على الرغم من أن زيارة بايدن للمنطقة تنصب بالأساس على السعودية وعلى مناقشة أمن الطاقة؛ إلا أنه يمكن وصف هذه الزيارة بالشرق أوسطية التاريخية الفارقة، حيث سيلتقي بايدن بقادة دول مجلس التعاون ومصر والأردن والعراق. وهو ما يعني أن بايدن لا يضع نصب عينيه فقط مسألة الطاقة، بل سيأتي ليطوي صفحة أخطاء الولايات المتحدة في المنطقة التي دشنها الرئيس أوباما عبر سياسة التركيز المحدودة في شؤونها وقضاياها. عندما قررت إدارة أوباما تقليص تركيزها الاستراتيجي بشدة في المنطقة إثر الرهان على النفط الصخري، وصعود التحدي الصيني بقوة في آسيا. ونتج عن ذلك، تدهور العلاقات بين واشنطن وحلفائها التاريخيين في المنطقة وعلى رأسهم السعودية، وإبرام الاتفاق النووي مع إيران، وسقوط المنطقة في فوضى أمنية عارمة.. تعالت أصوات داخل مؤسسات صنع القرار الأميركي محذرة بشدة من هذه السياسة وتبعاتها الخطيرة، لا سيما الرهان على تخلي إيران عن برنامجها النووي وصواريخها الباليستية وسياستها التوسعية. كما حذرت أيضا من عودة الإرهاب الجهادي بقوة، وتغلغل الصين وروسيا في المنطقة.
وفيما يبدو أن التيار الرامي لتقليص التركيز الأميركي في المنطقة كان تأثيره طاغيا على دوائر صنع القرار الأميركي. إذ اتبع ترامب تقريبا نهج أوباما نفسه في المنطقة، عدا الاختلاف تجاه البرنامج النووي لإيران. كما بدا من حملة بايدن الانتخابية أنه على نهج أوباما وربما بشكل أكثر حدة تجاه المنطقة.
وحقيقة الأمر أن الحرب الأوكرانية ومن قبلها أزمة كورونا قد كانت كاشفة تماما لأخطاء أوباما الكارثية في المنطقة. أو لنقل لعمق عقلانية الأصوات الأميركية المؤيدة لاستمرار الانخراط القوي لواشنطن في المنطقة، نظرا لاستمرار أهمية المنطقة الحيوية للمصالح الحيوية للولايات المتحدة.
كشفت الحرب الأوكرانية لواشنطن جملة معطيات استراتيجية للمنطقة مؤثرة على نحو واسع على الاستراتيجية الأميركية في النظام الدولي، بل حتى على استقرار الولايات المتحدة ذاتها. ونذكر الاثنين الأهم منهما:
أولاً- الدور المفصلي لدول المنطقة وعلى رأسها السعودية في أمن الطاقة العالمي، وذلك من حيث التحكم في أسعار النفط وكمياته في السوق العالمي. فأزمة التضخم والغذاء العالمية الناجمة عن الحرب الأوكرانية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأمن الطاقة. وعلى صعيد آخر، تقف مسألة أمن الطاقة حائط سد منيعا أمام فعالية حقيقية للعقوبات الغربية على روسيا. وعليه أيضا كشفت الحرب الأوكرانية فشل الرهان من جهة على تراجع أهمية النفط في العالم، ومن جهة أخرى فشل الرهان على النفط الصخري الأميركي لسد احتياجات السوق العالمي.
ثانياً- كشفت الحرب الأوكرانية بشكل جلي عن عمق التحالف الروسي-الصيني-الإيراني في مواجهة التحالف الأميركي-الغربي في سياق حرب باردة على قيادة النظام الدولي. ومن هذا المنطلق، أدركت إدارة بايدن أهمية إعادة تحالفها القوي مع المنطقة وبالأخص مع دول المجلس ومصر للتصدي للتحالف المضاد. والغريب في الأمر أن سياسة تشكيل التحالفات مثلت أولوية لبايدن للتصدي للصين خصيصا. ومع ذلك، قد عزز تحالفه مع أوروبا، ودول شرق آسيا، ومع اليابان والهند وأستراليا في إطار تحالف «كواد الرباعي»، وأدار ظهره للمنطقة رغم علاقات الشراكة الاستراتيجية المتطورة التي أنشأتها الصين مع دول المنطقة.
نافلة القول، أدركت إدارة بايدن بعد الحرب الأوكرانية، مدى الأهمية الاستراتيجية للمنطقة وذلك من حيث أمن الطاقة والأمن البحري، والتصدي للهيمنة الصينية.. وغيرها. وعلى إثر ذلك، ثمة عودة قوية لدور أميركي دبلوماسي وعسكري في المنطقة. سيسهم على الأرجح في ترسيخ استقرار المنطقة، ولجم طموحات إيران التوسعية في منطقة الخليج.
* نقلا عن "القبس"
