يجب ان تفرض علي الجميع بالقوة من اعلي السلطة ويرفض أي تشكيك فيها, لكن من غير المبرر او المفهوم ان يستمر من يرفعون شعار التحول المدني الديموقراطي في ترديد عين الخطاب العدائي ضد الأحزاب السياسية, فما الفارق بينهم ومريضنا العنيد الذي حاول اعادة اكتشاف الكينين من جديد ؟.

فالأحزاب السياسية, ومنذ بزوغ نظم الحكم الديموقراطية ظلت هي احد اهم اركانه ولا يمكن إدارة العملية السياسية في اطاره من دونها ولا بديل عملي لها مهما بدا واعدا وبراقا, هذا ما اثبتته التجربة الإنسانية العملية، وان كل الأصوات العالية التي تعمل علي التقليل من شانها واهميتها ودورها تعمل بوعي او بدونه علي استمرار الفراغ الذي سيمكّن القوي الشمولية من ملئه بكل سرور وان أي جهد يسعي الي استبدالها بمؤسسات اخري لقيادة العملية السياسية, ان كانت لجان مقاومة او تجمعات مهنية او غيرها هو في حقيقة الامر يجعل من الطريق الي الوصول الي الغاية النهائية أطول والكلفة البشرية والمادية التي ستدفع في سبيلها اعلي بكثير.

فرغم عقود من الخطاب المسموم المعادي للتحزب السياسي نتيجة لأربعة وخمسين عاما من الديكتاتورية والقمع وعقود من سيادة ايديولوجيات سياسية جذرية متطرفة في المشهد السياسي الا ان الحزب السياسي يبقي ببساطة هو عبارة عن جمع منظم من المواطنات والمواطنين المتفقين علي مبادئ وقيم وتصورات محددة للسياسات العامة التي تحقق مصالح الجمهور والتي تسعي للتغيير نحو الأفضل باستخدام الأدوات السياسية عبر الوصول إلى السلطة تحت مظلة دولة المواطنة والمؤسسات القومية وفي اطار نظام حكم تعددي يتم فيه تداول إدارة حكم الدولة سلميا بصفة دورية منتظمة اعتمادا علي نتائج التنافس الانتخابي والتي تمنح الشرعية المؤقتة و المستمدة من الشعب مباشرة عبر تفويضه لممثليه.

فرجاء اخي المواطن اختي المواطنة, وان كنت تسعي بجهدك المخلص للتغيير نحو الأفضل وتحويل السودان الي بلد حديث متقدم ومؤمنا حقا بالقيم الديموقراطية وتنشط في المجال السياسي باي شكل من الاشكال ان تتوقف فورا عن استعداء التحزب السياسي وشيطنة الأحزاب والتستر خلف واجهات بديلة وتوجه مباشرة اليوم وليس غدا الي الانضمام الي اقرب حزب الي قناعاتك للمساهمة في تطويره او ربما تأسيس حزب سياسي جديد بديل يتفوق نوعيا علي كل الكيانات الموجودة حاليا وذلك مبلغ المني, فالفارق بين السياسي المتحزب وغير المنتمي لمؤسسة حزبية, اذا استثنينا أي مميزات او معارف اومواهب اخري قد تحدد تفوق احدهم علي الاخر بصورة فردية, هو ان الأول يسهم بقدر او باخر في بناء اهم ركن من اركان نظام الحكم الديموقراطي الذي ننشده ونلهج بذكره ليلا ونهارا وبذا فهو يسهم بصورة اكثر فاعلية في التأسيس للمستقبل المنشود.

وكل عيد ثورة فرنسية وانتم بخير.
١٤ يوليو ٢٠٢٢م

تاريخ الخبر: 2022-07-14 15:22:33
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 49%
الأهمية: 67%

آخر الأخبار حول العالم

رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:13
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 63%

الشعباني: "سنواجه فريقا متمرسا في نهائي الكونفدرالية"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:27:21
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 60%

الشعباني: "سنواجه فريقا متمرسا في نهائي الكونفدرالية"

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:27:20
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 57%

سانشيز يتراجع عن قرار الاستقالة ويقرر البقاء في منصبه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:37
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 50%

سانشيز يتراجع عن قرار الاستقالة ويقرر البقاء في منصبه

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-29 15:26:31
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 53%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

تحميل تطبيق المنصة العربية